مقالات دينية

” يا ربّ أنت اختبرتني فعرفتني” ( مز 1:139)

” يا ربّ أنت اختبرتني فعرفتني” ( مز 1:139)
إعداد / جورج حنا شكرو
" يا ربّ أنت اختبرتني فعرفتني" ( مز 1:139)
من المعاني السّامية الكامنة في سرّ التّجسّد يبرز المعنى الّذي يبيّن للمؤمن مدى قرب الله من الإنسان الّذي خلقه على صورته كمثاله. ويتجلّى هذا القرب بالاختبار العمليّ والملموس. فالتّجسّد الإلهيّ يعني أنّ الإرادة الإلهيّة شاءت أن تدخل في تفاصيل الإنسانيّة وتبني معها علاقة بعيدة عن الفرق بين الله والإنسان . بمعنى آخر ، لو أنّ الله لم يتجسّد لبقيت العلاقة بين الإنسان والله مرتبكة وملتبسة وغير حقيقيّة . ولمّا تمّ التّجسّد مهّد الرّب لعلاقة متساوية مع الإنسان وبذلك أظهر له الطريق إليه ودخل معه في علاقة محبّبة لا تشمل الخوف والرّيبة. فبعد أن كان الإنسان في العهد القديم يخاف ذكر اسم الله ، جاء يسوع المسيح ليمنحنا القدرة على دعوة الله ( أبانا) . وهنا العلاقة ستأخذ شكلاً آخر وتكشف عن كلّ الحبّ الإلهيّ للإنسان . وهذه العلاقة انطوت على اختبار الله للإنسانيّة بكونه صار واحداً منّا ، فاختبر إنسانيّتنا بكلّ تفاصيلها ما عدا الخطيئة .
هل عندما نقول أنّ الله اختبر إنسانيّتنا نعني بذلك أنّه لم يكن يعرفنا من قبل أو يجهل ضعفنا ونقصنا وكلّ ما تحمله إنسانيّتنا ؟ قطعاً لا . فالله الّذي خلقنا على صورته كمثاله يعلم تماماً ما نحن عليه، ويدرك أفكارنا ورغباتنا ويرى أعماقنا السّحيقة ويصل إلى ما لا يمكننا أن نصل إليه في معرفتنا لأنفسنا . إلّا أنّ التّجسّد الإلهي دعوة ليختبر الإنسان الله بيسوع المسيح ، أي أن يبني معه علاقة سليمة غير تلك الّتي تصوّرها . إنّ اختبار النّاس لبعضهم البعض يعرّفهم على طبائعهم ومقاصدهم وسلوكيّات حياتهم ، وكلّما ازدادت العلاقة اختباراً تمكّن الإنسان من التقرّب من معرفة الآخر أكثر فأكثر . والأمر مشابه في ما يخصّ العلاقة مع الله ، فكلّما نمّينا هذه العلاقة ودنونا منه ودخلنا في تفاصيله عرفناه أكثر ، وفهمنا مقاصده ومشيئته .
الفكر الدّيني عامّة يدرّب الإنسان على تلبية مراد الله ، ويحدّد له شرائع وقوانين ملزمة تؤهّله إذا ما اتّبعها بإخلاص إلى أن يرضى الله عنه ، إلّا أنّه يبقى جاهلاً لهذا الإله الّذي يعبده . وتتحدّد حياته في هذا الالتزام بمجموعة قوانين وفرائض تحول بينه وبين نموّه الرّوحيّ نحو الله . وأمّا في المسيحيّة فالموضوع أبعد من فرائض وشرائع والتزام ضميريّ أو لنقل واجب إنسانيّ تجاه الخالق . فحين تنشأ علاقة بين اثنين لا تتّخذ شكل الواجب وإنّما تتخطّاه إلى الحبّ والانسجام والثّقة . وعلاقة الحبّ تنشأ بين شخصين متشابهين ومتفاهمين ولا يمكن للحبّ أن يكون ضمن إطار الواجب كما لا يمكن أن ينمو ويكبر بين سيّد وعبد . قد يحبّ عبد سيّده لكنّه لن يجرؤ على مصادقته والجلوس معه واعتباره مساوياً له . من هنا نفهم معنى سرّ التّجسّد أكثر ، ونتلمّس مراد الله من خلاله ، ولعلّنا ندرك أكثر قيمة ربنا وإلهنا ، وأيّ نعمة أغدق علينا وأيّ عظمة غمرنا بها .
صار الله إنساناً لأجلنا ، لنتعرّف عليه ونفهمه وندخل معه في علاقة حبّ مستديمة لا تحدّها قوانين ولا شريعة . نختبره فنعرفه فنحبّه فنمكث فيه ومعه أبداً ، وما لم نعرفه فلن نحبّه لأنّ الحبّ يستلزم التّعرّف على الآخر ومحاورته والاتّصال به والتّقرّب منه بحرّيّة وقرار شخصيّ .
أتى الرّبّ ليلتقي بنا شخصيّاً ويسمح لنا أن نتعرّف عليه ونفهمه ونختبره في علاقة حبّ وصداقة وبنوّة . ” تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال ، وأنا أريحكم .” ( متى 28:11) . وليس هذا وحسب ، بل أتى ليمنحنا كرامة لا نبلغها إلّا بكوننا أبناء له . وبما أنّنا أبناء فلسنا وحدنا متروكين مهملين ، وإنّما لنا أب يساندنا ويدعمنا ويرافقنا ويعتني بنموّنا ويسير معنا وأمامنا ويسهر علينا .
” الرّبّ يحفظك ، الرّبّ ظلّ عن يمينك ، فلا تؤذيك شمس النّهار ، ولا يؤذيك قمر اللّيل . يحفظك الرّبّ من كلّ سوء ، يحفظ الرّب نفسك ، يحفظ الرّبّ ذهابك وإيابك
من الآن وإلى الأبد. أمين” ( مز 8،7،6،5:121).
مادونا عسكر

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!