مقالات دينية

وِلادات يسوع الأربعة

وِلادات يسوع الأربعة

بقلم / وردا إسحاق قلّو

يسوع المسيح هو إله في إله منذ الأزل . لا يجوز أن يوجد من دون الآب ، ولا الآب من دونه ، بل وجد الأثنان معاً منذ الأزل ، والله الآب خلق كل شىء به لأنه أقنوم الكلمة الألهي الناطق لللآب ( اللوغس ) الخالق لكل شىء . لهذا المسيح يعَبّر عن ذاته لليهود ، فيقول ( أنا قبل أبراهيم ) ، لم يقل أنا كنت قبله ، بل هو كائن قبله ، أي خالقه ، فعلينا أن نفهم سّر الشراكة الأزلية بين الآب والإبن الذي كان في حضن الآب ” يو 1 : 18 ” . يسوع الكلمة هو صورة كاملة لله كمالاً مطلقاً ، أي هناك إتحاد دائم مابين الأقنومين . كذلك هناك تساوي في تلك الوحدة ، وفي جوهرها . فكلمة الله اللوغس يحمل طبيعة الله منذ الأزل ، وهي ولادة أزلية وأبدية ، لذا قال يسوع عن نفسه ( أنا في الآب والآب فيّ ) والله الذي خلق الإنسان بسبب محبته تمرد المخلوق على خالقه فانقطعت العلاقة . لكن محبة الله للبشر أستمرت ، لهذا كان مفتاح سّر التجسد هو حب الله ، و ( الله محبة )  ومحبة الله لا تضعف أو تسقط مع سقوط الإنسان . وهذه المحبة تنير لنا الطريق لفهم خطة الله لخلاص البشر من خلال سّر تجسد أبنه الوحيد . وللحب منطق لا يدركه عقل إنسان ، وحب المسيح هو فوق كل حب ، إنه التضحية من أجل الآخر ، وقد علّمنا هذا الدرس بقوله ( ليس لأحد حب أعظم من هذا : أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ) ” يو 13:1″

ولأن تضحية الإنسان لا تستطيع أن تدفع خطيئته للعدل الإلهي ، لهذا فحركة التجسد كانت حتمية لخلاص البشر . لأن غاية التجسد كان لردم الهوّة بينه وبين البشر . كانت هاوية عميقة ودائمة ، ولولا المبادرة الإلهية لأستحال على الإنسان أن يجتاز تلك الفجوة بقدراته الذاتية للوصول إلى الله . فتجسد ” عمانوئيل ” فعاد الله ليكون معنا . في ولادة جديدة زمنية حدثت في ملء الزمان ” غل 4:4 ” لم يقتصر التجسد في مريم العذراء ، بل ولد في كل إنسان ، كما أعطي الشرف للإنسان أن يلد خالقه ، أو يلد من وَلَدَهُ ، إنه إنقلاب الأدوار حدث في المسيحية ، فعلينا أن نقلب مفاهيمنا أيضاً لنفكر بطريقة جريئة لكي نفهم أمور كثيرة لم تكن مفهومة . والآية تقول ( … كل شىء ممكن للذي يؤمن ) ” مر 23:9 ”  . وعلينا أن نعلم بأن للمسيح ولادات كثيرة نختصرها بما يأتي :

  • ولادته الأزلية من الله الآب : هذه الولادة تحمل طابع آخر لا تشبه الولادات البشرية ، فعلينا أن نفهم ما نقوله في قانون الإيمان عبارة ( المولود من الآب قبل كل الدهور ) وهنا لا يحدد زمناً لوجود المسيح كأقنوم ثاني ، بل هو موجود منذ الأزل مع الآب ، ولا يمكن للآب أن ينفرد بوجوده ولو للحظة من دون الإبن ، لأن الإبن هو الكلمة الموجود في الله الآب منذ الأزل . وأبرز آية نفهم منها أزلية المسيح مع الآب هي الآية الأولى من أنجيل يوحنا ( في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ) ” يو 1:1 ” والمقصود هنا بلفظة ” البدء “ هو الأزل بدون أي تحديد زمني لوجوده . فالمقاطع الثلاثة في الآية توضح لنا آلوهية المسيح وأزليته لأن به خلق الله الآب كل شىء ” يو 3:1 ” فهذا هو الميلاد الأول الأزلي للمسيح من الآب والذي شاطره في اللاهوت والجوهر . فبما أنه موجود مع الآب منذ البدء ، إذاً لا يمكن أن يكون مخلوقاً كما يدّعي البعض ، بل هو إلهاً أزلياً أعطاه الآب كل ملء اللاهوت ، لهذا نرى كلمة ” الملء ” تتكرر في الأنجيل منها ( طالع يو 16:1 و قول 19:1 و 9:2 ” وهكذا أعطاه جوهر اللاهوت كله ليكون مساوي له في الجوهر . كما إنه مساوي للآب في القدرة ، يقول القديس هيلاري ( إن له طبيعة الآب الكلية القدرة ) . وهو قال لتلاميذه بعد القيامة ( دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض ) ” مت 18:28 ” . و ( كل ما للآب هو لي ) ” يو 15:16 ”  .
  • ولادته من مريم العذراء : تجسد المسيح كان مطلوباً لإتمام خطة الله لخلاص البشر ، فتجسد وصار إلهاً متجسداً ، وبعد تجسده في مريم العذراء وولادته منها ظل محافظاً على طبيعته الإلهية ، لهذا تقول الآية ( فإنه فيه سر الله أن يحل كل ملئه ، وأن يصالح به كل شىء مع نفسه ) ” قول 19:1″ . أما الرسول يوحنا فكتب ( … والكلمة صار جسداً وحل بيننا … ) ” يو 14:1 ” حرف الواو تسبق ” الكلمة ” تعني أن هناك كلام آخرما قبله ، نجده في الآية الأولى من نفس الإصحاح وهي ( الكلمة هو الله ) أي أن الله صار جسداً وظهر بيننا ، وعندما صار إنساناً لم يفقد ولو للحظة على أن يكون كلمة الله ( اللوغس ) ، إتخذ جسداً لكي نراه ، وعلى ذلك الجسد حمل خطايانا كإنسان كامل ، فعلينا ان نؤمن بأنه إله كامل ظاهر في الجسد وكما تقول الآية ( الله ظهر في الجسد ) وهذا هو جوهر عقيدتنا . في العهد القديم كتب ( … لأنه لا يراني الإنسان ويحيا ) ” خر 20:33 ” أما في العهد الجديد فحدث العكس ، فكل من يراه يحيا على مثال الحية النحاسية ( عد 9:5 ) . وكيف يستقر ملء اللاهوت في طفل صغير مولود من إمرأة ؟ هذا هو الّسر الذي لا يفهمه الغير المؤمن ، بل هو تحدي كبير ونقطة الخلاف الكبرى مع غير المسيحيين ، كيف يمكن للإنسان المحدود أن يحتوي الله اللامحدود ؟ العذراء ولدت الإله المتجسد فيها ، لكننا نقول لم تلده بمفردها ، بل أشترك في هذه الولادة كل الشعب العبري الذي كان ينتظر مجىء المسيا ، فتحقق حلمهم في شخص مريم التي تمثل ايضاً كنيسة العهد الجديد أي مَثلت العهدين .
  • ولادة المسيح في كل إنسان : يمكن القول إن تمخض العذراء وقت ولادتها ليسوع كان تعبيراً لتمخض الأرض كلها لتلد المخلص ، لم يأت ليحل في جسد مريم فقط ، بل في كل إنسان . يسوع تسلم ملء اللاهوت من الآب كخطوة أولى ، وفي الخطوة الثانية تستوعب البشرية الإله المتجسد في ذاتها ملء اللاهوت الذي كان في الكلمة ليحل في جسد كل إنسان . وفي الخطوة الثالثة ، الملء الذي في المسيح يوهَب لنا نحن البشر لكي يجعلنا شركاء له في لاهوته ، لهذا تقول الآية ( فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً وأنتم مولودون فيه ، الذي هو رأس كل رئاسة وسلطان ) ” قول 9:2 ” فكما إنه مملوء من اللاهوت هكذا نحن أيضاً ، والملء الذي فيه قد وهِبَ لنا عندما جعلنا أعضاء في جسده ( الكنيسة ) فما يحل في رأس الكنيسة ، يحّل في باقي الأعضاء ، لأنه رأس الجسد ، وهذا أيضاً هو سّر من أسرار التجسد . إذاً لم تكن ولادة المسيح من العذراء هدفاً لذاتها ، بل تمّت حتى يولد فيه كل إنسان وشاركه في الملء الذي فيه . لهذا تقول الآية ( فمن ملئه نلنا بأجمعنا ، وقد نلنا نعمة على نعمة ) ” يو 16:1 ” وهذا يعني أن إمتداد التجسد في كل إنسان مؤمن هو الهدف الأساسي في تجسد المسيح ، بتجسده دخل العنصر الإلهي في الإنسان القديم . ومن تلك اللحظة بدأت البشرية مرحلة جديدة في مسيرتها مع الله ، يمكن أن نطلق عليها المرحلة الإلهية ، فعلينا إذاً أن لانُقّيم أنفسنا بمعاييرالبشر الغير مؤمنين ، لأننا الآن أكثر من بشر ، لأن الله يسكن فينا من خلال المسيح ( الكلمة صار بشراً فسكن بيننا ) ” يو 14:1 ” فصارت الإنسانية هيكلاً لله ، فلم يكن مشروع التجسد إلا خطوة أولى لتأليه البشرية كلها لكي تصير أولاداً لله ” يو12:1 ” . مفهوم الله والإنسان في المسيحية ليس كباقي الأديان التي تكتفي بمجرد الإيمان بالله الموجود في السماء ، بل تؤمن بالله في الإنسان ، وهو الذي يفجر بداخل المؤمن ما هو كامن وقائم بالفعل ، وهذا لن يتم إلا من خلال الإيمان الذي يسيطر على طاقات كبيرة موجودة في الإنسان الذي ( عمانوئيل ) معه ، فبالله الذي معي أستطيع كل شىء في من يقَويني .
  • هل هناك ولادة رابعة للمسيح ؟ بعد أن تناولنا ولادته الأزلية من الآب أولاً وولادته من العذراء ثانياً ، وتجسده في البشرية كلها ثالثاً ، فهل سيظهر المسيح ليتجسد مرة أخرى في عالمنا ؟ في الحقيقة ، البشرية والطبيعة كلها تنتظر يوم تجسد المسيح الرابع ( أش 4:34 و 22:66 . رو 8 و 2 بط : 12-13 ) فالبشرية تتجه من خلال التجسد إلى تحقيق إمتلاء المسيح في اليوم الأخير عندما يأتي على الغمام مع ملائكته القديسين ، والذي سيسبقه الصليب المضىء ( علامة أبن الإنسان ) ” مت 30:24 ” كما سبق ظهور النجم المضىء للمجوس  قبل وصولهم إلى مكان مولد المسيح . في ذلك اليوم تبلغ فيه البشرية والطبيعة كلها قامتها الكاملة ، بالتجدد الشامل ، ليس للإنسان فقط ، بل للجماد والنبات والحيوان . كلها تتقدم باستمرار إلى النهاية ، إلى ولادة جديدة ، بل إلى عالم جديد ، وأرض جديدة ، حينذاك سيعلن المسيح رغبته في أن يولد مجدداً بكل ملء لاهوته ، وبكل أبعاد كيانه ، في كل إنسان وفي الطبيعة الجديدة ، فيستمر الإنسان مع الطبيعة في حالة تمخض ، كما فعلت قبل التجسد . ننتظر مجىء المسيح في الولادة الأخيرة ( الرابعة ) إنه الميلاد الأخير ، لكل إنسان وللكون كله ، لهذا قال ( هاءنذا أجعل كل شىء جديداً ) ” رؤ 5:21 ” . عالم جديد … أرض جديدة .. وسماء جديدة ، فعلينا أن نستعد للميلاد العظيم لكي نولد نحن فيه وهوفينا .

ليتمجد اسم يسوع القدوس

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!