مقالات دينية

التعبد للعذراء مريم … ولكن !

التعبد للعذراء مريم … ولكن !

بقلم / وردا إسحاق قلّو

                                         

    مريم هي تلك المراة التي رآها يوحنا ، فقال ( … إمرأة ملتحفةً بالشمس والقمر تحت قدميها ، على رأسها إكليل من أثني عشر كوكباً ) ” رؤ 1:12 ” .

   لعذراء مريم دور ومكانة خاصة عند المؤمنين في الكنيسة الرسولية ( الكاثوليكية والأرثوذكسية ) يعطون لها دوراً في الكنيسة كأم الله ، وأم المؤمنين . ومركزاً هاماً في حياتهم الروحية . فلمريم دور في الكنيسة كأم وشفيعة ، فهي متحدة مع المسيح ومرتبطة به في عمل الخلاص منذ حبلها البتولي وحتى موت إبنها على الصليب ، لهذا تكرمها الكنيسة المقدسة بسبب ارتباطها بإبنها ، ولشمولها في مخطط الله لخلاص البشر . فهل نعبد العذراء مع المسيح ؟

   أولاً نقول : ما معنى العبادة ، وما أنواعها ؟ في البداية علينا أن نفهم معنى العبادة ، ولمن نعبد ؟

      العبادة بمفهومها المطلق هي لله وحده ولا شريك له في العبادة والسجود . وحسب الوصية الأولى من وصايا الله العشرة في الشريعة التي تؤكد عبادة الله وحده . إذاً ماذا نعني بالعبادة للعذراء ؟ في الكثيرمن كتب الصلوات الخاصة بمريم في الكنيسة المقدسة نفهم معنى التعبد من خلال مصطلحين باللغة اللاتينية . الأول

Latrea

والذي يعني تعبداً بشكل العبادة الخاصة بالله وحده . أما النوع الثاني للتعبد فهو

Doulia

ويقصد به تعبد تكريمي يعطى للقديسين من أجل التكريم فقط لا للعبادة بمعنى السجود  . فمصطلح التعبد للعذراء جاء بسبب يكمن في الضعف اللغوي أو عدم وجود كلام مرادف في العربية إلى ما موجود في  اللغة اللاتينية ، أي هناك ضعف في الترجمة الحرفية للمصطلح الأصلي . . كما نقول أن العذراء ليست بإله ، فطريقة تعبدها ليست من نوع

 بل من نوع Latrea

 ولكن بشكل أرفع وأرقى من جميع القديسين لكونها أم المسيح الإله ، لذلك خصص لها لقب Doulia

 وهو أعلى مركزاً أو سمواً ، لكنه يحدد في ضمن مرتبة التكريم فقط . فوجود مصطلح التعبد   للعذراء مريم ليس بالخطأ لأنه تعبد تكريمي ليس إلا .  Hyper Doulia

   أما الذي يعظم العذراء عن جهل أكثر ما يريده الكتاب المقدس والكنيسة فيجعلها بتعبده هي الهدف والغاية فأنه يهينها لأنه سيحولها إلى إله ، وكل من يعبد أو يسجد إلى غير الله فسيحول ذلك الإله إلى صنم وهذا لا يليق بأم الله التي أتضعت لتكون ( أمة للرب ) . فمريم ليست هي النور ، بل هي تعكس النور الصادر من مصدره إلينا . مصدر النور هو ابنها وبدونه لا يكون للعذراء أي دور ، وعلى نقيض هذا يوجد هناك جماعات من خارج الكنيسة الرسولية تقلل جداً من أهمية ودور العذراء في الكنيسة فتجعلها مجرد وعاء جاء من خلاله الرب ، أما الوعاء بحد ذاته لم يبقى له قيمة أو دور في الكنيسة ، فتقليلهم من دور العذراء هو إهانة للرب يسوع لعدم تكريمهم لأمه فهو إذاً مخالفة لتعليم الأنجيل المقدس الذي جاء في كلام العذراء مريم نفسها ودوِّنَ في الأنجيل ، قالت ( فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال ) ” لو 1: 48 “. كذلك نقول ، الله أعلن دور العذراء في كتابه المقدس منذ السفر الأول في العهد القديم بطريقة رمزية ، ومنذ سقوط الأبوين ، فنقرأ ( وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك وبين نسلها فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه ) ” تك 15:3″ . وهذه المرأة الذي تحدث عنها الكتاب هي مريم العذراء ، وفي نفس السفر نقرأ في الأصحاح السابع عن فلك نوح الذي حوى نوح ونسله ، هكذا أمنا البتول هي الفلك الجديد الذي حوى ابن الله واعطته للبشرية جمعاء لأجل خلاصهم من طو*فا*ن الخطيئة . وهناك مثال آخر رمزي وهو تابوت العهد الذي يمثل العذراء . فتابوت العهد كان يحتوي الوصايا وعصا هارون والقليل من المن وهذه كانت رمزاً للمسيح ، فكان لذلك التابوت مكانة عالية والأحترامٍ كبير عند الشعب اليهودي وكان ذلك التابوت رمزاً لتابوت العهد الجديد ( مريم ) التي احتوت لاهوت الله الحقيقي في أحشائها وليس الرمز، فكم يتحتم لأبناء العهد الجديد تكريم العذراء الممتلئة نعمة والتي حملت مسيح الرب .

  أما الأناجيل فكتبت عنها الكثير منذ الحبل الإلهي حتى الصليب ، وعند الصليب سلمها يسوع ليوحنا الحبيب ، بل لنا جميعاً بشخص يوحنا لكي تكون أم المؤمنين والكنيسة جمعاء ، ولكي يكون لها دوراً مهماً في الكنيسة ، لهذا نطلب منها الصلاة والتشفع عند ابنها الإله .  

  عبادة المؤمنين للعذراء راسخة في قلوبهم وأذهانهم منذ القرون المسيحية الأولى فيقدمون لها الصلوات ، ويطلبون منها الشفاعة ، ويستغيثون بها في ضيقاتهم ، أو لأجل نيل إحتياجاتهم الضرورية كشفائهم من الأمراض أو لأنقاذهم من المصاعب والضيقات ، وكذلك في إحتياجاتهم الروحية . وكان للعذراء كأم لأبنائها والمملوءة من النعم قوّة لمد العون لأبنائها ، وكذلك لحمايتهم من المخاطر والمعاثر ، ولهذا دفع المؤمنين إلى الثقة بها وعبادتها في قلوبهم ، وكذلك تكريمهم لها لكي يطبقوا ما دونه الوحي لهم في الأنجيل لتكريمها لهذا انتشرت الصلوات والمدائح الموجهة لها ، وخصصوا في أعيادها ، ورسموا لها أيقونات وصور . وسميت كنائس وأديرة باسمها ، ونظمت جمعيات وأخويات ومزارات في مختلف أنحاء العالم بإسمها ، كما خصص لها صلاة خاصة وهي ( مسبحة الوردية ) وقد انضم إلى صفوف المتعبدين لها قوافل المصلين المؤمنين الذين يكلون حياتهم لتدبير الخالق أولاً ولعنايتها ثانياً .

المؤمن الحقيقي الذي يعبد الله عبادة حقيقية عليه أن يتخذ مريم نموذجاً له في العبادة مسلماً ذاته لأرادة الله ليستطيع أن يقول مع العذراء ( أن القدير صنع لي عظائم ) .

   هناك تيارات في المسيحية تختلف عن الآخرين في عبادتهم للعذراء . فمنهم يريد أن يجعل منها خليقة من جبلةٍ تختلف عن جبلتنا ، فيضعوها إلى جنب ابنها للتوسط لديه على غرار الوساطات البشرية الضيقة . ففي هذا التيار مغالاة في العبادة لأنه يرتكب أخطاء في الممارسات ، والعقيدة فمنهم من يعتقد بأن لولاها لم يأتي المسيح فتعظم بشكل لا يليق بالعذراء المتضعة التي اطلقت على نفسها ( أمة الرب ) دون أن يدركوا منزلتها الروحية . أما التيار الثاني والبارز أكثر من التيارات الأخرى فهو الأيمان الكاثوليكي ، فتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني يجعل من العذراء ابنة من بني البشر تقف إلى جانبهم ومعهم تؤمن وتترجى وتحب ، وبذلك تكون مثالاً لأبناء الكنيسة . ونظراً إلى صفاء إيمانها بالله وحبها له وما وصفها الكتاب المقدس بعهديه ، فأنه من الحمق الأعتراض على تكريمها من قبل بعض الطوائف ، وإزالة دورها في الكنيسة كأم وعدم التعبير عن فضائلها والإيمان بشفاعتها علماً أنها للمؤمن قوة ومشجع وأم في غربة هذا العالم لهذا تشجع الكنيسة الكاثوليكية أبنائها على التعبد للعذراء وتكريمها ، إنها الأم التي تدل الطريق لأبنائها وتوجههم إلى أبنها المخلص ، وهكذا تُساهم دائماً في توجيههم ، وتقول لهم ( أعملوا ما يقوله لكم إبني في الأنجيل ) .

أعترفت الكنيسة الرسولية منذ القرون الأولى بأقرارها قانون الإيمان النيقي الذي يذّكرهم بأن المسيح الإله تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء فعلينا أن نكون لها أبناء أصلاء مقتدين بإيمانها ، ونثق بها لكي تسدد خطانا نحو أبنها الفادي . إنها النجمة التي تقودنا إلى الهدف كالتي رافقت المجوس نحو طفلها الإله في بيت لحم . الكنيسة الأرثوذكسية موقفها من العذراء نابع أيضاً من تقليد وأصول مشتركة مع أبناء الكنيسة الكاثوليكية لأنهما قبل الأنفصال كانوا مجمعين ومتفقين معاً على تكريم أم الله . وقد أغنوا أبناء الكنائس الشرقية بمؤلفاتهم ومواعظهم لتوضيح العقيدة المريمية ، ومن الشرق الأرثوذكسي انطلقت معظم الأعياد المريمية ونظمت لها أناشيد وصلوات وعبادات تبدو فيها منزلة مريم سامية فوق الخلائق كلها ، فلا يغامرهم الشك في بتوليتها ، وأمومتها لإبن الله  وبقداستها وشفاعتها ، وقد تجلى تقديرهم لهذه الأم من خلال الأيقونات الجميلة التي تزين واجهة كنائسهم ومعابدهم وبيوتهم وصدور رعاتهم الأساقفة . فكل مؤمن بالمسيح مدعو دعوة صريحة ليعيش في كنف العذراء مريم وفي جوّها الروحي . أما أخوتنا البروتستانت فموقفهم مختلف تماماً ولا يخلو من التناقض لأننا إذا عدنا إلى مارتن لوثر، فلوثركان يكرم العذراء ، وكذلك لوناريوس وكلفن ، فكان لهما كتابات تحمل إعترافات صريحة بأمومة مريم الإلهية بطهارتها وبرائتها فكلفن أعتبرها مثالاً للإيمان والرجاء والمحبة . غير أن هذا الموقف تغير فيما بعد عند أتباعهم إستناداً إلى مبدأ عام انطلقت منه البروتستانتية وهو رفض كل ما لم يذكر في الكتاب المقدس صراحةً . وهذا يعني بأن الكنيسة لا سلطة لها على تفسير الكتاب ، وعلى تحديد العقائد ، كما ألغوا التقليد الموروث من الرسل الأطهار الذين كتبوا الأناجيل والرسائل . هكذا ألغوا دور العذراء في الكنيسة وأهملوا كل تعبد وتكريم لها . غير أن بعض الجماعات منهم شرعت في العودة إلى جذور المسيحية المتعمقة في درس الكتاب المقدس وفي مؤلفات آباء الكنيسة الأولين فأخذت تعي دور العذراء وتعيد إليها تلك المكانة التي كانت لها قديماً والتي تحق لها بكل جدارة وهذه علامة من علامات فعل الروح القدس في ذوي الأرادة الصالحة الذين يبحثون عن الحقيقة بتجرد وإخلاص .

كما نقول للمرتدين عن أصول الكنيسة وينابيعها بأن التعبد للعذراء ليس مزاحمة تهدف إلى حجب وجه الرب يسوع ودوره الأساسي في حياة المؤمن المسيحي . قد يحدث ذلك فعلاً لبعض الجهلاء الذين يغالون في عبادتهم للعذراء أكثر من يسوع الرب ، أو يستخدمونها كدرع واقي ضد ضربات أبنها العادل ضد أعمالهم الخاطئة ، وهذا لا يليق بالمفهوم الصحيح للإيمان في كل الطوائف .

في الختام نقول : تعظيمنا لك يا أم النور هو تعظيم لأبنك . غايتنا من التعظيم لأمنا البتول هو تعظيم إبنها الإله ، وعندما نمجد العذراء لا نقلل من شأن أبنها الفادي . العذراء لا تريد شىء لنفسها ، إلا أن تكون ( أمة للرب ) ولبني البشر وكما خدمت نسيبتها إليصابات ، فلم تثنيها بشارة الملاك على أنها ستصبح أم الله ، بل استمرت في تواضعها ومحبتها للجميع .

لتكن صلواتها معنا ولتشفعنا عند إبها الإله الذي هو نور العالم .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!