الحوار الهاديء

الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن 13

الكاتب: الشماس د. كوركيس مردو
الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن
الجزء الثالث عشر
طيمثاوس والطوائف المسيحية الأخرى
وعلى ضوءِ ما تقدَّمَ ذِكرُه، تُرى، كيف كانت علاقاتُ طيمثاوس مع أبناء الكنائس الاخرى المتواجدين في بغداد وفي مناطق اخرى ضمن الرقعة الجغرافية للكنيسة الكلدانية المشرقية النسطورية، ولكُلٍّ مِن هذه الكنائس رئاسة خاصة ومُعتقد وتاريخ!؟ لقد ذكرنا في الجزء الثاني مِن كتابنا هذا (تاريخ بلاد الرافدَين/الكلدان والآثوريون عبر القرون) كيف توغَّلَ الكلدانُ اليعاقبة المونوفيزيون في الشرق، ومنذ منتصف القـرن الخامس، وإنَّ الإضطهادَ العنيف الذي شَنَّه عليهم برصوما مطرانُ نصيبين النسطوري الشهير في نهاية ذلك القرن لم يقضِ عليهم بالكامل، فقد عاودوا الإنتشار ثانية وكان أزخمَه في مطلع القرن السابع، حيث لملموا شمل جماعاتهم وركَّزوا قواهم في منطقتين هما: الاولى منطقة دير مارمتي الواقع في سفح جبل مقلوب أو الالوف. والثانية منطقة تكريت. ومالت الظروفُ لصالحهم على عهد كسرى الثاني أبرويز بواسطة جبرائيل السنجاري المونوفيزي طبيبه الخاص  حتى أنهم بحسب قول المؤرخ المونوفيزي إبن العبري(التاريخ الكنسي2 ص 123 – 124) تمكَّنوا مِن تشكيل 12 أبرشية وَقتَ انتخاب ماروثا ميطرابوليطاً لتكريت، ولكن الأب لابور (المسيحية في الإمبراطورية الفارسية ط2 باريس ص 240 – 241) ينفي هذا الرقم ويقول بأنَّه مُبالغ ٌ فيه مستنداً الى ضآلة عدد نفوسهم وضيق رقعتهم الجغرافية.
 
يقول إبن العبري (التاريخ الكنسي2 ص 155 – 158) بأنَّ تقارباً نوعياً حدث بين الكنيسة الكلدانية النسطورية والكنيسة الكلدانية اليعقوبية المونوفيزية بعد الغزو العربي الإسلامي واستيلاء المسلمين على المدائن وإعلانهم الإسلامَ ديناً للدولة. وقد سبق لنا القول  في الفصل الثامن بأن حادثة تعرَّضَ لها البطريرك النسطوري (يعقوب الثاني 754- 773م) والبطريرك اليعقوبي (جرجيس 758- 790م) قد اُلقيا بسببها في السجن على عهد الخليفة المنصور ولحق بهما الى السجن بطريرك أنطاكيا للملكيين الكاثوليك. ويظهر أن وجودهم في السجن أحدث لديهم القناعة بأن أعداءَ المسيحية حُكاماً كانوا أو عاديين لا يُفرِّقون بين مَن هو نسطوري أو يعقوبي مونوفيزي أو ملكي كاثوليكي، ولذلك فلا جدوى مِن استمرار المشاحنات، وللحال إبتدأَ التفاوضُ بين البطريركين النسطوري واليعقوبي، أسفرَ عن قيام النساطرة في نصيبين بإعادة كنيسة دومطيانوس الكبرى الى اليعاقبة، وبدورهم اليعاقبة سمحوا لأسقف الطيرهان النسطوري صليوازخا ببناء كنيسةٍ في قلب تكريت.
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               ولم ينقطع بعد ذلك التفاهمُ والإتصالُ بين النساطرة والمونوفيزيين اليعاقبة في عهد طيمثاوس الأول، بل كثيراً ما أشار طيمثاوس في رسائله الى اليعاقبة مُعبِّراً عن موقفه مِنهم. ويُضيف إبنُ العبري في المصدر السابق(الصفحة 181 – 182) بأن جدالاً جرى بين مارطيمثاوس وجرجيس اليعقوبي ولكن ذلك الجدال قد فُقِد. كما أن البطريرك طيمثاوس فقد أقرَّ بشرعية العماذ لدى اليعاقبة، إذ في حالة عودة أي يعقوبي مونوفيزي الى أحضان الكنيسة الكلدانية النسطورية لا يحتاج الى عماذٍ جديد، لأن العماذ يتمُّ للجميع باسم الثالوث بغضِّ النظر عن الفوارق الاخرى. وإنَّ طيمثاوس بصفته عالِماً نِحريراً أبى التمييز بين النساطرة واليعاقبة والملكيين.  والدليل على ذلك هو استعانته بأبي نوح الأنباري وتعاونه مع أيوب الملكي لدى قيامه بترجمة كُتُب آرسطو الى العربية، كما طلب مِن الربان فثيون الذهاب الى دير مارمتي للإطلاع على بعض النصوص ضمن مخطوطات الدير. وكم مِن مرةٍ ناشد صديقه سرجيس: يوم كان لا يزال مديراً لمدرسة باشوش: ليذهب الى ديرمارمتي ويـَبحث عن مخطوطات وكتابات الآباء الموجودة في مكتبته والإطلاع على بعض الترجمات. وكان طيمثاوس شديداً بمواقفه تُجاه المسيحيين الآخرين، يتّخذها بصفته رئيساً للكنيسة الكلدانية المشرقية النسطورية الكبرى، ومسؤولاً للحفاظ على ارثوذكسية “استقامة” كنيسته والذود عنها وعن تعاليمها التي يُعَبَّر عنها بالمصطلح النسطوري.
 
وبالرغم مِن مكانة بطاركة المشرق النساطرة المرموقة وبخاصةٍ طيمثاوس الأول مِنهم، فليس هنالك ما يؤَيد إذا كانت سُلطتُه تسري على بقية مسيحيي المشرق مِن غير النساطرة. ولكن مثل هذه السيطرة بدأَت على عهد البطريرك (إبراهيم الثالث 906 – 937 م) حيث رفض أن يكون للبيزنطيين اسقفٌ في بغداد. كما أنَّ ماري أوردَ في (المجدل ص 135) بأن الخليفة القائم بأمر الله، أصدرَ مرسوما لصالح البطريرك (عبديشوع الثاني 1075- 1090م) هذا نَصُّه: <أوعزَ الخليفة ترتيبَكَ لنسطور النصارى في مدينة السلام والأصقاع وزعيماً لهم وللروم واليعاقبة طرّاً ولكُلِّ مَن تحويه ديارُ الإسلام مِن هتين الطائفتين مِمَّن بها يستقِر وإليها يطرأ، وجَعَلَ أمرَكَ مُمتَثلاً>.
ولم يكن لطموح طيمثاوس حدودٌ في جعل كنيسته تنبض فيها الحياة ُ متدفقة بنشاط ٍ رسوليٍّ غير مُقتصرعلى مثواها الأصيل فحسب، بل ليتعدّاه الى مُختلف بقاع الشرق النائية كالهند واليمن والصين والمناطق القريبة مِن بحر قزوين، وللراغب في الإطلاع على هذا الإنتشار العجيب عليه الرجوع الى (كتاب الرؤساء لتوما المرجي / ترجمة الأب البير أبونا ص 212 – 230) وجرى كُلُّ هذا النشاط  الهائل بالرغم مِن وجود الكنيسة في محيطٍ إسلاميٍّ كثيف! وذلك بفضل فطنة وحكمة قائدها طيمثاوس. وجاء في (خـُلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية/ الكاردينال تيسيران / ترجمة القس/المطران سليمان الصائغ ص 77) <وفي أواسط القرن السابع بذل ايليا مطران مرو قصارى الجهد في تنصير القبائل التركية المُنتشرة على سواحل الاوكسوس. إلا أن الذي وَسَّعَ أعـمال التنصير في آسيا الـوسطى هو طيمثاوس الأول (حياة طيمثاوس الأول : لابـور ص 43) وقد استخدم لتحقيق مقاصده الرسولية رهباناً مِن دير بيث عابي الذي بثَّ رُسُلَه في الأقطار. وقد جاءَ ذِكرُهم خاصة ً في تاريخ توما المرجي المُخصَّص لمشاهير هذا الدير (طبعة بج ص 238 و 259 و 265 و 278)  حيث ذكر بأن أبرشيات الكنيسة الكلدانية النسطورية زاد عددُها عن 250 أبرشية ميطرابوليطية واسقفية. بيد أنَّ هذا الجُهد العظيم أخذ بالتراجع بعد وفاة البطريرك الكبير، وبدأت حِدة التبشير بالفتور رويداً رويداً، لأنَّ خلفاء طيمثاوس لم يكونوا بمستواه مِن النشاط والغيرة، الى جانب كون عهودهم قصيرة الأمد.
 
طيمثاوس الكبير والخلفاء الخمسة
أ – علاقته مع الخليفة المهدي
لقدإمتدَّت فترة قيادة مارطيمثاوس الأول الكبير للكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية (كنيسة المشرق قبل تنسطرها) الى 43 عاماً، تعاقب على حُكم الدولة العباسية خلالها خمسة خلفاء. وقد تقدَّمَ بنا الحديثُ عن هؤلاء الخلفاء بإيجاز. ولكننا الآن نتطرَّق الى شكل العلاقة التي كانت لطيمثاوس بكُلِّ واحدٍ مِنهم.
 
قبل أن يعتليَ طيمثاوسُ الكُرسيَّ البطريركي، كان اسقفاً لبابغَش (بيث بغاش) على زمن “موسى بن مُصعـَب” حاكم الموصل الذي كان يتميَّز بالصرامة والقساوة بحسب قول ميخائيل اليعقوبي في (تاريخه2 ص 526 – 527) ومع ذلك تمكَّن الاسقفُ طيمثاوس أن يحصل مِنه على استثناء أبرشيته مِن دفع الضرائب، بفضل سلاسة حديثه وسياسته في تعامله مع الحكام المُسلمين. وما إن تقلدَ زمام الرئاسة الاولى، حتى وَجَّه اهتمامَه كما ذكر المؤرخ ماري بن سليمان في (المجدل ص 74 ) الى ترسيخ الإعتدال والتسامح الديني بين المُسلمين والمسيحيين، والعمل على بناء علاقاتٍ جيِّدة مع الخلفاء في سبيل الحصول على قسطـٍ مِن الإستقلالية الدينية لكنيسته عن طريق مرسوم خليفي. ووَجَدَ في التفاهم مع قادة الحُكم العباسي ضرورة ماسة وحيوية لخير الكنيسة فأحسن اداءَه. واستوعبَ بنظرته الثاقبة بأَنَّ بغداد ستغدو عاصمة الحضارة العالمية وسيدة الدنيا، ولكي يضمن للمسيحيين حَقَّ المُساهمة الفعالة في الحياة الثقافية والسياسية، قرَّرَ تركيز كُرسيَّه البطريركي فيها، وكان سلفُه قد نقله إليها كأمر واقعي.
 وكان للكنيسة المشرقية الكلدانية رهطٌ كبيرٌ مِن العلماء والكُتّاب والأطبّاء بالإضاقة الى ما كان لمسيحيي الكنائس الاخرى الصغيرة. فرأى مارطيمثاوس أن تقوم الكنيسة عن طريق أبنائِها هؤلاء بتأدية دور هام لخدمة المجتمع، وأن تنفذ الى صميم حياته وتُساهم في البناء العام للبلاد، وبذلك تُبعدُ عنها أية شكوكٍ أو ظنون تُحامُ حولها. كان طيمثاوس اسقفاً لبابغش أيام الخليفة أبي جعفرالمنصور، وارتقى الى الكُرسي البطريركي في عهد الخليفة (المهدي 775 – 785م) الذي يُروى عن كونه بشوشَ الطبع سخيّاً، ميّالاً الى العِلم والفلسفة هاوياً للشعر والموسيقى. أبدى تعاطفاً تُجاه المسيحيين عموماً تقديراً لعلمائِهم وأطبائِهم الذين كان يثق بهم كـثيراً ومِن بينهم طبيبُه الخاص عيسى أبو قريش. وإذ وجد المهدي البطريركَ طيمثاوس بأنَّه عالِم جليلٌ مُتمكِّن مِن عِـلم الفلك والفلسفة، إرتاحَ إليه ووثق به جداً فاستقربه منه، ثمَّ طـلب إليه أن يُترجمَ “طوبيقا” آرسطو مِن الكلدانية الى العربية. وراح الخليفة المهدي يدعوه باستمرار الى مجلسِه لإجراء النقاش في مُختلف المواضيع العلمية والدينية مع لفيف مِن الفلاسفة الآخرين. وفي بعض الأحيان يقتصر النقاش على الخليفة شخصياً والبطريرك ويدور حول شتى الامور الدينية ومِنها: (الثالوث، المسيح، المُعجزات، التنبؤات، التجسُّد،  سُلطة محمد والقرآن، ج#ريم*ة اليهود، الحقيقة! وامور اخرى . . .) وقد نشر الأب بوتمان في (الكنيسة والإسلام في العصر العباسي / القسم العربي ص 7 – 57 ) نصَّ المُحاورة التي دارت بين الخليفة المهدي والبطريرك طيمثاوس.
 
ب – محاورة الجاثاليق والخليفة
ونقتطف بتصرُّف بعضَ المقاطع مِن هذه المُحاورة: وجـَّهَ الخليفة المهدي السؤال الأول الى الجاثاليق طـيمثاؤس قائلاً:
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   
الخليفة: أيها الجاثاليق هل مِن اللائق برجُل ٍعالِم وذي خِبرةٍ مِثلِكَ يُصَدِّقَ بأن الله تعالى قد إتَّخذ إمرأة ًوأنجبَ مِنها ولداً؟
 الجاثاليق أجاب: يا أيها الملك مُحِبُّ الله، مَن هو ذاك الذي جاء بمِثل هذا التجديف على الله عَزَّ وجَلَّ!
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                الخليفة سأل عندذاك: إذاً ماذا تقول عن المسيح، هل هو واحد ٌ أم إثنان ؟
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                         الجاثاليق أجاب: <كما إنَّ الإنسان واحد ٌ مِن حيث التركيب والإتحاد، وهو إثنان أيضاً مِن حيث النفس والجسد (اللذين هما طبيعتان مُمَيَّزتان، إحداهما مركبة ومنظورة، والاخرى بسيطة غير منظورة) هكذا كلمة الله بتجسُّدِه صار بطبيعتين مُمَيَّزتين، إحداهما إلهية والأخرى إنسانية ومع ذلك فهو لا يزال مسيحاً واحداً وابناً واحداً، مِن أجل وحدانية شخصه> والقرآن الكريم يذكر المسيح في سورة “آل عمران3-44” <إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يُبشرك “بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى بن مريم” وجيهاً في الدنيا والآخرة ومِن المُقرَّبين.>
 
الخليفة: ألا تَعتقد بأن المسيح هو إبن الله؟
الجاثاليـق: إننا نعتقد بذلك بالمطلق، فالمسيح نفسُه أعلمَنا بأنه إبنُ الله وقد أشار الى ذلك الإنجيلُ والتوراة والأنبياء، ولكن ولادتَه لم تكن كبقية الولادات البشرية، بل كانت ولادة عجيبة لا يُدركُها العقلُ البشري المحدود، ولا يستطيع اللسان وصفها، إذ تَمَّت بإرادةٍ إلهية القادرة على كُـلِّ شيء.
 
الخليفة: وكيف ذلك؟
الجاثاليـق:المسيح إبن مولود قبل الدهور، وليس بمقدورنا التَطرُّق إلى هذه الولادة لأننا عاجزون عَن إدراكِها، والله تعالى غيرُ قابل للإدراك بكافة صفاته. ولكن لدينا تشبيه موجود في الطبيعة الكونية هو “الشمس”  فكما تولَد الأشعة مِن الشمس، والكلمة مِن النفس، هكذا المسيح، بما أنَّه كلمة الله، وُلدَ من الآب منذ الأزل.
الخليفة: ألا تعتقدون بثلاثة آلهة بقولكم: الآب والإبن والروح القـدس؟
 
الجاثاليـق: لا ثلاثة آلهة بل ثلاثة أقانيم: <إنَّ الإعتقادَ بهذه الأسماء الثلاثة هو الإعتقاد بثلاثة أقانيم، أعني الآب والإبن والروح القـدس، الذين هم إله واحد وطبيعة واحدة وجوهر واحد. هكذا نؤمِن ونعتقد على ما عَلَّمنا المسيحُ نفسُه  الذي تدعونه أنتم (عيسى عليه السلام) وتعلَّمنا ذلك أيضاً مِن الأنبياء، ولنا بُرهانٌ على ذلك في المخلوقات. فكما أنَّ ملكنا مُحِبَّ الله هو واحدٌ مع كلمته وروحه، وليس بثلاثة ملوك، ولا يُمكِن أن تَنفصل مِنه كلمتُه وروحُه، ولا أن يُصبحَ ملكاً دون الكلمة والروح، هكذا الله تعالى: إنه واحد ٌ مع كلمته وروحه، وليس بثلاثة آلهة، إذ لا يُمكنُ أن ينفصلَ مِنه الكلمة والروح>. وهكذا الشمس، مع أشعتها وحرارتِها، هي واحدة وليست بثلاث شموس.
 
الخليفة: ألستم تَقولون بأن المسيح وُلِدَ مِن مريم البتول؟
 
الجاثاليق: بالتأكيد نقول ذلك ونعتقد بأن المسيح مولود مِن الآب قبل كُلِّ الدهور كونه كلمته، وهي ولادة أزلية. ومولود مِن مريم البتول بكونه إنساناً، وهي ولادة زَمَنِية ومِن غير أبٍ بشري، وبدون انثِلام ٍ لبتولية والدته .
 
الخليفة: إنَّ ولادة المسيح من مريم بغير زواج هي مكتوبة ومُقرَّرة، ولكن هل يُمكن أن تَتِمَّ هذه الولادة دون انثلام بتولية الوالدة؟
الجاثاليـق: مِن حيث الطبيعة يُعتَبَرُ الأمرُ مُحالاً، ومِن غير المُمكن أن يَتِمَّ بدون انثلام بتولية الوالدة، كما لا يُمكن أن يُولدَ إنسان ولا أن يُحبَلَ به أصلاً مِن دون اشتراك رجُل مع إمرأة. أما بالنسبة الى قدرة خالق الطبيعة وموجِدها، فذلك مُستطاع، وهو ما جرى للبَتول مريم بحبلِها بالمسيح وولادِتها له دون أن تَنثلمَ بتوليتُها، لأنَّ الله قادر على كُلِّ شيء ولا يَعسُر عليه أمرٌ. ولنا على هذا الأمر برهان مِن الكتاب والطبيعة، فقد جاء في الكتاب بأن حواء أخرِجَت مِن ضِلع آدم دون أن يَحدثَ للضلع خللٌ، والمسيح “عليه السلام” صعد الى السماء دون أن يتأثر الجلد، وهكذا مريم البتول ولدت إبنَها مِن دون أن تنثلمَ بَتوليتُها أو يُصيبَها ضرَرٌ .
أما مِن حيث الطبيعة : فالأثمارُ تُولَد مِن الأشجار، والروائح مِن الزهور، والنظر تُفرزُه العَين، دون أن يحدث فيها انشقاق، فتلك هي قدرة الله التي تَفوق إدراك البشر.
 
فإن دّلَّ ما دار بين الخليفة والبطريرك على شيء، إنما يَدُلُّ على حرية كبيرة في التعبير عن الطاقات الفكرية لدى طيمثاوس والتسامح والإنفتاح لدى المهدي! لقد حاور مارطيمثاوس الكبير الخليفة المهدي بالمُصطلح الكاثوليكي الذي استوحاهُ مِن التعليم الروحي للعالم واللاهوتي الكبير سهدونا اسقف ماحوزا اريون (حاربه بشدة الأساقفة النساطرة) صاحب الكتاب الشهير “كمال السيرة”.
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  وقال طيمثاوس في إحدى رسائله (بيداويذ رسائل البطريرك النسطوري طيمثاوس الأول رقم 77) <إنَّ هذا الأمرَ (مواجهات الخليفة) كان يجري دوماً، تارة لشؤون الدولة، وطوراً لمجرد محبة الحكمة المُتَّقدة في نفسه (نفس الخليفة). فهو في الواقع لطيفٌ، ويُحبُّ أن يتعلَّم الحكمة التي يلقاها عند الآخر> واستطاع طيمثاوس الإحتفاظـ َ بصداقة الخليفة رغم كُلِّ الدسائس التي كان يَحيكُها بعض المسيحيين مِن أعدائه  للإيقاع به أمام الخليفة ولا سيما يوسف مطران مرو المعزول الذي عارض انتخابه بشدة، ثمَّ إتَّهمَه لدى المهدي بالتواطؤ ضدَّه مع الروم، إلا أنَّه كان هناك مَن يدحض هذه الوشايات ويُطلعُ الخليفة على حقائق الامور، هوعيسى أبو قريش. ولم تأتِ المصادرُ التاريخية على شيءٍ يُذكَر عن تع-اط*ي طيمثاوس مع الخليفة (الهادي 786 – 786م) وربما يعود  ذلك الى قصر مدة حكمه. ويقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 279) بأن سياسة الهادي كانت صارمة ضِدَّ المانويين. وقد غضب جداً على أطبائه المسيحيين الثلاثة وهم: عيسى أبو قريش، داود بن سرافيون، وعبدالله الطيفوري بسبب إستعصاء شفائه على أيديهم. وكاد أن يق*ت*لهم لو لم يُعاجله الموت.
 
ت – علاقته مع الخليفة هارون الرشيد
وأما عن الخليفة (هارون الرشيد 786- 809) فـيذكر المؤرخ ماري في (المجدل ص 75) بأنَّ حمدون بن علي، وشى بالمسيحيين لدى هارون الرشيد مُدَّعياً بأنَّهم يعبدون عِظام الموتى في كنائسهم، فأصدر الرشيدُ أمراً بهدم الكنائس في البصرة وغيرها مِن المدن. فتدخلت فئة مِن موظفي البَلاط المسيحيين ومِنهم: جبريل بن بخـتيشوع، عون الجوهري، عيسى أبو قـريش وابو نوح الانباري، وشرحوا للخليفة حقيقة الأمر. حينها أصدر هارون أمرَه بإعادة بناء الكنائس. وليس بمُستبعَدٍ أنَّ تدخل هؤلاء المسيحيين ذوي النفوذ قد تمَّ بدفع مِن طيمثاوس، حيث هنالك إشارة وردت قي الرسالة التي وجهها الى أفرام العيلامي مطران جنديسابور هي: <إذا سمح الله القدير باعادة بناء الكـنائس، وإذا رضي الملك بذلك، فإنَّ الأمر قد اضطرَّني الى المثول أمامه ست مرّاتٍ لهذا الشأن> (بيداويذ الرسالة رقم 39).
 
يُقال بأنَّ هارون الرشيد الى جانب عشقه للأنس والطرب، كان يميلُ الى الحديث والتحاور، ومِن بين جلساء ديوانه الذين يُسِرُّه التحدُّث إليهم ومُحاورتهم كان البطريرك الكلداني طيمثاوس الكبير. ويروي صليبا في (المجدل ص 65) موقفاً لطيمثاوس مع الرشيد في أحد لقاءاتهما: ومِن جملة ما جرى له معه ذات يوم عند انقضاء المجاس، قال له: <يا أبا النصارى، أجبني عما أسألك باختصار: أي الأديان عند الله حقٌّ؟ فقال له مُسرعاً: الذي شرائعه ووصاياه تُشاكلُ أفعال الله في خلقه. فأمسك عنه. فلما انفصل عن المجلس، قال: لله دَرُّه! لو قال النصرانية، لأَسأت إليه، ولو قال الإسلام، لطالبته في الإنتقال إليه، ولكنه أجاب جواباً كلياً لا دفعَ له…>
وعن علاقاته المتتابعة بينه وبين الخليفة الرشيد يقول طيمثاوس في رسالته الى سرجيس (بيداويذ رقم 77) <في نهاية تشرين الأول، دخلت ثلاثة أيام متتابعة عند ملكنا المظفر، وتلقاني بالفرح والبهجة وأعطاني 84000 درهم، كانت تعود الى دير مار فِثيون. ويُضيف في ذات الرسالة (بيداويذ رقم 77 وقي الرسالة رقم 37) قائلاً: <إنَّ الخليفة غادر الى البصرة، وإنَّه ينوي اللحاق به الى هناك. وكان البطريرك يُرافق الخليفة في بعض تنقلاته، حتى الى الحدود البيزنطية. فهو يكتب في رسالته <بدأنا السفر في السابع مِن شهر حزيران مِن هذه السنة183هـ / 799م، واستعملنا المطايا العامة لكي نُسرع في السير، مع إكرام الملك وهباته ونفقاته>.
لم يذكر المؤرخون أيَّ دور للبطريرك طيمثاوس بالشأن السياسي في عهد الخليفة (الأمين 809 – 813) ولا في عهد الخليفة (المأمون 813 – 833) ومِن الجدير بالذكر بأنَّ المأمون دخل الى بغداد في عام 819م بعد مكوثه في منطقة خرسان نحواً مِن ست سنوات، وعند دخوله بغداد كانت حياة البطريرك قد قاربت نهايتها حيث وافاه الأجل في 9 مِن كانون الثاني عام 823م .
وانتهت حياة طيمثاوس الأول البطريرك العظيم الذي قاد الكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية لأكثر مِن أربعة عقود، في ظلِّ الدولة العباسية التي ساهمت بالقدر الكبير في الحضارة العالمية، كرئيس كبير وعالِم قدير، لم يذَّخِر جهداً إلا وبذله في دفع المسيحيين الى الإنفتاح والمُشاركة في الحياة السياسية والثقافية والإقتصادية للدولة. عرف اختيارَ السبيل الأسلم والأفضل في تعاملِه مع الحُكّام المسلمين. نبذ أن يعيش وشعبه على هامش الحياة وفي الخفاء. ولم يكن إتهامُه مِن قبل البعض بالإنتهازية إلا نتيجة الغيرة والحقد والحسد! إن ما قام به كان شاهداً حياً على دهائه وذكائه. كان عهدُه مليئاً باليُمن والبركة لكنيسة المشرق الكلدانية النسطورية، حيث بلغت ذروة انتشارها. والى الجزء الرابع عشر عشر قريباً
 
الشماس د. كوركيس مردو
في   23/2/2015 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!