الحوار الهاديء

بمقالين مستقلين: الجانب الوحدوي للايمان والخطاب المعاصر

المونسنيور نويل فرمان السناطي

المونسنيور نويل فرمان السناطي

هذه محاولة تحليلية وتقريرية متواضعة، لعلها عندي الأولى من نوعها: أجمع فيها بين طروحات كاتبين، بمقاليهما من موقعين الكترونيين مستقلين:الموقع البطريركي الكلداني، وموقع عنكاوا. كل منهما كتب مستقلا عن الاخر، معلقا على مناسبة منعزلة عن الاخرى، ولكنهما من حيث ما جاءني من أصداء عن التفات القراء إليهما، عبرا عن أنسجام الرؤية فيما كتبا. رأيان متناغمان في الخط المسيحي الوحدوي ومتفقان على أهمية الخطاب الديني المفهوم ولغته المتداولة محليا. هذه بعض مقاربات بين المقالين.

مناسبتان مستقلتان

فلقد كتب مؤخرا الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكلدان، في الموقع البطريركي الكلداني مقالا بعنوان:

“الكنائسُ الشرقيّة بحاجةٍ الى نسمةٍ من الهواءِ النقيّ، بمناسبة اسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين” (الرابط في نهاية المقال). وهي المناسبة التي تحتفل بها الكنائس سنويا في 18-25 كانون الثاني. وهي مناسبة أطلقها منذ مطلع القرن العشرين، القسيس الانكليكاني واتسن سنة 1907، بعد ان استفحلت تجزؤات تلك الجماعات، ووجه المبادرة لمسيحيي العالم، بقسميهم الرسوليين الارثوذكسي والكاثوليكي، ومعهم العدد الكبير من مسميات الجماعات الكنسية للاصلاح.

وكتب الدكتور عبد الله رابي، متخصص في علم الاجتماع، مقاله بعنوان:

“الاختزال الثقافي، في ضوء بيان بطاركة الكنائس الشرقية” (الرابط أدناه). تناول المقال (البيان الختامي الصادر عن اللقاء الأول لبطاركة الكنائس ذات التراث السرياني في المقر البطريركي للسريان الأرثوذكس) والذي تم عقده قبل عدة أسابيع في لبنان/ العطشانة في 16/12/2022.

ومن اللافت للنظر أن البطريرك والدكتور، وكل من جانبه، صب فكرهما نحو الوحدة.

مقال البطريرك عن الوحدة في جانبها الروحي المسكوني مع تطلعات إلى تجاوز “الخلافات الجوهرية، وتخوين الاخر، واتهام الآخر بالانشقاق“، مؤكدا بالأحرى أن “الوحدة هي قبول الاختلافات واحترامها بالتواضع المتبادل واللقاء الاخوي، والحوار المسؤول، والتفاهم وتبادل الخبرات، والعمل معاً انطلاقاً من الانجيل، وبنضج إيماني وروحي في خدمة الانسان، فتُضيء الكنائس مجتمعاتنا المتنوعة بصلاتها وشهادة المحبة والتزامها.” مضيفا: “بالمحبة يُصبحُ كلُّ شيء جميلاَ، الشهادة فيما بيننا تُبنى ايمانيّاً على علاقة الثالوث، الواحد في الجوهر والثالوث (المتنوع) في تجليّاته. هذه العلاقة هي أساس إيماننا بالله المحبة، وبالجار الأخ…“

ومقال المتخصص الانثروبولجي، جاء، مستهلا بالاشادة بطموحات الوحدة، وأنه لا يرى، “بأن هناك من يعترض لوحدة الكنائس عقائدياً“ فإنه قدم التوصيف عن الارث السرياني الليتورجي، في البيان المذكور، على أنه اختزال ثقافي، مبينا، وبمراجع علمية، ترد في متن المقال أهمية “التمييز بين الارث والحضارة واللغة.” فأشار إلى ما جاء في البيان من “اختزال لثقافة اثنيات متعددة في ثقافة واحدة على إثر استخدام غير الواضح والمربك للمفاهيم، وعدم التمييز بينها، إضافة لمسألة التعميم… والتناقضات بين الواقع وما جاء في البيان. وأشار د. رابي على تلك الخصوصيات، في جملة عوامل، من نمطين من العناصر يتغيران زمانياً ومكانياً في المجتمعات البشرية بحسب التفسير الاجتماعي، لتشمل الجوانب المادية من حضارة المجتمع، منها ما يشمل الحضارة المدنية، ومنها يأتي تحت مصطلح الثقافة، بكونها “مجموعة القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية والدينية والأفكار واللغة والمواقف التي يكتسبها الفرد منذ الولادة وتؤثر فيه وتتحول الى اللاشعور، وتصقل شخصيته ليتوافق سلوكه ومواقفه مع أسلوب الحياة او طريقة الحياة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وهي جزء مهم واساسي من عناصر الحضارة التي تمثل الشق المعنوي.” وإزاء تميّز هذه الخصوصيات بثراء من التنوّع، نوّه الباحث ” بضرورة مراعاة الخصوصيات الثقافية لاتباع بعض الكنائس من ثم دعا إلى “التمييز بين الوحدة العقائدية، وبين الانصهار في قالب اثني واحد.“

وبمفردات آخرى، بشأن هذه النقطة تحديداً فإن البطريرك الكاردينال ساكو، في معرض مقاله عن الوحدة والهواجس الانصهارية قال: “ان الوحدة لا تعني إلغاء خصوصية الكنائس في إرثها الروحي والثقافي واللاهوتي والليتورجي والموسيقي والتنظيمي.“

البطريرك وتحليل معوقات الوحدة، بين التأثر بالبيئة، والانغلاق على الماضي

وكان البطريرك قد استهلّ مقاله بتحليل لسبب التأثر الذي تقع تحت وطأته كنائس المنطقة، حيث “ان أغلبية سكان بلدان الشرق الأوسط هم مسلمون محافظون متمسكون بفكرة أن الممارسات والتشريعات الدينية صالحة لكلّ زمان ومكان، وليس جوهر (رسالة) الدين فقط، ويرفضون الحداثة في المجال الديني بالرغم من وجود دعوات لعدد من التنويريين المسلمين الى مراجعة نقدية للخطاب الديني بسبب التحول الثقافي والاجتماعي.”

هذا التأثر في البئية الدينية المحيطة والغالبة، أدى إلى شعور المسيحي بأنه مقيد، بحبال مثل “صعوبة البحث عن المعنى في النصوص الدينية والتقاليد، والخوف من التحديث وما يعقبها من إنتقادات، وتعدد الكنائس والتنافس فيما بينها، وتداخل الجانب القومي بالجانب الكنسي، واللغة“

الباحث د. رابي، بين اللغة الطقسية الفصحى واللغة المتداولة

وفيما يخص اللغة وجانب تقييدات المسيحيين بشأنها، يتم التطرق إلى هذا الموضوع في مقال د. عبد الله رابي، الذي ينشر بحوثه في عدد من المواقع، وقد سبق للموقع البطريركي وان نشر مقالاته. فتعليقا على مضمون البيان آنف الذكر، أشار إلى التباين في الارث اللغوي لمجموعات المسيحيين بحسب مناطقهم، قال:

“ان اللغة التي ظهرت منذ ألاف السنين واستخدمتها شعوب بلاد النهرين هي الاكدية بعد السومرية وبكتابة مسمارية واستخدمها سكان بلاد بابل وغالبيتهم العظمى من الكلدان في منطقة السهل الجنوبي وضفاف خليج الكلدي (العربي حاليا)، علماً أن بعض الباحثين، يعتبرونها اللغة الكلدانية، كما استخدمها الاشوريون في المنطقة الشمالية منها بلهجة مختلفة. وكما هو معروف تاريخياً ان موطن الاراميين هي البلاد المعروفة الان (سوريا).” واستخلص د. رابي بشأن اللغة الفصحى المستخدمة في الطقوس، أن هناك “دليل واضح جداً هو عدم إدراك المؤمنين لها الا بعد ترجمتها الى اللغتين الكلدانية والاشورية المعاصرتين او الى العربية وبدأ اجدادنا بترجمتها منذ أواخر القرن التاسع عشر الى لغتنا الحالية.”

وعبر عن رأيه في أنه “لو تم أداء الصلوات باللغة الكلدانية او الاشورية المعاصرتين وبالعربية للمتحدثين بها لأدت وظيفتها في فهم وادراك الصلاة… وأداء الطقوس والصلوات والأنشطة الكنسية الروحانية الأخرى بلغتنا المحكية بعد الترجمة“.

البطريرك ساكو: بين المفهوم المسيحي العقائدي المسكوني، وعدم حصر الكنيسة بالقومية

وفي مجال الوحدة العقائدية للكنائس، يعبر البطريرك عن أسفه بشأن التلكؤ الذي تشهده، متسائلا بشأن اتفاقات عقائدية سابقة بين الكنائس الرسولية بالقول: هل البيانات الكريستولوجية الموقعة بين معظم رؤساء الكنائس الشرقية كانت عن قناعة أم كانت مجاملةً وحِبراً على الورق؟ ويعزو التقصير في هذا الجانب إلى كونه السبب بأن “لم تتقدم العلاقات الى الأمام! وأن في الانقسام لا مستقبل لنا، في الوحدة والسير معاً ضمان بقائنا.“ ودعا مار لويس بشأن مسيحيي المنطقة إلى أنه:

“على رؤساء الكنائس التغلب على الخلافات غير الجوهرية والتعصب والخوف للدفاع عن الوجود المسيحي في الشرق، بمواقف موحدة وخطة مدروسة…“

وفي إشارة إلى المسؤولية عن الوحدة وتمييزها عن الخط القومي، يشخص الكاردينال لويس ساكو بأن “نزعة التعصب قويّة عند البعض، فلا يرون وجهاً آخر للكنيسة غير القوميّة وأن هذا تشويه لطبيعة الكنيسة ورسالتها الجامعة، مستشهدا بقول يسوع المسيح في أنجيل مرقس 16/15: اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجمَعَ، وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا” .

محور اللغة المحلية المتداولة والمفهومة

وهنا يلتقي الكاتبان ايضا حول اللغة المتداولة، إذ يؤكد البطريرك الكاردينال، من جانبه، ما أورده الباحث د. رابي، حول الصلاة باللغة المفهومة محليا للمؤمنين. فيحذر مار لويس من أن:

“خطر الانغلاق على الماضي، يغيّب دور الكنيسة. وأن خبرة الأجدادعِبَرٌ وليست قيودا.“مع تأكيده على “ضرورة الحفاظ على جذور الكنيسة المؤثر في قلب العالم من خلال دفاعها عن القيم الأساسية كالحق والعدل والحرية، وترجمة إرثها الى لغة يفهمها العالم المعاصر.“

وبعد،

جميل أن تتكلم الرئاسة الدينية بحس راعوي يخاطب بتفهّم الانسان المعاصر. وجميل أن يسلط العلماني الأكاديمي الضوء على نوع الخطاب الموجه لمؤمني اليوم، بنفس إيماني ومن زاوية النظرة الاجتماعية المتخصصة. وهذه امنية ان مثل هذه الطروحات للدكتور رابي بما تتسم به من استقلالية تخصصية ومتناغمة مع الشان المسيحي الكلداني، أن تجد صداها في محيطنا الكنسي. مثلما نجد فكر البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو، وطروحاته ذات الشأن المتصل تجد صداها في مواقع علمانية مثل موقع عنكاوا.

خلاصتي عن خبرة الكنيسة المارونية.

في ختام هذه المقاربة، تحاصرني فكرة للتعبير عنها، وهي التنويه بأن الكنيسة المارونية، بزت الكنيسة الكاثوليكية، التي، منذ مطلع التسعينيات، تخلت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، عن اللغة الطقسية اللاتينية. فالكنيسة المارونية، لم تزل تعتز بالارث السرياني، وتشجع على مؤتمرات الإرث السريان في لبنان والشام مع انها تقام بالطبع باللغة العربية. بل زادت الكنيسة الشقيقة، وحافظت على مفردات في القداس، على الأقل: رتبة الكلام الجوهري، وعبارات طقسية مثل قدوس الله (قاديشات الوهو) باللغة الليتورجية لكنيسة انطاكيا السريانية. ومن المفارقة بشأن تطور الحاجة الى اللغة المحلية السائدة، تسترعي الكنيسة المارونية، الانتباه بشأن خبرتها الاخرى، إذ أذعنت إلى خيار تعليم العربية إلى الاجيال الجديدة في كنائسها في بلاد الانتشار!!! وذلك لفهم طقوسها (بالعربية) والمشاركة فيها، إضافة الى الصلاة باللغات المحلية. وكل هذا لم يقف حائلا تجاه حضورها للقاء أقيم بالعربية عن الارث السرياني لبطاركة المنطقة. وجاءت ترجمة طقوسهم بأصالة وتمييز.

ومسألة زحف الاحتياج التعبيري إلى لغات أخرى غير اللغة الاصلية، نستذكر ما أورده استاذنا في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي، للآباء الدومنيكان، في بحر الستينيات، في مادة اللغة العربية، والاب الراحل جبرائيل جرخي. إذ أشار بتندّر أن الرئيس الراحل أحمد بن بلا، كان في غداة الاستقلال الجزائري، وفي خطاباته التي كان يلقيها على شعبه بالفرنسية، كان يعبربالفرنسية عن غيرته القومية وانتمائه العربي بالقول: “نو ليزآراب” (وترجمة ذلك بالعربية (نحن العرب).

Nous les Arabes

وما زالت منذ منتصف القرن الفائت، ولحد الان، اللغة المتداولة لدى الاشقاء الجزائريين، هي لغة فولتير، إلى جانب لغة المطبخ، عن اكلات الطاجين والكوسكوس، وضمن تداولهم في بعض وسائل الاعلام، للغة محلية دارجة لا يفهمها سوى المحيط المغاربي في المنطقة. وتنحسر لديهم أكثر فأكثر نخبة قراء وكتاب لغة الضاد.

نحو لغة كلدانية محكية

على أن كنائسنا المتجذرة في بلاد بين النهرين، مدعوة، إذا سمح لي بالرأي من هذا المنبر، إلى تقديم طقوسها إلى جانب اي لغة محلية، بلغة أصيلة مفهومة، وذلك ايضا بترويج لغة محكية للكلدانية تتبناها مختلف اللهجات المناطقية، إلى جانب تعليم شمامستها، في دراستهم للكلدانية، ان يتعلموها ليس قراءة فحسب بل في فهم معانيها ايضا.

رابط مقال غبطة البطريرك مار لويس ساكو

saint-adday.com/?p=52198

رابط مقال الدكتور عبد الله مرقس رابي:

ankawa.com/forum/index.php/topic,1040871.0.html

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!