التّحول والتّعرّف وجماليات التلقّي قراءة في نصوص سناء الشعلان القصصية
د.سناء الشعلان
أ.د.غنام محمد خضر/ العراق
مدخل:
تجتهد هذه الدراسة لمعالجة ظاهرة التحول والتعرف في قصص القاصة الأردنية سناء الشعلان، وهذه الظاهرة ترتبط ارتباطاً مباشراً بفن المسرح، اذ تتجلى من خلال الحدث الدرامي كما أشار لها أرسطو في كتابه فن الشعر، وبعد قراءات متعددة تبين ان هذه الظاهرة موجودة في الفن القصصي ايضا لكن لم يسلط عليها الضوء بشكل كبير،وهذه الظاهرة تتعلق بجماليات التلقي؛ لأنها تتجسد من خلال ماتحدثه من تغييرات لدى المتلقي، وسنحاول ان نقف في بحثنا على تجليات هذه الظاهرة وانعكاساتها على النص القصصي من خلال المكان والشخصية.
…………………………………………………….
إن مصطلح التحول والتعرف من المصطلحات الدرامية التي وجدت مع وجود المسرح وتشير الدراسات القديمة والحديثة بان أرسطو المنظر الاول للدراما تطرق لهذا المصطلح في كتابه فن الشعر، ولم يقتصر على نوع درامي بعينه اذ ارتبط بالتراجيديا والكوميديا على حد سواء، فالتحول عند ارسطو هو ((انقلاب الفعل الى ضده تبعاً للضرورة والاحتمال)) ([1]) ويجب أن يغير هذا التحول في مجرى الأحداث ويعرّف المتلقي بأشياء جديدة ، تساهم في تغيير مصير البطل، أما مولين ميرشنت في كتابه الكوميديا والتراجيديا فيعرف التحول على أنه (( تغيير من حالة تكون عليها الأشياء في الدراما الى ماهو ضدها، ولابد أن يحدث هذا التحول المفاجئ كنتيجة محتملة أو ضرورية لتسلسل احداث المسرحية)) ([2]) ، ويكون هذا التحول محتمل الحصول في الحياة، وهذا التحول والتعرف يغير حالة الشخصية من الشقاء الى السعادة في الكوميديا ومن السعادة الى الشقاء في التراجيديا، أما ملتون ماركس فقد أكد ان التحول هو(( تغيير مجرى الأحداث كلياً لأنها نقطة حاسمة تتحول فيها الشخصية من الشقاء الى السعادة ومن الجهل الى المعرفة بسبب إزاحة الستار عن الأشياء الغامضة)) ([3]) أي إن هذا التحول ينعكس في حياة الشخصية ومجرى الأحداث لذا أكد أرسطو على اصطلاح التحول والتعرف دون الفصل بينهما باعتبار ان التعرف هو أساس التحول.
ومن الجدير بالذكر ان التحول والتعرف يقود بشكل او بآخر الى كسر افق التوقع ، وكما هو معلوم لدى القارئ، إن لمفهوم كسر أفق التوقع جذوراً قديمة تعود إلى النقد العربي القديم، لكن هذا المصطلح شاع في الدراسات النقدية الحديثة التي ارتبطت بنظرية التلقي والتي اتخذت من القارئ محوراً رئيساً في دراسة النص الأدبي والدراسات النقدية الحديثة، فاختلفت النظرة القديمة التي تتخذ من القارئ مستهلكاً للنص، وسادت بفعل هذه النظرية مفاهيم جديدة تتخذ من القارئ منتجاً للنص أو متفاعلاً مع النص وانهاء سلطة النص على القارئ وأصبح للقارئ سلطة على النص أيضاً، إذ يعمل القارئ على الدخول إلى عمق النص وفك شفرته وبفعل هذه الرؤية ظهرت بعض المسميات منها: المفاجأة والتوقع والانتظار الخائب أو المحيط، والانحراف، والصدمة والفجوة والفراغ والتوتر ومسافة التوتر وأفق التوقع، وكل هذه العناصر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاركة القارئ في استخراج خبايا النص والوقوف عند المدهش والمثير فيه، ولذلك لم يعد دوره مقتصراً على ملامسة سطح النص وإنما عدا دوره كامناً في الكشف عن أعماق النص بشكل يجد تفاعلاً خلاقاً بين النص والقارئ” ([4])، وظهرت تسميات عديدة لمصطلح أفق التوقع منها ((الأفق الأدبي))([5])، و (( أفق الانتظار))([6])، وغيرها من المصطلحات.
ومفهوم أفق التوقع “لا يتعامل مع جزيئات في النص الأدبي فقط، وإنما قد يشتمل النص كله فيما إذا كان منسجماً مع أفق توقع القارئ أم لا”([7])، من هنا نستطيع القول بأن فعل التحول والتعرف يقود بشكل حتمي لإحداث كسر أفق التوقع ويضع القارئ أمام اختبار تجربته الجمالية، إذ قد يتطابق أفق توقع القارئ مع النص الأدبي فيحصل انسجاماً، وربما لا يكون هناك أي تطابق أو انسجام، وعدم التطابق هذا يسمى عند ياوس بالمسافة الجمالية.
قامت معظم قصص سناء الشعلان القصيرة على هذه التقنية وتمركزت بشكل واضح وجلي لتجعل من القارئ يعيش لحظة الإدهاش الحقيقية عندما تفاجئه الشعلان بتحول على مستوى الأحداث فتكسر أفق التوقع عنده وتجعل من الأحداث تسير بشكل مغاير عمّا كانت عليه، وبالتالي هذا التحول جعل كسر أفق التوقع يرتبط بالحالة الشعورية للمتلقي من طرف وبالقصة أو فكرة النص من طرف آخر، وأحياناً يخرج عنصر المفاجأة ليشير أو يفتح التأويلات أمام المتلقي، أو يعطي لحظة تنوير، وهذه اللحظة تكون مرتبطة أيضاً بطرفين أحدهما المتلقي والآخر القصة أو الفكر.
والبحث سوف يتعامل مع الوظيفة الجمالية للتحول والتعرف في نصوص سناء الشعلان القصصية وما يطرأ على المكان والشخصية من قيم جمالية جراء هذا التحول، وما يطرأ عليها من تغير في المستويات البنائية والقيم الجمالية
بناء المكان
تعني الوظيفة الجمالية ما يطرأ على المكان من تغيرات تتسبب في إعادة تشكيله من جديد، إذ يتشكل لنا في بدايات القصة مكاناً معيناً يستمر هذا المكان مهيمناً بشكل أساسي حتى اللحظة التي يحدث فيها التحول، إذ نلحظ إن المكان يتغير ويعاد تشكيله بطريقة جديدة مغايرة عمّا كان عليه فهذه الإعادة في التشكيل تحدث إضافة جمالية في العمل القصصي ففي قصة (دعوة للحب والحياة ) ترسم لنا القاصة مكاناً بائساً رتيباً قديماً.
(( منامة النوم خاصته ما تزال معلقة على المشجب حيث اعتاد أن يعلقها في كل ليلة، بضعاً من شعرات رأسه الذي كان يربيه ليسترسل حتى ظهره لا تزال عالقة في مشطه بعد آخره مرّة مشط بها قبل أن يسقط شعره الذي أحبّه وهو يستسلم بانكسار للعلاج الكيميائي والنووي الذي تعرض له طويلاً)) ([8]).
من خلال هذا الوصف لمحتويات المكان نتعرف على المكان وهو البيت الذي كان يسكنه الزوج الذي توفى بسبب تعرضه لمرض خبيث، وهذا الوصف يجعلنا نشعر بأن آثار الزوج ما زالت باقية كما تركها في بيته دون أن تحاول زوجته تغييرها اعتقاداً منها بأنها تحافظ على حبها له.
فالمكان يعكس لنا الحالة المأساوية المتردية الذي وصلت إليها هذه الزوجة، وهي تقف خلف ركام الذكريات، فكل شيء في البيت يحمل ذكرى لأيام مضت، وما إن تغيرت مسار الأحداث بعد كسر أفق التوقع الذي حصل في القصة والمتمثل بلقائها بالصحفي والذي أعطاها درساً في الحياة وجعلها تغيّر من تع-اط*يها للأمور التي حولها. وبعد عودتها من لقاء ذلك الصحفي شعرت بأنها بحاجة لتغيير ما يحيط بها من أشياء.
(( كذلك هي في حاجة لتغيير أثاث المنزل الكسير الغارق في الحزن الذي طالعت صورته منعكسة في المرآة…)) ([9]), وبذلك أعادت لنا القاصة تشكيل المكان وفق رؤية جمالية فشعور بطلة القصة بالمكان أصبح مختلفاً، ولهذا أرادت تغييره وهذا التغيير في المكان لم يكن ليحصل لولا اللحظة الحاسمة التي بنيت عليها القصة المتمثلة بنقطة التحول في النص بطريقة مفاجئة كسرت بها أفق التوقع عند المتلقي .
وبعد تغيّر المكان أصبح حجم التأويل أكبر حتى أصبح المكان ذا شكل معين وتأسيس خاص، ويأتي هذا الوصف الدقيق للمكان معبّرا وموضحاً لما آلت إليه الزوجة بعد أن هجم المرض على زوجها ولم يتركه حتى غادر الحياة . فالمكان أصبح معلوماً للمتلقي .
واتصف المكان بالجمود والاستقرار والرتابة وكل هذه الأشياء تجعل من الحياة معطلة، فانعكست رتابة الحياة على الشخصية فلم يسُده إلا الحزن والانغلاق ، والمتلقي للنص يسلط زاوية نظره لقضية واحدة وهي نهاية البطلة المأساوية بعد أن أحاطها المكان من كل الجهات، إحاطة مؤلمة باعثة للقلق .
وتستمر هذه الأحداث تسير بشكل سلس ومعتدل حتى يشعر القارئ إنه أمام حادثة مأساوية قد تصل لها بطلة القصة، فتوقع القارئ جاء من جملة الأشياء التي تشكلت في النص، لكن القاصة عملت على إحداث مفاجأة في النص من خلال ما تحدثه من انعطافة تثير لدى القارئ عنصر اللامتوقع فيحدث كسراً في أفق توقعه .
(( …. سمعت أنك محتجة ةعلى مقالتي الأخيرة! شعرت بان كلماته قد ألجمتها، وتلعثمت وهي تقول: أنا عندي بعض الاحتجاج؟”
ابتسم وقال: احتجاج على المقالى أم على دعوة للحب والحياة؟
قالت بمرارة: احتجاج على الموت ، وعلى الدعوة لنسيان من أحببنا، والاستمرار في الحياة، وكأن شيئاً لم يكن”
صمت الصحفي المسجى في فراشه، ثم ابتسم بمرارة، وقال لها: أشعر بالحر، هل يمكنك أن تساعديني بإزاحة هذا الغطاء عن جسدي؟” لم تكن تتوقع أن ي*نح*رف الحديث إلى طلب خدمة غريبة كهذه، لكنها وجدت نفسها ملزمة بالاستجابة لطلبه، أزاحت الغطاء دون مبالاة، فبرز جسد الصحفي، جذع صغير منكمش بلا أطراف بل برأس يتوسطه فم لا تفارقه ابتسامة سلام وحب جزعت مما رأت، وأفلتت منها صرخة لم تستطع أن تكتمها، جحظت عيناها، وقالت كمن يطارد كابوساً: مستحيل…..ماهذا؟
اتسعت ابتسامة الصحفي، وقال وفي عينيه حنان يكفي لينبت يدين، وليحتوي خوفها وحزنها وإشفاقها: كنت في رحلة شهر العسل مع المرأة التي اخترتها دون نساء الأرض، تعرضت لحادث رهيب، فقدت أطرافي فيه، أصبحت عالةً عليها وعلى حبنا، لم أعد قادراً على إسعاد أي امرأة، بتُّ في حاجة فقط إلى ممرضة، فطلقتها، ووهبتها شطر ما أملك، تمنيت لها السعادة من كل قلبي، وارتحت عندما وجدتها مع غيري…ومع ذلك ما أزال أدعو إلى الحب والحياة، ألست جديراً بحمل لواء هذه الدعوة؟)) ([10]).
بعد هذه المفاجأة التي حصلت على مستوى الأحداث، نلحظ أن هناك أشياءً قد تغيرت في رسم المكان وبنائه، فإعادة تشكيل المكان جاءت بعد عملية كسر أفق المتوقع، فالتعرف على مصير الكاتب أدى الى تحول ساهم في إحداث الدهشة والمفاجأة لدى القارئ وجعله يتأمل النص جيداً ويقارن بين دلالات المكان السابقة واللاحقة، إذن من الملاحظ إن القارئ لم ينتبه للمكان المرسوم في أول القصة كونه من الأمكنة المتوقعة فكل ما يحيط بالمكان من بؤس وحزن أمر متوقع لدى القارئ، لكن أن يتحول المكان بلحظة واحدة إلى الفرح والسعادة هذا ما لم يتوقعه القارئ فأثار عنده تصادماً (( مع تركيب أو عبارة أو فكرة أو وزن أو فضاء نصي لا يتطابق مع معرفته الأولية))([11])، وبذلك تحققت في النص الكثير من التحولات التي غيرت مسار حياة البطلة، وتبدد حزنها وبدأت تفكر بالتغيير السريع في حياتها وبيتها.
بناء الشخصية
كما هو معلوم بأنّ الشخصيات في العمل الإبداعي تتنوع وتتعدد على وفق منطلقات فكرية وجمالية يقوم عليها النص، وفي قصص سناء الشعلان تتنوع الشخصيات فهناك شخصيات ذات مرجعيات مختلفة واقعية ومتخيلة،واخرى ذات أبعاد أسطورية ورمزية اجتماعية وتتكون هذه الشخصيات من خلال الأحداث التي تحيط بها .
ففي قصة (( دعوة للحب والحياة)) نلاحظ إن الشعلان قامت ببناء الشخصيات في هذه القصة بناءً تراتبياً فالشخصية تكون ذات صبغة محددة ثم تجعلها تتفاعل مع الأحداث وتتغيّر بحسب مقتضيات الأحداث، لكن الشعلان جعلت التغيّر يكون عن طريق التحول والتعرف الذي يقود لكسر أفق التوقع، حيث ان القاصة تقوم ببناء الشخصية القصصية مرة أخرى وبشكل مغاير حتى تأخذ هذه التقنية (التحول والتعرف) بعداً جمالياً فالبناء يكون مصحوباً بالأفكار والمواقف التي تتبناها الشخصيات وكيفية التحول الذي يحدث في سلوك الشخصية .
وبناء الشخصية يتغير بسبب حدوث تحول وتعرف على مستوى الأحداث التي تساهم في إعادة بناء الشخصية، فالمسافة الجمالية التي تتركها القاصة في بناء القصة تجعل من المتلقي يرتكز على أشياء متوقعة لكنها لا تساهم في تغيير بناء الشخصية، ثم تُفاجئ المتلقي (القارئ) بحدث لا متوقع يعيد ترتيب وبناء الشخصية بشكل جديد ومتفاعل مع الأحداث الجديدة التي طرأت على القصة (الأحداث) .
تعيد الشعلان بناء الشخصية البطلة في قصة (دعوة للحب والحياة) بشكل جمالي، وهذه الإعادة حصلت بعد نقطة التحول التي طرأت على أحداث القصة، فبعد أن كانت امرأة غارقة في حزنها ووفائها لزوجها المتوفي تصبح بلحظة واحدة امرأة عاشقة تحب الحياة، فهذا الاختلاف في توجهات الشخصية جاءت بفعل عامل التحول الذي أعطى بدوره أبعاداً جديدة وقابلة للتغيير والتأويل، فالمتلقي كان متوقعاً نهاية مأساوية لهذه البطلة ولكنه يفاجئ بحدوث أشياء غير متوقعة، فالبناء الجديد للشخصية جاء بطريقة جمالية، فالبطلة أصبحت متفائلة بمستقبل مشرق وبحب جديد قادر على إعطائها السعادة فالبناء أصبح شكلاً ومضموناً متسقاً مع البناء الأرسطي الذي ركز على أن تكون نقطة التحول والتعرف مصحوبة بتغيير حالة الشخصية من الشقاء الى السعادة ، كما حدث لبطلة القصة.
(( ووصلتْ إلى البيت متأخرة ومتعبة، لم تمارس طقوس دخول المنزل التي اعتادتها مع زوجها الراحل، لأنها أيقنت أنّه رحل دون عودة، وقد آن أوان توديعه، وقدّرت أنها في حاجة إلى تغيير تسريحة شعرها، وتغيير لونه)) ([12]) .
فإذا تفحصنا ما جاء في هذا المقطع نجده يحمل دلالات وإشارات على تغيير نمط هذه الشخصية، فدخولها إلى البيت تغيّر، ثم كلمة (أيقنت) وما تحمله من وثوقية لليقين الذي أصبحت عليه وكأنها كانت في شك وهذا يدل أيضاً على التغيّر الحاصل في بناء الشخصية، ويختتم النص في (تغيير تسريحة شعرها، وتغيير لونه) وهذا التغيير في الشكل انعكس على المضمون فبدأت تتصرف على وفق الرؤية الجديدة التي حدثت بفعل نقطة التحول التي أحدثت مفاجأة على مستوى الأحداث، وبناء الشخصية الجديد اكتسب صفة جمالية لأنه أعاد تشكيل النص تشكيلاً جوهرياً حمل في طياته أبعاداً تفسيرية وتأويلية ذات معانٍ عميقة فالحب هو العيش بسعادة، والوفاء هو الكرامة والنبل، والحياة أكبر مما يتعرض له الإنسان، أمّا على مستوى المضمون فنلحظه من خلال تصرفات الشخصية وأفعالها (( فتحت دليل الهاتف، وأدارت قرص الهاتف، وانتظرت لحظات، ثم جاء صوت مديرها الوسيم الأسمر، قالت له: (( أنا لن أحضر غداً إلى العمل)) .
قال باهتمام: (( خير إن شاء الله )) .
قالت بابتسامة ودلال: (( أحتاج بعض الوقت كي أهيئ نفسي لحفل الزفاف )) .
قال بوجوم: (( زواج من؟ ))
قالت بمشاكسة وضحكة رنانة: (( حفل زفافنا…..)) ([13]).
فأفعال الشخصية تغيرت وأصبحت مؤمنة بحياة جديدة بعد أن كانت تعيش خلف ركام من الذكريات القاسية تحت عنوان كبير اسمه وفاء ؟! لكن ما حصل من حدث لا متوقع على مستوى القصة ساهم في بناء القصة بناءً جديداً على المستويين الشكلي والمضموني الأمر الذي حقق غاية جمالية أحدثها التفاعل الحاصل ما بين النص والقارئ؛ لأن في هذه القصة العلاقة كانت موجهة من طرفين .
وفي قصة (( لحظة عشق)) نلتقي بطل القصة الرجل الملحد الذي لا يؤمن إلا بالأشياء المحسوسة وكان يسخر من مسألة الحب ولا يؤمن به حتى أصدر كتاباً في الإلحاد مقدمته عبارة (( أين هما الله والحب)) ([14]).، فبقي هذا الرجل ضمن هذه التوجهات حتى زحف المرض إلى قرنيتي عينيه، واستمر بنهجه في الإلحاد وعدم الإيمان لا بالله ولا بالحب، وبعد أن أصبحت حياته مظلمة أحس بحاجة إلى اللجوء إلى قوة عظيمة اسمها الله، ثم جاء موعد العملية عندما تبرعت فتاة بقرنيتي عينيها لحساب المستشفى الذي يرقد فيه قبل ا*نت*حا*رها وأجرى العملية وعادت النور إلى عينيه، ثم قرر زيارة أهل الفتاة التي انتحرت وما إن دخل غرفتها
(( شعر بروح غريبة تستحوذ على إرادته وحواسه وهو يجلس في غرفة الشابة المنتحرة، كانت غرفة هادئة، يغلب اللون الوردي على محتوياتها، جلس على كرسيّ مكتبتها، كانت رسالة ا*نت*حا*رها ما تزال على المكتب، جلست والدتها المكسورة بأحزانها على طرف سريرها المرتّب إلى جانب طاقة الزهور التي جاءت مع الضيف الملحد قالت الام كاسفة دامعة: (( كانت رقيقة كبسمة، كلها حياة وحب وتفاؤل، كانت مصدر سعادتي واعتزازي لا أعرف لم انتحرت، كنت أنتظر منها الكثير من السعادة والعطاء)) ([15]).
فالمتفحص لهذا المقطع من القصة يجد أنّ هناك أشياء تجعل المتلقي يقف عندها مثل ( شعوره بالروح الغريبة التي استحوذت على المكان) ثم ما تخلل المقطع من عبارات أخرى تشير إلى روح الشابة المنتحرة الشفافة مثل اللون اللوردي، والغرفة الهادئة، وهذا دليل على أناقة الشابة ورومانسيتها، وعلى الرغم من ذلك فجميع هذه العناصر تجعل هناك مسافات جمالية وفجوات أرادتها القاصة أن تكون بهذا الشكل، ثم كلمة (الضيف الملحد) معنى هذا إن الشخص حتى بعد شفائه من مرضهِ لا زال على حاله وعلى إلحاده، فالقارئ يكون أمام تساؤلات كثيرة ما علاقة الشابة بالقصة وبناء الشخصية طالما ما زال الرجل على الإلحاد ؟!
(( استغرقت الأم في انتحابها، انتقل حكيم من مكانه إلى جانبها على السرير، وأخذ يكفكف دموعها، وتسحّر مكانه، كانت عيناه مسلطتين على صورة فوتوغرافية إلى جانب سرير المنتحرة، تناول الصورة بيدين متعرقتين مرتعشتين، وقال: (( من هذه السّمراء؟)) .
أجابت الأم وهي تضمد بمنديلها الورقي سيل مخاطها المختلط بالدموع: هذه هبة… ابنتي المنتحرة)) لقد كانت هي، نعم، كانت هي السمراء ذاتها لا تفارق صورتها عينيه..))([16]).
بدأت بعد ذلك تتشكل أسئلة أخرى لدى المتلقي وتكثر عنده الأشياء المتوقعة إذ هناك تطابق ما بين ما ذهب إليه وبين أحداث القصة ولم يحصل شيء غير متوقع لأن حكيم بعد أن خرج من المستشفى أصبحت صورة هذه الفتاة لا تفارق نظره وهذا الحدث منطقي بالنسبة للقارئ ولا يدل على أشياء غير متوقعة، وحتى زيارته إلى أهلها كانت من الأشياء المتوقعة، فاستمرار السرد بهذه الطريقة بدأ يعمق السؤال الوحيد الذي أصبح يلح على القارئ ما الغاية من عماه وشفاه؟ وماذا قدم للقصة ولسير الأحداث طالما هو باق على إلحاده، لاسيما ونحن نعرف بأن أول ما طرحته لنا الشعلان من قضايا هذه القصة مسألة الإلحاد وعدم الاعتراف بالحب ؟! .
ومسألة الصورة أحدثت لدى الشخصية (حكيم) استغراب لهذا التطابق ما بين الخيال والحقيقة الأمر الذي جعله يطلب من والدة الفتاة (هبة) المنتحرة الخروج .
(( صمت بعمق، غادرت الأم الغرفة التي بقى فيها بعد ان استأذن بذلك، تعرّف على كل محتوياتها، كان في درج مكتبها الكثير من الرسائل المعنونة بعنوانه، التي لم تبعث أبداً، قرأها مرة، وثلاث، وعشر، تعرف على كل محتوياتها، كان فيها حب كبير، عرف من أوراقها ومن دفتر مذكراتها أنها عملت معه لعام كامل في نفس المؤسسة الصحفية التي يعمل فيها، دون أن تكلمه، ولكن كل كتبه ومقالاته كانت في مكتبتها، عرف أنها أحبته، وعرف أنها صممت بقلبها المريض، الذي لا يحتمل الانكسار، وتأكد من ملفاتها كانت تتابع حالته الصحية، وأنها تعرف أن أنسجتها تناسب أنسجته من التحاليل المرفقة بوثيقة حالته الصحية، وأنها كانت تعرف أن الدّور له على لائحة الانتظار لآخذ القرينتين، وفي الليلة المناسبة انتحرت…)) ([17]).
في هذا المشهد وهذه اللحظة حصلت نقطة التحول والتعرف التي أحدثت مفاجأة للشخصية وللقارئ ، ومن خلال هذا الحدث فلم يكن بالحسبان أو ضمن الأشياء المتوقعة بأن تكون هذه الفتاة أحبته ومن أجل الحب انتحرت لكي ينعم بالنظر، فالتحول الحاصل على مستوى الحدث أعاد بناء الشخصية بناءً جديداً ناسفاً كل ما كان عليها من قبل، فحكيم تحول من شخص ملحد لا يؤمن بالحب إلى شخص محب وعاشق في لحظة واحدة، والتحول ايضاً ساهم إسهاماً كبيراً في بناء جمالي لشخصية القصة .
(( على مكتبها رأى نسخةً من كتابه المشهور، فتح الصفحة الأولى، كان مكتوباً تحت العنوان تماماً وبخط نسائي رقيق: (( الله هنا في قلبي)) .
تناول قلمه الفاخر، وكتب في الصفحة ذاتها أعلى الكلمات التي قرأ (( إلى حبيبتي هبة… عاشقك إلى الأبد حكيم)) .
أقفل الكتاب وأسند ظهره إلى الكرسي الخشبي الذي يجلس عليه، وفن رأسه الأشيب ذا الشعر المتموج بين يديه، وشعر لأول مرة بأنّ الله والحب يسكنان قلبه، قاوم رغبة جارفة في البكاء، ثم استسلم لها دون خجل، وضم صورة هبة إلى قلبه الذي بدأ يدق بانفعال وقوة)) ([18]).
انتقل حكيم من ملحد إلى عاشق ومؤمن بفعل التحول الذي ساهم في إعادة بناء هذه الشخصية، محدثاً بذلك تغييراً على مستوى المضمون، فحكيم لم يعد ذلك الرجل العنيد القاسي بل أصبح إنساناً محباً صادقاً، وكأنه غير حكيم الذي طالعناه في بداية القصة، والتحول والتعرف الذي صاحب هذه القصة زاد من حساسية العلاقة بين النص والمتلقي، فأصبح المتلقي فاعلاً في النص غير مستهلك، إذ قراءة المتلقي بحسب هذا المنظور من شانها أن تفتح النص على تأويلات عديدة برؤية واعية وعميقة، وهذا ما أرادت أن تؤكد عليه الشعلان من خلال اعتمادها على نظام التحول والتعرف في النص القصصي..
المصادر والمراجع
- أرسطو: فن الشعر: ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة بيروت
- التلقي والتأويل (مدخل نظري): محمد بن عياد، مجلة الأحكام، ع(4): 1998.
- المتوقع واللامتوقع، دراسة في جمالية التلقي: موسى ربابعة، مجلة أبحاث اليرموك، سلسلة الآداب واللغويات، مجلد 15، ع(2)، 1997:
- ملتون، ماركس: المسرحية كيف ندرسها ونتذوقها، ترجمة: فريد مندور، دار الكتب العربي
- مولوين، مرشنت، الكوميديا والترابيديا، ترجمة، علي الراعي سلسلة عالم المعرفة، الكويت
- نظرية الاستقبال: روبرت سي هولب، ترجمة: رعد عبد الجليل
- الهروب الى آخر الدنيا، سناء الشعلان، نادي الجسرة الثقافي، قطر، 2006
([1]) . أرسطو: فن الشعر: ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة بيروت ص32 .
([2]) . مولوين، مرشنت، الكوميديا والترابيديا، ترجمة، علي الراعي سلسلة عالم المعرفة، الكويت ص233.
([3]) . ملتون، ماركس: المسرحية كيف ندرسها ونتذوقها، ترجمة: فريد مندور، دار الكتب العربي ص107.
([4]) المتوقع واللامتوقع: 47 .
([5]) نظرية الاستقبال: روبرت سي هولب، ترجمة: رعد عبد الجليل: 77 .
([6]) التلقي والتأويل (مدخل نظري): محمد بن عياد .
([7]) المتوقع واللامتوقع: 53 .
([8]) .الهروب إلى آخر الدنيا:45
([9]) . الهروب إلى آخر الدنيا:50/51
([10]) . الهروب إلى آخر الدنيا: 49/50
([11]) .المتوقع واللامتوقع:48
([12]) . الهروب إلى آخر الدنيا:50
([13]) . الهروب إلى آخر الدنيا:51
([14]) . م ن:9
([15]) . م ن:11/12
([16]) . الهروب إلى آخر الدنيا:12
([17]) الهروب إلى آخر الدنيا:12/13
([18]) م ن :13