الحوار الهاديء

القطاع الخاص نافذة معطلة ومجهولة الهوية

لويس إقليمس       

 

بغداد، في 14 شباط 2019

منذ أن دخل العراق في نفق الحروب المهلكة في بداية الثمانينات حصرًا، وصولاً إلى احتلاله الغاشم في 2003، وهو يتراجع في سلسلة مراتبه العالمية في كلّ شيء، بما في ذلك خسارتُه لهويته العربية وتبعيته للجارة إيران، ما أفقده بريقه الحضاري والاجتماعي والأخلاقي والخدمي إلى جانب تخلّفه التربوي والعلمي اللذين يُعدّان عماد البناء البشري والوطني لأية دولة أو أمة سوية. وقد استكمل هذا التراجع بوضع العقبات المتواصلة والمتعمدة في أكثرها أمام الصناعة الوطنية والمحلية بقطاعيها العام والخاص. ففي الوقت الذي تُرك فيه القطاع العام أسيرًا لمصالح الصراع السياسي المحاصصي من دون أن تمتد إليه يدُ الإدامة والتأهيل لأسباب لم تعد مجهولة، فقد جرى خنق طموحات أرباب العمل في القطاع الخاص إلى جهة محاصرتهم ومحاربتهم بحجة استسهال الاستهلاك للبضاعة الأجنبية عملاً بمقولة “مغنّي الحي لا يُطرب”. فكلّ ما يأتي من الخارج حسن ولا أفضل منه مقارنة مع المحلّي الصنع بحسب قادة النظام الجديد للتجارة مع بلدان الخارج. وهكذا تراجعت الصناعة العراقية واهتزّ المنتج الوطني والمحلي بعد أن أصبح لا ينافس الأجنبي بسبب غزارة الأخير ورخصه حتى لو كان خارج نطاق الجودة والصلاحية.

غداة توقيع الاتفاقية التجارية والضرائبية بين العراق والأردن، قامت الدنيا ولم تقعد من جانب نفر رأى فيها انتقاصًا وإساءة للمنتج الوطني والمحلّي. وعلى الرغم من الثغرات العديدة التي وردت في هذه الاتفاقية بخصوص موضوع الحمائية المطلوبة تجاه المنتج المحلّي، إلاّ أنّ البعض الآخر رأى فيها معادلة مطلوبة في هذا الظرف الحالي نتيجة الإخفاقات في تحقيق منتج محلّي ووطنيّ يتمتع بالجودة والمنافسة. وكان ينبغي عدم التغافل أيضًا، بكون العديد من مفردات البضاعة القادمة من الجارة الأردن، يحققها أرباب عمل عراقيون اضطرّتهم ظروف التغيير والتهديد والمحاربة على الرزق والحياة لإقامة أنشطتهم الصناعية والإنتاجية في هذا البلد الآمن الذي استغلّ هذه الطاقات لتنميته ونماء سكانه والقادمين إليه لجوءً واستثمارًا.

         في ظلّ هذه الفوضى غير المقبولة والملامة ليس من القطاع الخاص فحسب بل من كل مواطن عراقي حريص على سمعة بلاده ورفعتها وتقدمها، لا بدّ من وقفة حازمة وصادقة لإعادة الحياة إلى هذا القطاع وأخذ دوره في العملية الصناعية والإنتاجية. إذ لا ينبغي الانتظار متى تأتيه الفرصة واستمرار التحكم بقراره أو بالأحرى بالسماح له بأخذ دوره الريادي في العملية الإنتاجية الوطنية وإسدال الستار على تغييبه قسرًا وظلمًا من قبل الدخلاء والأغراب على البلاد وعلى سياساته الاقتصادية والصناعية والإنتاجية. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يجمع عليه عمومُ رجال الأعمال من أصحاب المشاريع والمعامل والمصانع شبه المتوقفة في الماكنة الصناعية والإنتاجية منذ حقبة الحصار الغاشم وعلى زمن الاحتلال في 2003 ولغاية الساعة لطرحه على أنفسهم أولاً وعلى المعنيين في الحكومات العراقية المتعاقبة، وبالذات في حكومة رئيس الوزراء الحالي عبد المهدي لكونه رجلاً اقتصاديًا. فممّا لا شكّ فيه أنَّ معظم النخب الصناعية التي خبرت دوران الحركة الإنتاجية وأهميتها في إدارة اقتصاد البلاد ما تزال تحلم بعودة الماكنة الصناعية والإنتاجية إلى عهدها السابق مستفيدة من خبرات وإبداعات السنوات المتراكمة التي شهدت لجودة المنتج الوطني والمحلّي على السواء حيث كان التنافس على أشدّه لتقديم الأفضل والذي كان يعدّ مفخرة للسوق العراقية المحلية بل ويتفوق على مثيله الأجنبي في الاستهلاك والتصدير.

قبل كلّ شيء وقبل التعريج على هوية القطاع الخاص والموقف الصعب الذي يقع فيه منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وعقب سنوات مريرة من الحصار امتدت سحابة حقبة التسعينات من القرن الماضي، يقتضي من أصحاب الشأن الحقيقيين أن يرفعوا أصواتهم عاليًا من دون مجاملة لأحد أو لجهة نافذة في دهاليز الدولة التي غزتها رؤوس ماكرة ومتمرّسة بالكذب والنفاق حين التطرّق إلى شأن القطاع الخاص وهمومه وتطلعاته. فالحقوق لم تتحصل يومًا على طبق من ذهب ولم تُمنح مجانًا ومن دون شقّ الأنفس وبالجهود المضنية والمثابرة للوصول إلى الهدف الشريف وهو إعادة ما دُمّر في بناء الدولة من بشر وحجر. لقد طال التدمير كلّ مفاصل الحياة العراقية منذ السقوط الدراماتيكي بحجة القضاء على نظام دكتاتوري وتخليص البلاد والعباد من سوء حكم رأس النظام البائد وأعوانه التي لا نشكّ بوجود ثغرات كبيرة في سلوكياته وإدارته. لكنّ من المؤسف أن واقع الحال بعد التغيير قد كشف زيف كل تلك التبريرات وبشهادة الغازي الأمريكي وأتباعه من الخانعين لأجنداته ومصالحه القومية الخاصة التي تناغمت مع مصالح وأطماع مَن سال لعابُه لحكم السلطة وما فيها من مالٍ وجاه وامتيازات وفرهود وخمط ونهب على حساب الشعب الصاغر الخانع المقهور ظلمًا وتعسّفًا.

أمام هذه الحال المزرية التي أفقدت البلاد زهو نسيجها الاجتماعي وأوقفت ماكنتها الصناعية والإنتاجية التي كان الأهلون في الداخل والأصدقاء في الخارج يتغنون بها ويعدّونها مفخرة ليس للوطن فحسب بل لدول الجوار وللمنطقة بأسرها، لا بدّ من مراجعة جادة للقوانين وتكثيف الجهود لتأخذ الأمور مسارها الصحيح، ليس بالعاطفة والتهور والمقاطعة غير المجدية، بل بالحكمة والمثابرة وتحسين المنتج ليقبل المنافسة مع المستورد. فقد شهدت صناعتنا الوطنية في أزمنة الازدهار والتنمية في سالف الحقب وبفضل روادها من المجتهدين وأصحاب الخبرة ما عجزت عنه دول المنطقة ودول الجوار في بعض مفرداتها سواء في المجال التصنيعي المدني الاستهلاكي أو العسكري. وهذا لم يكن ليحصل من دون وجود قاعدة قوية رصينة وصحيحة في مجال الصناعة والتصنيع المرتكزة على العلوم والتقنيات والمهارات التي تشهد للمصنّع والمنتج العراقي على السواء.

من البديهي إذا توفرت الإرادة الصادقة للنخب من رجال الأعمال بإيجاد حلول شافية لمعاناتهم وتغييبهم قسرًا في مسألة تقرير مصير العجلة الصناعية والإنتاجية، فلا بدّ لهم من ترصين خطوات فاعلة وناضجة في هذا الاتجاه من أجل الوصول إلى بداية الطموح والانطلاق نحو نافذة أوسع لاستعادة الطاقة العراقية في إعادة عجلة التصنيع والإنتاج بزخمها المعهود. ومثل هذه الخطوة تتطلب منذ الآن زجّ طاقات رجال الإعمال في صراع الانتخابات البرلمانية ومجالس المحافظات المقبلة وتحفيز النقابات وأية مؤسسات لها باع في التأثير على القرارات التي تعيق تطور القطاعين التصنيعي والإنتاجي في البلاد. فمن شأن هذه الخطوة أن تنتج نخبة قيادية تستطيع التأثير على شكل القرارات المتخذة في تقرير مصير مصالح القطاع الخاص وفي نوع التوجهات لإدارة السياسة الاقتصادية في البلد على أفضل وجه. هذا إضافة إلى الفعاليات الاقتصادية المتنوعة في مجال الاعلام المرئي والمقروء والمسموع وفي الوسائل المختلفة من أشكال التواصل الاجتماعي عبر فضح ما يجري من تدمير منظَّم للبنية التحتية للقطاع الخاص عبر تهميشه ومواصلة إغلاق المعامل والمصانع التي كلفتهم أموالاً طائلة بسبب استمرار إغراق البلاد بسلع استهلاكية يمكن للقطاع الخاص إنتاج الكثير منها، أو هو ينتجها فعلاً ولكن من دون أن تحظى بحمائية وطنية من لدن الجهات الحكومية المعنية. ولا يمكن تجاهل أشكال الاحتجاجات الأخرى المتمثلة بالتظاهر في مواجهة ما يصدر من الجانب الحكومي ضدّ المنتج المحلّي سواء عبر إثارة الشارع أو أصحاب الشأن في المطالبة بحقهم الوطني في تعزيز قدرات مصانعهم ومنتجاتهم الزراعية في المواسم الكثيرة. ولا بأس باعتصامات نخبوية تقود مثل هذه التظاهرات والاحتجاجات السلمية، طالما كفلها الدستور وضمن القانون. هذا إذا أضفنا الانتقاد الموجَّه لأصحاب بعض شركات القطاع الخاص في الكشف عن الطاقة الإنتاجية لمعاملهم لأسباب تبقى مجهولة وغير مقبولة وبما لا يساعد الجهة الداعمة للإنتاج الوطني والمتمثلة باتحاد الصناعات العراقي الحريص بالدفاع عنهم من أجل حماية إنتاجهم بالطرق الأصولية ووفق اللوائح والتعليمات، حتى لو تطلّب ذلك التدخل لدى المحاكم المختصة.

في اعتقادي أنّ لقاء دولة رئيس الوزراء مع نخبة من رجال الأعمال من القطاع الخاص يوم الأربعاء 13 شباط الحالي، يمكن عدُّه نقطة الانطلاق لبداية التحدّي للعقبات التي تقف عثرة أمام إعادة دوران عجلة الماكنة الإنتاجية للقطاع الخاص وتطوّر مفاصله الاستثمارية والتعاقدية وعودة الحياة لحضوره الفاعل في مشاريع بناء الدولة عبر توسيع نشاطه الاقتصادي المتنوع وإسهامه برفد الاقتصاد الوطني بما يتيسر له من قدرات وطاقات وخبرات. نأمل أن تشهد الأسابيع القادمة وضع التوصيات والاستشارات والمناقشات المستفيضة موضع التنفيذ وعدم إضاعة الفرصة المتاحة مع الحكومة الجديدة التي يبدو أنها عازمة على فتح الحوار مع أرباب العمل وتوأمته مع القطاع الحكومي كي يأتي بثمر أكثر من أجل إنعاش اقتصاد السوق العراقي ورفد البلاد بعطاء إنتاجيّ وصناعي وطنيين، ما سيساهم في الحفاظ على جزء من العملة الصعبة التي تخرج من البلاد يوميًا بملايين الدولارات سواءً بفواتير صحيحة أو مزوّرة غير مسيطَر عليها.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!