مقالات دينية

صلاة الصمت

صلاة الصمت

بقلم / وردا إسحاق قلّو                    

قال رجل روحاني ( سَكِّت لِسانِكَ لكي يتكَلم قلبُك ، وسَّكِت قلبُك لكي يتكَلم الله )

      الصلاة في حياتنا المسيحية كثيرة الأنواع نرفعها إلى السماء بطريقة نطق الكلمات أو بغير نطق لكي نعبّر من خلالها ما نريد أن نقوله لمن نصلي إليه ، لكن هناك صلاة أخرى عقلية نستطيع أن نُصَليها بدون ألفاظ ، كأننا نتأمل في جزء من حياة يسوع أو أقواله أو في الآيات التي اجترحها في أثناء حياته الأرضية ، أو عندما نتأمل في الحياة في السماء حيث كنزنا الدائم . وهذا النوع من الصلاة يحتاج إلى جو صلاتي خاص لكي ننقطع عن محيطنا كلياً لأجل التركيز ولتوجيه أذهاننا نحو الله الذي نصلي إليه ، فنحتاج إلى عُزلة قد تطول عدة ساعات نقضيها في خلوة روحية ندخل من خلالها في مرحلة جهادية نتخلى عن ضجيج العالم وشروره لكي نعيش في العكوف والتأمل في كلام الله ووصاياه ، هكذا تبدأ النفس بالإخلاد إلى الإختلاء ، وإلى السكينة وهما أمران تشعر بهما النفس بعمق من جراء الرضى والسلام اللذين تنعم بهما . ومعها تأتي مرحلة الإمتحان التي فيها يختبر الإنسان مستوى إتضاعه ، والإتضاع سينقله إلى مرحلة التحول الحاسم التي فيها يختبر المرء أوقاتاً من الإختلاء قد تتعدى قواه وجهوده الخاصة فيشعر بمحبة الله ، أو يقترب الله منه فيشعر به كمن يتحرك بقربه في ظلام دامس ، وكما وصفت الحالة القديسة تريزيا الكبيرة الأفيلية . فعندما يشعرالمرء بقرب الله منه سينتقل إلى منعطف آخر فيه يموت عن ذاته ، وعن العالم ليدخل في حياة أخرى في المسيح الله الذي مات من أجله ، وكل هذا التحول يحدث بقوة الروح القدس العامل في المؤمن . وعليه أن يستمر في ذلك التأمل بصمت لكي يتخطى إلى الحياة الجديدة التي غايتها رؤية الله وجهاً لوجه وهذا يحتاج إلى عذاب القلب والفكر لكي يتحرر من كل ما يربطه بهذا العالم فيتسنى له التقدم نحو العمق . الروح القدس يأتي ليستقر في تلك النفس العطشانة التي تحبه وتناديه وتحفظ وصاياه فيشعر أولاً في السلام الداخلي وبالهدوء الذي يخيّم عليه في تلك اللحظات وبعدها سيدخل في مراحل أخرى كثيرة ، وعليه أن يستمرلأجل الوصول إلى المرحلة الأخيرة ، وهي مرحلة الصداقة مع الله واللقاء به شخصياً ، بل للألتصاق به ، وهذا أفضل بحسب الآية ( أما أنا فخير لي الإلتصاق بالرب ) ” مز 73 ”  وكما حدث لأبينا يعقوب . يمر الإنسان في مرحلة أخرى أثناء الإختلاء قد لايحسب لها حساباً ، وهي مرحلة إنخطاف الروح إلى عوالم أخرى كما حدث ليوحنا الرائي ولبولس الرسول ولقديسين كثيرين في مختلف العقود المسيحية .

   مريم العذراء تكلمت يوم البشارة مع الملاك لتقول ( نعم ) لله . ومنذ تلك اللحظة لزمت الصمت لتعبد حضور الله فيها . طوال هذا السّر لم تتفوه بكلمة واحدة ، بل كانت تتأمل في كل تلك الأشياء وتحفظها في قلبها . أما خطيبها مار يوسف فكان مدرسة الصمت والإصغاء لصوت الله ، أتبع مثال مريم لهذا لا نجد له أي كلام في الأنجيل ، هو ذلك القديس الذي لم يناقش ما أراده الله منه ، بل أطاع وصايا الله المنقولة له عن طريق الملاك بصمت ومن دون إعتراض أو إبداء الرأي الخاص .  حضور إبن الله بيننا بعد تجسده كان ينبغي لكل من يزوره أن ينظر إليه بصمت ويعبده ويؤمن به بصمت أيضاً وكما فعله الرعاة والمجوس .

     كما نقول ،  الصلاة الصامتة ليست هروباً من الصلوات الأخرى ، بل هي الأرتقاء إلى ما هو أسمى وفيها يتجاوز المُصَلي أخطاء اللسان ، لأن ( كثرة الكلام لا تخلو من المعصية ) وبالصمت يتجاوزالإنسان ذاته ليحصل إلى المزيد من الفضائل الروحية يخدم بها إخوته البشر بشكل أفضل وأسخى بعد أن يحصل على السلام الداخلي وفي المحبة فيحيا في عمق كل التطويبات . فهذه الصلاة ليست غاية في ذاتها ، إنما تهدف إلى إعداد النفس لرؤية الله وهو في هذا العالم ، أو رؤية عرشه السماوي . كان القديس يوحنا الذهبي الفم يمارس السكون ليرفع قلبه نحو السماء ، فيختبر من خلالها التحدث مع الله .

   صلاة الصمت تحتاج إلى جهد شخصي مستمر لكي لا يتراجع الإنسان نحو الخلف ، أو يعيش في يبوسة روحية ، وإن شعر بذلك الهبوط ، فعليه أن ينهض ليتقدم في ممارسة صلاته الصامتة ويولي لها الإعتبار اللائق . وفي هذه الصلاة سيكتشف المُصلّي أشعاءً سماوياً ينير حياته في وسط الظلمات التي يجتازها أثناء هذا الإختبار للبلوغ إلى الإلفة الصميمية مع الله . الأخت الراهبة أليزابيت الثالوث ( 1880 -1906 ) اكتشفت أيضاً طريق ( الصمت الداخلي الذي يتيح للإنسان أن يلتقي مع الله في الداخل ) وأن يسجد له في أعماق ذاته ، وقد وضعت هذه الأخت صلاة التقدمة للثالوث الأقدس ، بدأتها بالقول ( يا إلهي ، الثالوث الذي أسجد له ، ساعدني لكي أنسى نفسي تماماً فأستقر فيك  … أيها الدائم أمضي بي كل دقيقة إلى أبعد في سر عمقك ) .

       الصلاة الصامتة ليست مختصة للنساك والمتصوفين المنعزلين في المغاور والأديرة ، بل لكل إنسان يستطيع العكوف في رياضات روحية عميقة لوحده مع الله ليقترن به فيصبح معه كياناً واحداً ، وكما يقول الرسول بولس ( أن من أقترن بالرب ، فقد صار وأياه روحاً واحداً ) ” 1 قور 17: 6 ” . هكذا سيشعر الإنسان بحضور الله في حياته فيسير معه وبه بعزم وثبات وثقة ، وهدف كل مؤمن هو الأتحاد مع الله لينصهر في ناره فيتحد به ليصبح له ، وهذا الأتحاد لا يجري إلا في الصمت ، وفي عمق كيان الإنسان ، وهذا الأتحاد المغيّر هو قران روحي بين الله والنفس البشرية . وهكذا من خلال الصلاة الصامتة يبدأ بالخروج من الذات أولاً ، أي موت الإنسان عن ذاته ليبدأ بأن يحيى حياة جديدة مع يسوع بقوة الروح القدس ، ومن ثم يبدأ الحوار الداخلي مع الله ، إنه حوار المحبة ، نشعر به عندما تتجلى قدرة الله فينا ، وهو يساعدنا لكي نستمر في طريقنا من أجل الوصول إليه والأتحاد به . قليلون هم الذين يبلغون قمة الحياة التصوفية للوصول إلى إكتشاف عالم جديد ، هو عالم النفس وأعماقه السحيقة ومن ثم الحصول على الثمار الروحية ورؤية ما لا تسمع به أذن أو رأته عين أو ما يدركه عقل إنسان . فبالروح نكشف أعماق الأسرار المخفية .

للمزيد عن هذا الموضوع طالع مقالنا السابق ( مار يوسف مدرسة الصمت والإصغاء ) أنقر  الرابط :

https://www.ishtartv.com/viewarticle,92307.html

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!