مقالات

الثقافة في الاقتصاد والسياسة

ليس هناك مصادفة في الاقتصاد والسياسة، فكلاهما حقلان يقومان على خبرات وخطط وتدبير، ونجاح أي منهما يقوم على الخبرة المتراكمة التي تؤسس لها التجارب والعلوم المتاحة في لحظة معينة أو مجال معين. وكلاهما يحتاجان إلى المبادرة والتدبير، وهذه تؤسس لها الخبرات المتحصلة التي تفرض نفسها يومًا بعد يوم عبر التاريخ، وقد فوّض المثقفون السياسيون لإنجاز ما كان عليهم إنجازه.

ولإيضاح ذلك، نتوقف عند الباحث السوري حسن أحمد إبراهيم الذي يذكر في بحث له أنه منذ بدايات التجربة الإنسانية عرف الكائن البشري مثل غيره من الكائنات كيف يتدبر قوته وحاجاته، لكنه فاق كل الكائنات الأخرى في مراكمة الخبرات والبناء عليها، وكل منها تقود إلى ما بعدها الأكثر تطورًا، إلى أن استوعب هذا الكائن كيف يخطط لكل مرحلة، وكيف يتجاوز الإرباكات، وكيف يتحمل مسؤولية قراراته فيتجنب كثيرًا من الإخفاق، وكيف يطور الإنتاج والأسواق، وغير ذلك من الخبرات.

إن سعي الإنسان الحثيث لتطوير وجوده كان في أساسه البناء على الخبرات المتحصلة والموظفة في الوصول إلى غيرها، إلى أن تفرعت نتيجة الحركة الديناميكية ونشاط الهيئات وتوافر الاختصاصات القائمة على أسس علمية تزداد دقة وتزداد خبرة البشر ودرايتهم، وهكذا وبأثر الجهود والتضحيات والدمار والدماء أصبحت البشرية على غير طريق من طرق التدبير الاقتصادي تتنافس في إثبات جدارتها. وهذا كله ذو ارتباط وثيق بتطور الوعي ودراية أحوال الكون الذي بدأ الإنسان يعيه رياضيًا أكثر فأكثر، ويتوجه نحو قرارات وتحركات مسؤولة، ما جعل فاعلية النشاط تزداد وتنعكس على حياة الإنسان فتطورها، وبذلك تخلق العلوم التحديات لنفسها، فكل حركة إلى الأمام تؤسس لتحديها وتجاوزها، أي الخلاص من إرباكاتها وتفعيل ممكناتها التي بدت مجددًا. وربما كان تحدي العلم لذاته، من أهم أسباب وتحركات التطور البشري والإنساني في الاقتصاد وغيره من المجالات.

ويبقى للأنانيات فعلها وآثارها، فحب التملك والاستئثار بمردود النشاط، جلب التمايز في الحصول على المكاسب والخبرات، حتى دخل قلة من الناس مناخ الترف والغنى الخرافي، ودخل غيرهم أنفاق الفقر والعوز، حتى استحوذ واحد في المئة من البشر على تسع وتسعين في المئة من الاقتصاد العالمي، حسب تقرير لمنظمة الإغاثة العالمية – أوكسفام.

إن دخول العالم مجال الثقافة الرقمية وعلومها وتكنولوجياتها أتاح للبشرية تطورات اقتصادية غير مسبوقة، لكنه أيضًا أتاح مزيدًا من التحكم بملكية الوسائل والإنتاج والقدرة على التدبير وجني الأرباح، ومزيدًا من إفقار الفقراء وازديادهم، أو التحاق أعداد كثيرة بهم.

وكما يوضح الباحث، لكي يكون الاقتصاد ناجحًا في نظر رأس المال، يجب أن يؤدي إلى أرباح وافرة. لكنه لكي يكون ناجحًا من وجهة نظر الإنسانية، يجب أن يحمي الناس من الفقر والجوع والعوز احترامًا لإنسانيتهم. وهو في نظر الدول علاقات سياسية وسيادة وأدوار إقليمية ودولية في مجتمع أو عالم متعدد. وهكذا حال الاقتصاد عبر السياسة إلى حركة دولية عابرة للقارات والحدود، تغذي أطماع رأس المال، علمًا أن وجود المال بكثرة في البلدان لا يشير إلى تطور اقتصادها ولا تقدمها، كما في الأموال المتوافرة من الاقتصاد الريعي مثل النفط في بعض الدول، مترافقًا بمختلف العلاقات الإنسانية ونظم الحكم وعقل المجتمع البطريركي – الأبوي. فالتطور الاقتصادي هو الذي ينميه العمل الذي يهتدى بالعلوم الحديثة والخطط وحسن التدبير الإنساني. إنها ثقافة العمل المبنية على جهود المواطنين.

ونستخلص من ذلك، الاقتصاد ثقافة أولاً، وتراكم خبرات وتوزيع عادل للثروة ووعي حاكم عبر نظريات متنافسة. ومن شأن ذلك حصول البحبوحة والوفرة المادية التي تسهل جريان أمور الحياه، مع أن هذه لا ترتبط بالأمور المادية فحسب، وهنا نحتاج إلى كثير من التوازن بين المادي والمعنوي، وانعكاسه في نظم الحياه والقوانين.

عرّف محمد عابد الجابري التنمية التي يجب أن تتجاوز العشوائية في كل المجالات بأنها:«هي العلم حين يصبح ثقافة». والتنمية كما يراها الباحث «تتجاوز الواقع تجاوزًا إيجابيًا»، أي الإضافة إلى الواقع بما يطوره ماديًا ومعنويًا، والأهم إنسانيًا.

من أجل تحقيق نمو اقتصادي أفضل، يجب تمكين ثقافة العمل في بلداننا، العمل المنتج وثقافته الصبر وتمكين الجهود من أن تبذل وتطور الأفراد والوطن، فهو ليس حضورًا إلى مواقع العمل فحسب، إنه أداء مسؤول وإنجاز، تلافيًا للشعور بالنقص وقلة القيمة والتفكير بالهجرة. والبلدان التي تراكم خبرات أكثر وتجتهد في توطينها في مواقع الإنتاج، هي التي تضع نفسها على خط النجاح والخروج من الضعف والإعاقة، فتنتزع مكانتها عالميًا. وهذا يجب ان نسأل عنه الثقافة السائدة، وعلى رأسها الثقافة السياسية المولدة لأنظمة الحكم، التي تحتكم إلى النقد والتطوير أو تصم آذانها وتبيد منتقديها. إنه الانتقال من الإخفاق إلى النجاح.

وإذا كان الاقتصاد منتجًا ثقافيًا أولاً، فالسياسة كذلك، فلا نظام في السياسة لا تنتجه ثقافة الناس الذين يعيشونه، وهذا تتنوع مواقع إنتاجه، هل هي العصبيات الوشائجية ومراكز القوى، الأفراد المتساوون في حراكهم ونشاطاتهم الديمقراطية المتجاوزة لنظام الاستبداد، والمفعمة بالتسامح، والحريصة على القانون؟.

فالمشكلة العويصة، على حد قوله، وجود الثقافتين في ميدان واحد، وقلة هي المجتمعات التي خلصت إلى ديمقراطية غير مشوبة باستبداد لاحق. فأن نكون أمام كتلتين متنافستين قويتين ومتشابهتين في الاهتمامات والدور، ولايمكن الهروب من إحداهما إلى الآخر، تحت زعم الديمقراطية الذي يطمح إليها الناس المحرومون من شكلية الديمقراطية.

صراع أو صدام القوى ناتج عن عدم التجانس في التوجهات والمصالح، أي الثقافة التي تغذي هذه القوى، ما يجعل البلاد تحت رحمة هذه النزاعات ذات الصبغة السياسية الاقتصادية، لكنها الثقافة في مجال الرؤية أولاً.

سلطة المثقف هي سلطته على الوعي، وبمقدار ما تكون سلطته ناتج حريته تكون قدرتها على استثمار هذا الوعي وإدارته، والأهم من ذلك هو الخروج من الوعي الدوغمائي أو الفئوي المدمر. وسلطة المثقف هنا يكون دورها ومدى فاعليتها، وهذه تتعزز بالمثقف الجمعي الذي تحدث عنه غرامشي.

الخروج من ثقافة الطبيعة البيولوجية، يعنى، بمفهوم الكاتب، المرور بالتحولات التي صنعها نشاط البشر في ميادين الحياة، إذ لا يتلاحمون بالجينات ولا الصلوات، بقدر ما يتلاحمون بإنسانية الإنسان وثقافته العقلانية ومصالحه. بحيث يقدر على تمكين النظم السياسية التي تساير هذه الثقافة وتعيد إنتاجها وتطويرها كلما كان الأمر ممكنًا، لا أن ترفع اليافطات وعلى جانبيها تجري الارتكابات والحماقات الحاطة من قدر الإنسان ومكانته، أو رفع شعار خلاصه على النمط الإيمانى الذي لا يتأتى إلا بعد موته.

قليلة هي البلاد التى لم تعانِ من الاستبداد في تاريخها، والاستبداد يساعد على إنتاجه ودوامه استمرار المجتع الأهلى فى التجدد والاستدامة. لكن كثيرًا من بلدان العالم تجاوزته نسبيًا، أو تجاوزت أشكاله الهمجيه التي تعد بها مجتمعات منتجي الار*ها*ب، وإذا كانت هذه واضحة في تحويل ثقافتها المتزمته وأفق عقلها المغلق، إلى استثمارات ميدانية، فإن أيديولوجيات أخرى كثيرة تنشط في هذا الاتجاه نشاطًا مواربًا أو مموهًا.

وبمقابل ذلك، نعتقد من واجبات الثقافة ومناهجها أن تعزز وتمكن العقلانية والديمقراطية والعلمانية والحداثة في هذا العصر، وأن تسخر إمكاناتها لذلك عبر منتج ثقافي غرضيته غير مبطنة بما يسلبها توجهها، فتساير الفساد والفردانية، وهذا يُعد من واجبات أو مهمات الأحزاب التي هي مشروعات ثقافية في أساسها تُستثمر وتُوجه سياسيًا، والأحزاب حينما تشكل الحكومات وتقيم السلطات، يفترض أن تحاسب الحكومات والسلطات المنتخبة على مشروعاتها التي أعلنتها ووعدت بها الناس. لكن الأحزاب أمر أخر، فهي يجب أن تحاسب على إنفاذ مشروعاتها الفكرية الثقافية من خلال نشاط السلطات التي أنتجتها. وكلما لم يحاسب الشعب أو ممثليه السلطات والأحزاب ويغدو تابعًا لها مؤيدًا لسياساتها ومشروعاتها المعلنة إعلاميًا والمخفقة إجرائيًا نكون أمام حالة أيديولوجية استبدادية موصوفة. من مواقع التقاطع بين المشروعين الثقافي والسياسي، اعتماد ثقافة الحوار، والثقافة كما السياسة، تغتني وتصبح أكثر نجاحًا وتجنبًا للخطأ أو الإخفاق، وأكثر مرونة ووضوحًا في رؤيتها «الخروج من ثقافة الترادف» و«تمكين ثقافة الاعتراف»، بالأحرى الحق في الاختلاف واحترام المختلف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!