مقالات سياسية

حرب المياه، حرب الأقوياء

لويس إقليمس

 

حرب المياه، حرب الأقوياء

بغداد، في 10 حزيران 2018

جفاف شط العرب ليس مأساة البصريين فحسب، بل هو كارثة سوف يبتلي بها كلّ العراقيين بعد انحسار المياه في أركانه وبروز أشباه جزر كشفت عن أراضي جديدة قد يسيل لها لعابُ مافيات الفساد السياسي والإداري في شبه الحكومات القائمة منذ 2003، لتستغلّها بمثابة مشاريع استثمارية كمولات تجارية ربما ماتزال تفتقدها البلاد، أو مواقع ترفيهية خاصة أو لتبنى عليها قصور لأمثال هؤلاء وغيرهم. فالطبقة السياسية التي فرزها التغيير الدراماتيكي في 2003، قد أنتجت طبقة سياسية موغلة في الفساد والطمع والنهب والسلب، من أمثال الذين لا يشبعون من ملء بطونهم بالسحت الحرام. فيما الشعب الساذج البائس يراوح في مكانه دون أن يتحرك أو يثور ليقلب الطاولة على الشلّة الحاكمة التي أثبتت الأيام فشلها في إدارة البلاد وخدمة العباد والحفاظ على الضرع والحجر. وفي اعتقادي، ستلحقها كوارث تالية تضرب عصب الحياة اليومية كما تشير الأحداث وتتحدث التقارير عن شحّة مياه ستضرب البلاد هذا الصيف والموسم القادم.

جرس الإنذار كان قد دقّ منذ سنين ولم يتجاوب معه أهل الاختصاص والمسؤولية، عندما تقاعست الحكومات المتتالية بعد التغيير ولم تحرّك ساكنًا في اتجاه تأمين حصة البلاد من المياه الطبيعية التي أسبغت السماءُ جزءًا كبيرًا منها خلال مواسم الفيضانات والأمطار التي ضربت بغزارة طولَ البلاد وعرضَها. وما يُؤسف له أن الوزارات المعنية لم تتحسب للاستفادة من الكميات الكبيرة المتساقطة من تلك الأمطار طيلة السنوات المنصرمة، فضاعت هدرًا عوض الاستفادة منها في عمليات خزن في السدود التي جاء بناؤُها على أيدي النظام السابق في فترات حرجة من حكمه، فيما الحكومات المتعاقبة منذ 2003م ولغاية اليوم لم تقوى حتى على صيانتها وتنظيف وكري الأنهار والترع والقنوات التي باتت تسكنها جثث متفسخة وأطنان من المخلفات والحجارة والقذارة من دون رقيب ولا حسيب.

حين استعراضنا للسدود التي أنشأها النظام السابق، سوف يجد المواطن العراقي المنصف حجم المسؤولية الوطنية التي كان عليها ذلك النظام وأزلامُه، فيتحسّر القارئ والسامع على تلك الإنجازات التي سُجّلت لصالحه ولصالح تاريخه الوطني، بعيدًا عن تصرفاته المستنكرة الأخرى. ففي الأعوام 1973 و1974 تم بناء سدي الأبيلة والاغري على التوالي. وبعدها بعامين أي في 1976 أنشئ سدّا الحسينية وسري. وشهد عام 1981، أي في فترة الحرب العراقية-الإيرانية المشؤومة، بناء سدّي حمرين والرطبة، وبعدها بعام سدّي الرحالية وأم الطرقات. وفي عام 1986 جاء سدّ حديثة والموصل، ليليه بعد عامين سد دهوك، ثم سدّ العظيم في 1999، وسدّ الأبيض في 2002. فيما بقي سدّا بادوش وبخمة مشروعين غير مكتملين منذ سنين. هذا إضافة إلى سدّي دوكان الذي تم إنشاؤُه في 1959 ودربنديخان في 1961. أي أنَّ عدد السدود المنجزة خلال الحرب العراقية-الإيرانية فقط كان سبع سدود، وسدّان خلال فترة الحصار المفروض على العراق من قبل التحالف الدولي المقيت. أما عدد السدود المنجزة من قبل الحكومات العراقية الفاشلة المتعاقبة منذ السقوط في 2003، فهي “صفر” ولا شيء غير تدمير البنى التحتية والإهمال لهذه المنشآت الخدمية.

لذا لا عجب أن تتحسّر العيون التي فيها شيءٌ من المسؤولية تجاه الوطن وأهله، لتبكي هذه الأيام مدرارًا جفافَ شط العرب والنهرين الخالدين “دجلة والفرات” وعددًا من روافد أخرى، لحدّ الترحم على منجزات النظام السابق بالرغم من مساوئه. ومن الغريب أن الغيرة قد ضربت زعماء سياسيين وألهمت

رؤساء كتل وأحزاب ومسؤولين في الجهاز التشريعي والتنفيذي كانوا حتى الأمس نيامًا وغافلين عن خطورة الأزمة، ليقفوا اليوم في طوابير الناصحين والمتفلسفين في كيفية شحذ همة الحكومة التي يشكلون جزءًا من تشكيلتها، من أجل درء الخطر المحدق بالبلاد وبالمحاصيل التي لحقها الجفاف أو تلك التي غادرتها المياه منذ أشهر أو سنين.

إنّ التطورات الأخيرة بعد تشغيل سد “أليسو” التركي وما سيلحقه من خطوات مُقدمة عليها الحكومة “العثمانية” القائمة ببناء سدّ أكبر لاحقًا، لا تنبئُ بخير. فحكومة أردوغان الإسلامية لها تفاهمات مع صانعي القرار بالمنطقة كي تبقي العراق دائرًا في أزمات متلاحقة. فبعد الخلاص من د*اع*ش والاعتراضات على تواجد قوات بلاده في شمال الموصل، يسعى لإلهاء الحكومة العراقية وانغماسها في أزمة المياه التي لا تقلّ خطورة عن د*اع*ش التي كان لتركيا دور مرسوم في دخولها العراق وفي دعمها لحين انقلابها عليه، ربما من حيث الظاهر او بسبب تفاهمات دولية عليا. لكنّ العتب لا يقع على تركيا وقيادتها. فقد سبق لرئيسها المتزمّت أن حذّر العراق مرارًا وتكرارًا من خطوات ستقدم عليها حكومتُه منذ عشر سنوات خلتْ، عندما أنذر ببرنامج طموح لبناء عدة سدود، ومنها هذا السد الضخم. لكنّ الحكومات العراقية المتعاقبة الفاشلة ومَن تولّى الوزارات المعنية بالثروة المائية لغاية الساعة لم يكن لها برامج واضحة للتحسّب لنتائج هذا السدّ ولا هيّأت المطلوب للحفاظ على الثروة المائية المتيسرة وإدامة زخمها أو إيجاد البدائل والدعائم ورسم الخطط وتنفيذها. أي أنه من حيث الواقع العملي، لم يتم اتخاذ خطوات جريئة وإيجابية للحدّ من المخاطر الكثيرة المحتملة التي كانت وماتزال تهدّد هذه الثروة الطبيعية التي حباها الله لشعب “شنعار” (العراق) منذ الأزل. فالنهران الخالدان اللذان يعتمدان بنسبة نصف إيراداتهما على تركيا، قد فقدا شيئًا كبيرًا من سمعتهما وتاريخهما عندما بدأت المياه بالانحسار عنهما سنة بعد أخرى. وها هما في طريقهما إلى مفارقة نضارتهما وفقدان أهميتهما ودخولهما سجلّ الأموات، إن لم تقدم الجهات المعنية على وضع حدود قاطعة وإجراءات آنية ومستقبلية فاعلة وفرض عقوبات صارمة على مَن تسبب بوصول الأمور إلى هذه النقطة الحرجة، سواء من المسؤولين عن ملف المياه في الداخل أو من دول الجوار التي استغلّت ضعف الحكومات الفاشلة وتمادي أقطابها ولهوهم في اقتناص المغانم والبحث عن حصة من الكعكة التي لم تنضب بعد. فما قامت به دول الجوار، ولاسيما تركيا وإيران والكويت مجتمعة، يستحق الردع بل يفرض على الحكومة الحالية والقادمة أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية التي تنصلت منها الحكومات المتعاقبة طيلة السنوات العجاف منذ تولّي حزب السلطة الحاكم إدارة سياسة البلاد بعد 2006.

من المعلوم أن العراق كدولة لا يمكنه فرض إرادته لإلغاء الاضرار الناتجة عن بناء السدود في منطقة المنبع، بل ما يستطيع فعله هو تقليل الاضرار من خلال رصد البرامج والخطط العملية وتوفير الأموال اللازمة لزيادة طاقة السدود الحالية وتنظيفها وكريها، والعمل على بناء سدود جديدة ترفد الطاقة الخزنية في مواسم الأمطار والفيضانات عوض تسرّب هذه الثروة وهدرها من دون الاستفادة منها. هذا إضافة إلى وضع استراتيجية وطنية طموحة للاستفادة من مشاريع متنامية في طول البلاد وعرضها عبر الاعتماد على حفر الآبار الارتوازية التي من شأنها رفد منظومة المياه والحفاظ على الطاقة الخزنية القائمة ومنعها من التراجع، وبهدف إتاحة الفرصة لاستمرار المشاريع الزراعية للفلاحين في المناطق الزراعية التي تعاني من شحة المياه. هنا، يمكن الاعتماد على العناصر الوطنية والخبرات القديمة ممّن استُبعدوا عن مراكز ومواقع إدارة المياه بسبب كفاءتهم واتهامهم بالانتماء إلى غير الأحزاب الحاكمة وإلى النظام السابق. فهذا الأخير، شئنا أم أبينا، كان قد خلق كوادر فنية وعلمية لا يُستهان بها في ملف إدارة المياه وتنظيم النواظم والسدود وزيادة كفاءة هذه الأخيرة على اسس علمية وفنية تشهد لهم المنابر في الداخل والخارج.

أما الحديث عن تدويل أزمة المياه بين العراق ودول الجوار، فليس ثمة ما يشجع التع-اط*ي فيه، لاسيّما وأن البلاد غارقة في مشاكلها، تمامًا كما عموم المنطقة. فلكل بلد همّه ولا مجال للتفاهمات والحوار. فحكم القوي هو القاضي ولن يكون سواه إلا قاضيًا وجلاّدًا، طالما أن القوى الكبرى المتحكمة بالمنطقة هي التي ترسم وتخطط وترفع وتنزل القائمين على الحكم. ألم تقطع الجارة إيران المياه عن نهر الزاب الصغير وقبله الكارون والوند؟ وهذا ما تفعله تركيا اليوم. وستبقى دول المنبع هي المتحكمة في مجاري المياه من أراضيها ولن يكون لدول المصب سوى الرضوخ لشروطها طالما بقيت فيها حكومات ضعيفة وسياسيون مهزوزون لا يفقهون شيئًا عن إدارة البلاد بحنكة وحكمة ملهمين بدافع الوطنية الغائبة عن أجنداتهم الشخصية والحزبية.

إن مشكلة العراق اليوم تكمن في شقين: مشكلة داخلية تتمثل كما نعلم في سوء إدارة الحكم، ومنه سوء إدارة ملف المياه بعد فقدان وخسارة الخبراء العاملين في وزارتي الزراعة والري (الموارد المائية حاليًا). فقد ساهمت الأزمة السياسية منذ السقوط في 2003 في تراجع حجم المساحات المزروعة في البلاد بسبب شحة الأمطار من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب الإهمال الذي تعرضت له المنشآت المائية ومنها السدود والأنهر والروافد والقنوات المختلفة التي كان يمكن أن تحوي خزينًا مائيًا جيدًا طيلة ايام السنة. هذا إذا زدنا على هذه المشاكل الطبيعية والتقنية، ما تعرضت له مجمل هذه المنشآت من هدر ومن تلويث ومن تجاوز ومن تقصير في اتخاذ إجراءات جادة لدعم القائم من هذه المنشآت وزيادتها. فما صُرف من أموال طائلة على هذه المنشآت مثل غيرها من المجالات الأخرى من ميزانية الدولة منذ 2003، كان يمكن أن يغيّر المعادلة بدل البقاء في دارة الخوف والقلق من مهزلة التصدع المحتمل لسد الموصل الذي جعل الأمريكان منه بعبعًا وغولًا يمكن أن يقضي على مدن ومساحات بأكملها. وهناك مَن ما يزال يرواح ضمن ذات الفكرة ولم يستطع تجاوزها. أما الخارجية، فهي تتعلق بدول الجوار التي استغلت ضعف شبه الدولة العراقية والمجاملات القائمة بهدف الحفاظ على مصالح ضيقة لبعض المسؤولين العراقيين. فبالرغم من حديث عن اتفاقات لحماية حصة الدول المتشاطئة، إلاّ أن هذه الاتفاقات تعتبر ضعيفة وغير ملزمة. وما يحتاجه العراق هو بروتوكولات صارمة تنظم بموجب قوانين دولية معمول بها وتقوم بتنظم جريان الماء من المنبع إلى المصب بحيث تُحفظ حصة كل بلد من دون مشكلة ولا استغلال للأوضاع.

وخلاصة الكلام والتحليل، أن المشكلة المفتعلة لسد الموصل من قبل الفيلق الأمريكي، كانت للمماطلة وفسح المجال للحليف التركي كي يمضي في مشاريعه التنموية في الاستزادة من بناء السدود على منبعي النهرين الخالدين وترك العراق في حالة من الخوف والرعب والقلق. وهذا يدخل أيضًا ضمن نظرية التآمر على العقلية العراقية الوطنية التي اختفت بسبب مثل هذه الأفعال وبسبب تهاون الساسة الجدد وابتعادهم عن معالجة باقي الأمور السياسية والاقتصادية بحيث أضحى العراق رهنًا لاستهلاك منتجات دول الجوار بسبب تراجع الصناعة والزراعة فيه، وهما عصب الحياة. وعندما يقضى على هذا العصب، فلن يقوم للبلاد قائمة. وهذا يا يريده المحتل ومَن يدخل في دائرته من الساسة ونواب الشعب ومَن يلف لفَّهم من المستفيدين من صفقات الاستيرادات التي لا نهاية لها والتي تستنفذ ميزانية البلاد وتفرغها بلا رحمة. وما مبيعات البنك المركزي من العملة الصعبة في مزاد العملة اليومي التي تتجاوز أحيانًا المائتي ملون دولار، سوى جزء يسيرٍ من هذه المؤامرة التي تجري بعلم الحكومة وأركان الدولة ورئاساتها الثلاث.

في الختام، لا بد من التنبه إلى الآثار الخطيرة التي تطال الإنسان العراقي وثروة البلاد الزراعية والحيوانية والصناعية على السواء. فهذه سيكون لها آثار جانبية كبيرة، منها تعرّض تركيبته السكانية إلى حركة معاكسة لا يُحمد عقباه في حال مغادرة السكان مناطق سكناهم بسبب شحة المياه. وفي اعتقادي أن للعراق أوراقًا وليس ورقة واحدة يمكنه كسب الرهان على ضوئها كي يخرج سالمًا من هذه الأزمة. فبقاؤُها يعني قطع الأرزاق والأعناق معًا.

تكمن في ورقة ضغط سياسية واقتصادية لحماية أهداف التأثير، التي تعمل بها دول جوار العراق.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!