الحوار الهاديء

تصريحات البطريرك الكاردينال ساكووردود المتابعين العشوائية

د. عبدالله مرقس رابي     

 

 

                           بات الجميع يعرفون الميزة الاساسية لهذا العصر،ميزة الاعلام المفتوح ،أي أصبح بأمكان كل فرد في المجتمع وبمختلف المستويات الدراسية ومن المختصين وغيرهم تلقي الاخبار وما يُكتب من مقالات وتحليلات في وسائل الاعلام، أو توفر الفرصة للجميع للكتابة والتحليل ،وأخص بالذكر في الصحافة الالكترونية. ومن متابعتي المستمرة لما هو مكتوب ويُكتب تبين أن الكثيرمن الكتابات أو الردود تفتقد الى المهنية والاسس المعتمدة في الاعلام، ولا ترقى الى مقالات أو تحليلات للنصوص يمكن الاستناد عليها والاستفادة منها.

 تغلب التفسيرات العاطفية على الموضوعية،والكاتب لايراها من منظوره الا حقائق.أما تأثراً بالايديولوجية السياسية أو المذهبية الدينية التي يتقيد الكاتب بتصوراتها الفكرية ولايمكن تجاوزها،أو تأثراً في طبيعة العلاقات التي سبق وحددت مواقف تنافرية مع الاخرين المعنيين.وهي كتابات لا تخلو من الانفعالات الشخصية والانحيازات والميول،فأصحابها مشدودي الاعصاب وتحت ضغط نفسي ،كأنما المقال أو الرد هو مناسبة أو وسيلة لتفريغ شحنات التوتر النفسي. لهذه الاسباب يوحي للقارىء أو المتابع  أن الردود الواردة على التصريحات أو المقالات لم تكن الا نتيجة القراءة السريعة لها تحت تأثير السياق النفسي المذكور،فتأتي غير مترابطة ودقيقة،بل متناقضة وناقصة ، حيث تتوقف على النص أو الكاتب، دون الاكتراث بالمؤثرات الخارجية والمتغيرات المحيطة بالكاتب في المجتمع الذي يعيش فيه،وما يرتبط بنمط رسالته الفكرية والمهنية.

ومن مؤشرات الضعف وعدم المهنية أيضا، افتقاد الكتاب الى الخبرة في استخدام المفاهيم في مكانها المناسب والخلط والغموض،ويرجع ذلك الى عدم الالمام بالمفاهيم التي تحدد معانيها العلوم الاجتماعية والانسانية لان أغلب المقالات المكتوبة والردود هي في السياقات المعرفية لها. مما يجعل الموضوع أو الرد بعيداً عن هدفه. وعليه الكتابة وتحليل النص يحتاجان الى الخبرة والدراية بالاسس المعتمدة والالمام بالميدان المعرفي الذي يخص الظاهرة المعنية. والمشكلة العديد من الكتاب والمعقبين يؤكدون على أنفسهم ،انهم يكتبون بموضوعية وحيادية ويقبلون الراي الاخر، ولكن أذا ما نُقدوا من الاخرين يثورون ثورة عاطفية عارمة جامحة.

أن تحليل النص أو الخطاب ،هو أحد المناهج الذي يستخدمه الباحثون الاجتماعيون في كتاباتهم ودراساتهم. فالخطاب يرتبط بالمجتمع،ومن وظائفه ،التواصل الاجتماعي وتغيير المواقف والاتجاهات، بمعنى أيصال رسالة الى المتلقي عن ظاهرة ما.ومن مميزاته أستخدام اللغة التي تتوافق أو تنسجم مع البيئة المجتمعية السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية.ولما كان الخطاب نصاً موجهاً في مجال فكري معين، فالقائمون على تحليله لابد من ألمامهم بقواعد التحليل ،فالمطلوب البحث في العلاقة بين بناء النص لغوياً والتفاعلات، وربطه بالبيئة المحيطة بكاتبه ومهنته وموقعه أو مكانته في المجتمع ومسؤلياته ،لكي يتسنى كشف الدوافع المؤثرة في تفكير الكاتب والهدف من الخطاب أو الرسالة الموجهة.وعليه نستشف وجود الفرق بين تصريحات السياسي ،او النقابي ،أو الرجل الديني أو الاكاديمي المختص أو الانسان العادي ،علاوة على تأثيرالعمر .فلغة الشباب تختلف عن الكهلة والمتقدمين في السن مثلا، وهكذا بالنسبة الى المستوى الدراسي والاختصاص ،كما نرى االاختلاف وفقاً للانتماء الطبقي، وأخيراً التأثير الناجم عن الحالة النفسية التي يخضع اليها الفرد.

تتأثر لغة الخطاب أو التصريحات عند البطريرك الكاردينال مار ساكو بالطبع بعدة عوامل،لعل أبرزها هي كونه رجلاً دينياً ورئيساً للكنيسة وشخصية عالمية لكونه كاردينالاً ومعروفاً على المستوى الدولي أضافة لما يتمتع به من المعرفة المتقدمة من جراء الدراسة والبحث والخبرة الحياتية بحكم العمر والعمل.هذه الميزات الشخصية التي يتميز بها تُحتم من غبطته ان ينطلق من المفاهيم التي تلقاها في تنشئنه الكهنوتية الدينية ومنسجمة مع مكانته التراتبية في الكنيسة محلياً وعالمياً.

ما الذي يستوجب أن يتضمن خطابه أو تصريحه؟ بالطبع سيتأثر محتوى الخطاب أو اللغة المستخدمة والمفاهيم بتلك الميزات المُشار اليها اعلاه.فهو يبحث عن العدالة والتضامن ومنح حقوق الافراد بغض النظر عن دينهم ،يُرسخ خطابه الروح الوطنية والانتماء الوطني ،أذ يدعو فيه الى تحقيق التوازن لحماية الانسان والوطن ولهذا تأتي تأكيداته على بناء دولة مدنية تضمن حقوق الجميع بالرغم من الاختلافات الانتمائية الدينية والاثنية والطبقية.يُطالب القضاء على الفساد،وضع الانسان المناسب في المكان المناسب عملياً أعتماداً على الكفاءة والقدرة وليس على أساس الانتماء السياسي والاثني والديني كما يحصل في العراق.يستنكر الاضطهادات والتمييز على اساس الهوية الدينية. وينبذ الخطاب الديني المتطرف الذي يثير النعرات الطائفية والحروب الدموية،ويدعو الى تجديد الخطاب الديني وفق منظومة القيم الحضارية لتسنجم مع الواقع .ويؤكد على دور التربية ومناهجها في الاصلاح والتغيير في العقلية البشرية.

وألفت أنتباه القارىء الى أن ما أشرت أليه مما يقدمُ أليه غبطته ليس تدخلا بالسياسة كما يفهما البعض بحسب مقاساتهم.هذه من صلب واجبات رجل الدين ،تحدث في كل مكان وزمان من العالم ،المتقدم والنامي والمتخلف بشكل وآخر.هذه هي صميم الرسالة المسيحية التي ينادي بها ويدعو اليها رجل الدين المسيحي حول العالم معتمداً على النصوص والتعاليم الانجيلية.

ينطلق البطريرك مار ساكو في تصريحاته وخطاباته من الواقع المجتمعي الذي يعيشه بكل تفاصيله وبتماس مباشر بحكم علاقاته الواسعة واتصالاته المباشرة مع أفراد المجتمع ،ليس كأنسان عادي ،وانما من موقع مسؤولية كبرى ،ذلك الموقع الذي يؤهله لان يكون مطلعاً على كل تفاصيل الاحداث في المجتمع العراقي سياسياً واجتماعياً ودينياً واقتصادياً وديمغرافياً وتربوياً ونفسياً.والاهم لابد وضع في تفسيراتنا لما يصرح به غبطته ،المرحلة الفكرية الدينية التي يعيشها المجتمع العراقي والمؤثرة في النظام القانوني والسياسي وكل مفاصل الحياة.

يعيش المجتمع العراقي في حالة لا تتميز بالاستقرار السياسي والقانوني والامني .تلك الحالة التي تستحدث بين فترة وأخرى متغيرات ومواقف اجتماعية ونفسية وسياسية ،لابد التع-اط*ي مع تلك المتغيرات.وعليه ان التبدل في مواقف البطريرك مار ساكو ولغة تصريحاته لا يدل على التناقضات ،او انه أستشف الحالة  مؤخرا أو ما شابه، انما تأتي وتتزامن مع المستجدات. فما تصريح أو مقال غبطته الاخير عن وضع المسيحيين في العراق المعنون( المسيحيون”مهاجرون مؤجلون”أمام موقف حكومي غائب)الا انعكاساً على المتغيرات والاحداث السريعة ،فهو رجل الكلمة وليس رجل السلطة والقوة في المجتمع .فلما توصل الى قناعة من ربط المتغيرات ،أن لا جدوى ولا نتيجة من الحكومات المتعاقبة في حماية حقوق العراقيين من المكون المسيحي بالرغم من الوعود المتكررة،جاءت لغة خطابه كما ورد في التصريح الذي كنت أفضل شخصياً، لو كان بصيغة بيان بدلاً من مقال لاصبح أكثر وقعاً على المتلقي،لان البيان له سياق رسمي ولغة رسمية موجه الى المعنيين. وبهذا المعنى أن تصريحاته تأتي مرحلية وكما ذكرت منسجمة مع واقع المتغيرات والاحداث .

بحكم أختصاصي وباحثاً ومتابعاً ،أرى أن لغة الخطاب في تصريحات مار ساكو تستند الى الاسس المنطقية  في بناء الخطاب أو التصريح أو المقال.بينما تتميز  الكثير من التحليلات أو التعقيبات على تلك التصريحات من قبل المهتمين من أبناء شعبنا بالعشوائية، أو كما سماها الكاتب القدير “عبدالاحد سليمان بولص ”  في مقالته الاخيرة عن نفس الموضوع والجديرة بالاهتمام( كتابات او ردود المتطفلين)،وكما سماهم أيضا الكاتب القدير” نذار عناي” في مقالته الاخيرة المتميزة( سرهوائيين). بمعنى أنها غير مدروسة ولا تعتمد على الاسس المنهجية في التحليل ،وتفتقد الى بناء منظومة فكرية تربط النص واللغة بما هو عليه الكاتب من مسؤلية تُحتم عليه أن يخاطب الاخرين بهكذا لغة،أو أفتقارهم للكشف عن الترابط بين النص والدوافع، وثم كيفية ربطه مع المتغيرات والمستجدات والواقع المعاش.

يريد البعض من غبطته أن يتحدث بمفاهيم أثنية (أو قومية باللغة السياسية) في حين هو مسؤول روحي ديني ويعيش ويطلق تصريحاته في مجتمع تسوده المفاهيم الدينية بكل مفاصل الحياة،فيتحتم عليه أن ينطلق من مفهوم”المكون المسيحي” لان المسيحيين في العراق هم مواطنون عراقيون ،ويدعو الى تنمية وترسيخ روح الانتماء الوطني للعراقيين كافة وبناء دولة قانونية مدنية تحقق العدالة للجميع.هل نريد من رجل الدين ان يتحدث بالقومية وبتسمية كما يحلم بها بعض المعقبين وفي حينها نفسهم يقولون ان البطريرك مار ساكو يتدخل بالسياسة؟!هل تعريف المضطهدين في العراق في ظل الاوضاع الدينية السائدة بمكون( الكلداني والاشوري والسرياني ) أو غيره سيكون أكثر وقعة من ( المكون المسيحي) على المتلقي؟ فغبطته ومن هم داخل العراق وحتى الاحزاب السياسية هم الادرى في كيفية تع-اط*ي الحكومة العراقية مع غير المسلمين. بالرغم من أن احزاب شعبنا تسعى لتعريفهم من قبل الحكومة بتسميتهم الاثنية ،الا ان العقلية الدينية في السياسة العراقية المستمدة من تعاليمهم نبقى عندهم “مسيحيون” ولا غير.

أعتقد آن الاوان على أبناء شعبنا الخروج من المدرسة الثقافية القومية التي فشلت في الخروج من الازمات المجتمعية والتحول الى الثقافة الوطنية. حيث تغير المفهوم القومي للانتماء العرقي منذ فترة طويلة  الى الانتماء القومي الوطني الجغرافي الذي يتضمن عدة أثنيات للتخلص من التقوقع القومي الضيق الى الوطني. وهذا يمارسه ويتفهمه البطريرك مار ساكو ،أي اننا مواطنون عراقيون حالنا حال جميع المكونات الاخرى وبعقلية نص خطابي للعقلية المتلقية وفقاً للمفاهيم الدينية السائدة وليست القومية. وان كان بعض من مسيحي العراق يعيشون أحلاماً لمعاودة أمجاد اجدادهم وتجديد امبراطوريات انقرضت قبل الاف السنين أسوة بما انقرضت اخرى غيرها حول العالم لو أفترضنا وجود علاقة مباشرة معهم،الا ان احلامهم هي احلام اليقظة مرتبطة بالعاطفة أكثر مما ترتبط بالمفهوم المنطقي،كما هي احلام اليقظة عند المراهق الذي يضع لنفسه مواصفات فتاة الاحلام ليقع في حبها.

وكثيرا ما يُنتقد غبطته على أنه ينفرد في أتخاذ قراراته ،أو التعبير عن مواقفه رسمياً دون اللجوء الى العمل الجماعي، ينعدم الربط عندهم بين المسالة وتلك الظروف المقترنة بأمكانيات أحداث عمل جماعي من دونه لافتقارهم الى العوامل التي تحول تحقيق ذلك .البطريرك مار ساكو يتحدث عن رعيته وعن مؤمني كنيسته ولا يعمم عندما يطرح مسائل تتعلق بالوجود المسيحي في العراق أنه يتحدث باسم مسؤولي الطوائف الاخرى أبدا. فهو مدركاً تداعيات التحدث بتلك الطريقة،ومتفهماً السياق الرسمي والتنظيمي بحيث لا يجوز تجاوزه.فعندما يطلق صرخته لانشاء لوبي لانقاض بلدة تلكيف المسيحية الكلدانية ،أو أية بلدة او قرية مسيحية كلدانية ،هي من منطلق مسؤليته التنظيمية الكنسية لابناء تلك البلدة مثلما ينطلق مسؤلي الكنيسة السريانية لصرخة لانقاض بلدة بغديدا او برطلة مثلا وفقاً لمسؤليتهم التنظيمية وهكذا بالنسبة للمسؤلين في الكنيسة الاشورية.ذلك لتجاوز الفوضى والانفلات والتداخلات، طالما الواقع يشير الى وجود طوائف مسيحية مختلفة.وما يعبر عنه تجاه المسيحيين بأستخدام مفهوم” المكون المسيحي” هو تعبيراً عن رأيه وشعوراً منه ما يخضع أليه كافة المسيحيين بمختلف طوائفهم.

هكذا بالنسبة الى موضوع الهجرة ،تأتي تعقيبات غير مدروسة أيضاً ،كأنما في يده عصا موسى أو الفانوس السحري ،يقول لمسؤلي الهجرة الدولية ارفض أو اقبل .في حين موقفه من الموضوع واضح ومتفهم له ولتداعياته ،ولهذا يؤكد على ألمه من الهجرة وما يتعرض له المهاجرون في دول الانتظار ،ويدرك تماماَ أن الهجرة قرار شخصي ومسؤلية فردية،وماهي عواملها الطاردة والجاذبة ،ولكن هل من المعقول ينادي وهو في موقع مسؤليته الدينية أن يقول: هاجروا واتركوا بلدكم وأنا أسهل لكم اجراءات تنقلكم؟أم أنه ينطلق من الوجه الاخر لينادي ويقول للحكومة العراقية،أضمنوا سلامة المسيحيين وحقوقهم لكي لا يهاجروا؟

اخوتي المهتمين والمعقبين ، النقد والتعبير عن الراي مكفول كحق من حقوق الانسان ،وعليه لا أقصد،ليس من حقك أن تعبر عن رأيك تجاه أي خطاب ولاي شخص ديني أوسياسي أوتربوي وغيرهم،انما الذي أدعو أليه التزام الاسس المنطقية للتعبير عن الرأي وطرح حجج منطقية لاقناع الاخر،وأن لا نخرج عن الموضوع مثلما ما أكد عليه الكاتب القدير “قيصر السناطي” في أحدى تعقيباته المهمة( بدلا أن ندعم موقف غبطة البطريرك الكاردينال مار ساكو حول ما جاء في مقالته ،بدأنا ندخل في مواضيع  أخرى لا علاقة بالموضوع كالتسمية والصراع على الكراسي).وفعلا هذا الذي جرى ويجري في كل مناسبة من قبل كتابنا المهتمين.لنبتعد عن التفسير العاطفي بكل أشكاله وبما فيه الاحكام المسبقة والعشوائية، وننهج التفسير المنطقي الذي يعتمد على قواعد مدروسة ومثبتة علمياً لكي نحقق نتائج أيجابية لخدمة الانسانية.

شكرا للقراء الافاضل 

رابط مقال الكاتب عبدالاحد سليمان بولص

http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,936026.0.html

رابط مقال الكاتب نذار عناي

http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!