مقالات عامة

بين سنغافورة والعراق، دروسٌ ومفارقات!

لويس إقليمس   

بغداد، في 13 شباط 2018

حكاية علي بابا والأربعين حرامي، وإنْ كانت من صنع الخيال، إلاّ أنها ذات أبعاد أخلاقية واجتماعية لا تخفى على أحد. بل إنّ كلّ مَن يمرّ بجانب الساحة التي تتوسط التمثال الرمز لهذه الحكاية وسط بغداد، يتذكر ما يجري في البلاد من كارثة تعيدنا إلى زمن حرامية بغداد في وصلة مظلمة من الدهور الماضية. إلاّ أنَّ ما يميّز دهاقنة السرقات التي تجري اليوم في أيام الفرهود العراقي المفتوح في عزّ الليل والنهار وأمام مسمع ومعرفة الدولة، حكومة وشعبًا وقضاءً ومراجع دينية وعلمية وأخرى اجتماعية، أنَّ هذه السرقات ليست بحاجة بعد إلى كلمة السرّ المعروفة “إفتحْ ياسمسمْ”، لأنّ خزائن الدولة وثروات البلاد وعقاراتها وممتلكات العباد أصبحت مشاعًا لمَن تسلّقَ السلطة بكلّ الوسائل المتاحة، “الشبه ديمقراطية” منها أو التي شاع فيه أشكال التزوير باستخدام شتى الفنون وأصناف الجنون.

“لي كوان يو”، سياسيّ من سنغافورة، يُعتبر باني هذه البلاد الصغيرة بعض الشيء، والتي لم يكن لها ذكرٌ في التاريخ بين الشعوب المعروفة، إلاّ بكونها من أفقر بلدان آسيا. لكنها بفضله، علتْ شأنًا وتسلّقت أعلى درجات الرقيّ في كل شيء، في البشر والحجر، في الاقتصاد والخدمات، في العلم والثقافة وما سواها من رقيّ وتطوّر إلاّ في الفساد. فقد قرّر هذا السياسيّ النزيه، مع الفريق الذي تولى سلطة الحكم الذاتي في البلاد ضمن الاتحاد الماليزي في 1959، حتى طردها من الاتحاد المذكور وإعلان الاستقلال في 1965، أن يغيّر وجه البلاد وينقلها من دولة نامية تقبع في حضن العالم الثالث إلى دولة متحضرة ومتقدمة في اقتصادها يُحسب لها حساب في مصاف الدول العظمى. كانت تركة البلاد ثقيلة آنذاك، لكنْ بفضل الحكومة النظيفة التي تولّت السلطة فيها، تمكنت من تنظيف البلاد من أدران التخلف والفساد، حيث البداية الحكيمة كانت من أعلى قمة الهرم، أي من المسؤولين في الدولة نزولاً للأدنى في القاعدة.

كانت نظرة “لي كوان يو” إلى الفساد، أنّ التنظيف الداخلي لمعالجة هذه الآفة يجب أن يبدأ من فوق الدرج أي من الأعلى، بالماء كي يجرف الأوساخ الطارئة في طريقه. وهذا كان غير ممكن إلاّ من خلال البدء من أعلى قمة هرم السلطة. وبذلك تمكنت حكومته من اق*ت*لاع الأوساخ الكبيرة بجرف مدمني الفساد وكشف الفاسدين فيها وإرسالهم إلى حيث ينبغي أن يكونوا في غياهب قنوات الصرف الصحي. لقد تيقّنَ هذا الرجل المعجزة من أنّ تنظيف الدار من القاعدة أي من صغار الفاسدين واللصوص، إنّما هو مضيعة للوقت والطاقة معًا، ولن يأتي بالنتيجة الحاسمة. فصغار اللصوص، إنّما يقتدون دومًا بالكبار الذين يديرون اللعبة ويوجهون اللاعبين الصغار ويحمون وعّاظ السلاطين ومَن على شاكلة هؤلاء من المتفذلكين والمنتفعين والمتزلفين والمنفذين لأجندات الأسياد والمعلّمين الكبار. وبذلك قطع دابر الفساد في بلاده، ولم يسلمْ من التحقيق والتدقيق كلُّ “حديثي النعمة” من الذين ظهرت عليهم مظاهر الثراء الفاحش فجأة. وبذلك وضع حدودًا ونهاية إعجازية لظاهرة الفساد واللصوصية، وكان منها مقولتَه: “حينما يسير اللصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إمّا النظام لصّ كبير أو الشعب غبي أكبر”. ويُقال إنّ “لي كوان يو”، استخدم في فترة حكمه أقصى أنواع الصرامة والمحاسبة بحق المقصّرين والسارقين والمرتشين لغاية تنظيف البلاد تمامًا من أمثالهم. وهناك قصص واقعية تستحق التذكير وأخرى مؤلمة حصلت لمَن سمح لنفسه بالانزلاق في فخاخ الفساد ومصادره. فمَن سوّلت له نفسه ممارسة رذيلة الفساد والرشوة، كانت له الدولة بأجمعها بالمرصاد، وكان مصيرُه السجن أو اختيار طريق الاختفاء والا*نت*حا*ر عوض العيش ذليلاً طيلة حياته. وهذه الأخيرة وغيرُها، تُظهر صحة ما ذهب إليه هذا السياسي الوطنيّ النزيه الناجح في سياسته المتوازنة من أجل صناعة دولة ذات هيبة وسيادة تتمتع إدارتُها السياسية بأقصى أنواع نظافة اليد ونزاهة الفكر ورجاحة العقل وجدارة العمل.

ما أشبه ما يمرّ به العراق اليوم، ليس منذ الغزو في 2003 فحسب، بل منذ نشأة الجمهورية العراقية التي قضت على المَلَكية النزيهة حيث كان فيها رجالات عظام يهتمون بأمر البلاد والشعب، بعيون ساهرة وعقول صاحية وآذان مصغية لصوت الشعب. فهل ننتظر أمثال هذا الرجل النزيه في يده، الرصين في عقله، القويّ في إرادته، العادل في محاسبته لكلّ أشكال الفساد في العراق؟ 

بين فترة وأخرى يطلع علينا مسؤولون في الدولة العراقية، ومنهم نواب الشعب الذين خذل معظمُهم مَن أصعدَهم من مواطنيهم إلى هذه السلطة التشريعية كي يكونوا صوتَهم الصادح ضد المظالم والفساد والباطل، وهم يتفاخرون بما أنجزوه من قرارات وقوانين تحفظ لهم ولمَن في السلطة امتيازات ليس لها مثيل في أرقى دول العالم التي تعتمد النزاهة والجدارة والعمل المثمر الجادّ لصالح الوطن والمواطن. فهل يُعقل أن يتبجّح بعض هؤلاء المسؤولين باستلامهم أكثر من مليار ومائتين وخمسين مليون دينار منذ دخولهم ما يُسمّى بالجمعية الوطنية ولغاية صدور قانون في 2012 يمنع تقاضي عدة رواتب أجازها البرلمان؟ ناهيك عن امتيازات شرائح عديدة أخرى تتقاضى مرتبات خيالية متعددة أجازتها مثل هذه القوانين التعسفية التي أثقلت كاهل الميزانية العراقية في كلّ سنة مالية منذ السقوط الدراماتيكي والغزو الطائش في 2003.

لقد بات البلد كعكة كبيرة لمَن يشتهي انتشال ما يمكنه من فرهود في ظلّ غياب الضمير والحياء وقوة السلطة القضائية منها والتنفيذية على السواء. فبالرغم ممّا يصدر من تصريحات بيّنة تدلي بحقائق تتحدث عن فساد وسرقات عامة وعن تلاعب وتزوير في صفقات وعقود، إلاّ أنّ ما يقابلُها من إرادة فاعلة ومن نوايا صادقة للوقوف بحزم إزاء هذه الألاعيب والجرائم، لا يرقى لمستوى المسؤولية والمواطنة الصادقة. فطالما بقيت ذاتُ الرؤوس المشبوهة تدير العملية السياسية من دون رقيب قوي، صادق، نزيه، صاحب قرار لا يخشى لومة لائم بقول كلمة الحق بوجه الظلم والشرّ والخطأ، ومن دون تردّد أو خوف على مصالحه الشخصية والطائفية والفئوية والحزبية، فالبلاد لن يحدث فيها تغيير ولا إصلاحٌ يُذكر. وها هي ذي ذاتُ الكتل السياسية الفئوية وذات الأحزاب الدينية والطائفية، تعيد تشكيلاتها ولكنْ بأسماء رنانة مدنية جديدة، ظاهرُها زيف الملبس الديمقراطي المدني وباطنُها حيتانٌ دينيّة مصرّةٌ للسير في ذات الطريق المخصص لها لابتلاع الأسماك الصغيرة ولفلفة القائم من تمثيل باقي المكوّنات بحجة الأغلبية السياسية التي استأثرت بالسلطة وهي غير جديرة بإدارة دفة البلاد، بحسب ما كشفته حقائق ووقائع الولايات المتتالية لحزب السلطة الذي لا يختلف عمّن سبقه بوصف حكمه بالدكتاتورية.

هؤلاء أيضًا قالوها: “أخذناها ولن نفرّط بها أو نتنازل عنها”، وكأنها أضحت نظامًا توريثيًّا لكلّ مَن تسمح له الظروف بمسك زمام السلطة في مرحلة طائشة من الزمن. فممّا لا شكّ فيه، أنّ الأحزاب وشبه القيادات السياسية والحزبية والكتلوية التي وُهبت السلطة من قبل الغازي الأمريكي، قد أثبتت فشلها الذريع ولم تخض غمار بناء ما حصل من تدمير بسبب سوء الإدارة وضعف المواطنة وضياع الضمير والرغبة الواضحة بنيل كلّ من هذه وهؤلاء حصته من الكعكة. أمّا مصالح الوطن والشعب المقهور، فهذه ليست من الأولويات. فما هو قائم من بنى تحتية ومن شوارع وطرق ومبانٍ وقوانين وتشريعات مدنية، في أغلبها يعود الفضل فيها إلى حقبة النظام السابق، ولا فضل للنظام القائم الحالي إلا بتدمير ما بناه وحققه نظام الدكتاتورية البائدة.

فهل نعوّل على نتائج مؤتمر الكويت المخيّبة لإعادة الإعمار، ودروسًا إيجابية باتجاه التغيير نحو الأفضل، أم سيسيل لعابُ المتسلطين على رقاب الشعب رابعة وخامسة وعاشرة على مبالغ الاستثمار وعلى مشاريع القروض المتزايدة الإضافية  التي ستزيد من تكبيل البلاد تحت الوصاية الدولية؟ أم ننتظر صحوة جديدة متوثبة للشعب المظلوم الذي يزداد فقرًا مقابل مَن ازدياد الشلّة الحاكمة ثراءً واحتكارًا وامتيازات على حساب الأول؟

         أمّا أنا فأقول، ما كان معوجًّا في أساسه، لن تقوى المناشدات والانتقادات على إصلاحه. وحده، هو الشعب المتوثب الشجاع الواعي الذي بإمكانه تولّي زمام الإصلاح بتغيير الوجوه الفاسدة والزعماء المترفين المترهلين الذين سرقوا ثروات البلاد واستهانوا بعقلية العباد ورهنوا الشعب البسيط الطيّب بفتاوى وحكايات عندما جعلوا من الدّين والطائفة والعمامة والشرع مادة لكسب التعاطف لجانبهم بغطاء ديني وطائفي ومناطقيّ. والردّ على ذلك، لن يكون إلاّ بصحوة جادة من النخب لتطالب بإصلاح السلطة من القمّة وبالتغيير الضروري بدءً بأعلى الهرم وليس من القاعدة، تمامًا كما فعل زعيم سنغافورة الوطني، “لي كوان يو”. فمَن هو السعيد المنتظَر ليتولى المهمّة في العراق الصابر الجريح؟ حتمًا، حسب الوقائع الأخيرة والاصطفافات في التحالفات الانتخابية، لن تتوفر فرص كبيرة لرئيس الوزراء الحالي المتردّد الذي خيّب آمال الشعب والنخب حينما لم يستغلّ كلّ الدعم الذي تلقاه من الشعب الذي نادى “شلع قلع” و”باسم الدين باكونا الحرامية”، ولا من التفويض الصريح الذي أولته إياه المرجعية الدينية الرشيدة، ولا من دعاء الثكالى والمهجَّرين والنازحين الذين أمَّلوا بإيجاد حلولٍ لمظالمهم على أيديه وبفضل قدراته وصلاحياته. لكنه وعدَ ولمْ يفي، قالَ ولمْ ينفّذ، شهَرَ تهديده ولمْ يفعّله، رفع إصبَعَه مرارًا فخفضَّه نزولاً لمصالح شركاء العملية السياسية. فالقائد لن يكون قائدًا إلاّ إذا فعل ما قال، ووفى بما وعد، وحاسبَ مَن أخطأ، واستبعد المنافق من حاشيته والكاذب من داره والمتملّق من مجلسه. والعبرة بمن اعتبر.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!