مقالات دينية

كنيسة المشرق: الاضطهادات الرئيسية عبر التاريخ

سامي خنجرو

samdesho
كنيسة المشرق : الاضطهادات الرئيسية عبر التاريخ

ان كنيسة المشرق اقتبلت البشارة الانجيلية على أيدي الرسل: مار توما أحد الاثني عشر الذي بشّر الشرق وصولا الى الهند، مار ادّي احد الاثنين والسبعين الذي بشّر في بلاد النهرين العليا، في الرها والمناطق المحيطة بها، ومار ماري تلميذ أدّي الذي بشّر بلادنا نزولا الى عاصمة الامبراطورية الفارسية الارشاقية ساليق/المدائن. وبمرور الزمن، كوّنت الجماعات المسيحية المتزايدة أبرشيات. واستطاع مطران العاصمة ساليق مار فافا في أواخر القرن الثالث، ان يتزعّم اخوته الاساقفة الاخرين وينال لقب الجاثاليق ولاحقاُ البطريرك، وكلاهما تعني الاب العام.

ان كنيسة المشرق في القرون الثلاث الاولى كانت تنعم بالراحة والسكينة. وما ان صدر مرسوم ميلانو سنة 313م ، وفيه أطلق قسطنطين الملك حرية العبادة واعتنق المسيحية وأصبحت الديانة الشائعة في امبراطوريته، بدأت الاضطهادات على كنيسة المشرق الفتيّة. وعندما تبوّأ شابور الثاني العرش الفارسي، شنّ عليها اضطهادا عنيفا دام قرابة أربعين سنة ولذا سُمي بالاضطهاد الاربعيني، من سنة 339-379م. بحجة ميل المسيحيين الشرقيين الى الامبراطورية الرومانية المسيحية، اضافة الى رفض البطريرك الجاثاليق مار شمعون برصباعي دفع جزية الرأس مضاعفةً. واستشهد في هذا الاضطهاد مار شمعون مع كهنته في كرخ ليدان قرب الاحواز سنة 341م،حيث كان الملك يقيم في مقره الصيفي، اضافة الى الالاف من المؤمنين في بيث ارامايي وبيث كرماي وحدياب ونينوى وغيرها من الاقاليم الامبراطورية الفارسية. . ويقول المؤرخ سوزمين ان عدد الشهداء الذين عرفت اسماؤهم وحدهم يربو على 16,000 شهيد، اما المسعودي( +956 ) في كتاب التنبيه والاشراف يقول: ان عددهم بلغ 200,000 شهيد. ونظرا لهذا العدد الهائل من الشهداء، لذا سميت كنيسة المشرق بكنيسة الشهداء.

والاضطهاد الثاني جرى في السنوات الاخيرة للملك الفارسي يزدجرد الاول، بعد مجمع مار اسحق سنة 410م. حيث أفزعه ازدهار المسيحية وتقدّمها. بدأ الاضطهاد في مدينة هرمزارداشير في خوزستان، ثمّ طال بيث لافاط وبيث كرماي وكذلك حدياب. أمّا الملك يزدجرد الثاني( 438-457)م، فكان رجلا متقلباً. وأخذ يقصي المسيحيين عن وظائف الدولة المرموقة والرتب العسكرية الرفيعة، ونظّم حملة ضدّهم وخاصة في كرخ سلوخ (كركوك) بقيادة طهمزكرد. وقبض جنوده على المطران يوحنا وعلى عدد من الاساقفة والاشراف اضافة الى جموع غفيرة من المؤمنين وأعدموهم سنة 446م. وقد أثّر هذا الاندفاع الى الاستشهاد في نفس القائد طهمزكرد، فاذا به ينضمّ الى الدين المسيحي. ولم يثنه وعيد يزدجرد فمات، معلّقا على الصليب في ايلول سنة 446م. وقد بنيتْ في محل استشهاده الكنيسة الحمراء شرقي كركوك، وهي الان مقبرة الكلدان. وفي أيام الملك الفارسي خسرو(كسرى) الاول أنوشروان، ونظراً للنشاط الرسولي الذي أظهره مار ابا الجاثاليق (540-552)م، فان كهنة المجوس توصّلوا الى دفع كسرى الى نفي البطريرك الى اذربيجان، واعتبروه اي الجاثاليق جاحداً مرتدّاً عن دين ابائه، دين الدولة الرسمي. ورغم كل المضايقات، فقد ظل البطريرك العظيم يدير شؤون كنيسة المشرق برسائله الراعوية.

ان كنيسة المشرق فقدت العديد من رؤسائها وابنائها في هذه الاضطهادات. لكنها خرجت من هذه المحنة الدامية ناصعة جميلة، راسخة في ايمانها، ثابتة في مبادئها وشجاعة في المجاهرة بالقيم السامية والاخلاق العالية. وحقا لقد اصبح الدم الغزير الذي ارتوت منه ارض فارس، بذرا خصبا للمسيحيين الذين ما ان خمد نار الاضطهاد، حتى راحوا يستعيدون كيانهم وينظّمون شؤونهم وينشرون هذه الديانة التي تعذر على السيوف والحراب القضاء عليها..

وعندما سقطت الامبراطورية الفارسية على أيدي العرب المسلمين سنة 644م، فان الخلفاء الراشدين ثم الامويين والعباسيين، اعتبروا المسيحيين واليهود أهل الذمة، وشرّعوا قوانين مجحفة بحقّهم لغرض تمييزهم عن المسلمين، ومنها: طريقة قص الشعر، اللبس الخارجي، شدّ الزنّار وعلامات اخرى وضعت على بيوتهم وأعمالهم لتمييزهم عن المسلمين، بمعنى اخر احتسابهم مواطنين من الدرجة الثانية. واشتدّ هذا التمييز في زمن الخليفة العباسي المتوكل (847-861)م ابن المعتصم. ولم تثنِ هذه المضايقات من انتشار المسيحية في الاقاليم البعيدة، فنرى البطريرك طيماثاوس الكبير(780-823م) وخلفاءه يرسلون مبشرين الى اواسط اسيا والهند والتبت والصين. وبلغت كنيسة المشرق أوج عظمتها ما بين القرن التاسع ونهاية القرن الثالث عشر. حيث بلغت المقاطعات المطرافوليطية أكثر من ثلاثين مقاطعة، وعلى ما يزيد على 200 مئتي أبرشية، من الصين شرقا الى البحر المتوسط وقبرص غرباً.

سيطر هولاكو أحد أحفاد جنكيزخان على بغداد سنة 1258م، لكنه عطف على المسيحيين مدفوعا من زوجته المسيحية (طقوزخاتون). فأعطى الجاثاليق مكيخا الثاني 1257-1265م قصرا جديدا للاقامة فيه في بغداد. وعندما تولّى قازان الحكم واعتناقه الدين الاسلامي سنة 1295م. اضطهد المسيحيين وضايقهم كثيرا. فدمّرت بعض الكنائس أو حوّلت الى مساجد، اضافة الى نهب دار البطريركية. وبدأ أفول نجم كنيسة المشرق. وحينما ظهر تيمورلنك (1336-1405) وتولّيه السلطة في نهاية القرن الرابع عشر، واعتناق معظم المغول الاسلام، تكبّدت كنيسة المشرق خسائر فادحة، وفقدت عددا كبيرا من أبنائها. فاضطهد تيمورلنك المسيحيين ولاحقهم، وانتهت المسيحية في بلاد الصين والتبت واواسط اسيا كليّا، باستثناء الهند. امأ المسيحيون في بلاد فارس و ما بين النهرين، فاضطرّوا الى الفرار واللجوء نحو مناطق كردستان الجبلية. وهكذا مسحت حملة تيمورلنك العسكرية العديد من أبرشيات كنيسة المشرق، وصارت الابرشيات النائية معزولة عن مركز رئاستها الام وعن بعضها البعض. واستقر الكرسي البطريركي أخيراً في دير الربان هرمزد قرب القوش.

انّ هذا التراجع والانحصار لكنيسة المشرق، كان سببا مباشرا لاقدام البطريرك شمعون الباصيدي (1437-1476)م، بحصر الرئاسة الكنسية بعائلته فقط (العائلة الابوية). فقام بسنّ وادخال نظام الوراثة في المنصب البطريركي لكنيسة المشرق، وأدّى الى وصول أشخاص غير جديرين وغير كفوئين وصغار السن الى السدّة البطريركية. وساهم ايضا بدوره بتراجع كبير لكنيسة المشرق على مختلف الاصعدة. لذا نرى بوادر حركة اصلاحية في كنيسة المشرق، كنتيجة لسن هذا القانون. هذه الحركة، اجتمعت في الموصل سنة 1551م، وكانت مؤلّفة من اسقف اربيل واسقف سلامس اضافة الى اسقف أذربيجان، مع عدد كبير من الكهنة والرهبان والوجهاء من الموصل ودياربكر وسعرد واربيل واورمية ونواحيها. وفي هذا الاجتماع، قرّر المجتمعون اختيار الراهب يوحنان سولاقا من عائلة بلّو، رئيس دير الربان هرمزد، بطريركا، وقرّروا ارساله الى روما. وهناك أعلن سولاقا ايمانه الكاثوليكي في عشرين شباط 1553م. ثم رسم اسقفا، وقام الكرسي الرسولي بتثبيته بطريركا، من يدي البابا يوليوس الثالث، بمرسوم مؤرّخ في 28 نيسان 1553م، وألبسه الدرع المقدّس باسم شمعون الثامن سولاقا. وهكذا بدأت سلسلة بطريركية كاثوليكية جديدة في كنيسة المشرق باسم الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. بينما بقيت سلسلة الربان هرمزد محافظى على اليمان الشرقي النسطوري. وحين رجوع سولاقا الى الشرق، ثبّت كرسيه في دياربكر. وبتحريض من البطريرك النسطوري شمعون برماما في القوش، استدعى حاكم العمادية تحسين بيك البطريرك سولاقا لزيارة رعيته في منطقة البهدينان. وما ان وصل البطريرك الى العمادية في اواخر 1954م، سجنه الحاكم وعذّبه عذابا مريراً لاكثر من ثلاثة أشهر. ثم ألقي في بحيرة على الزاب الاعلى جنوب شرق العمادية بعد أن وضعوه في كيس، فمات شهيداً. وعدّته الكنيسة الكلدانية شهيد الاتحاد مع الكرسي الروماني.

وفي سنة 1743م، قام الحاكم الفارسي نادرشاه والمعروف ب (طهماسب) بحملة بربرية على مدن كركوك، أربيل والموصل والقرى المحيطة بها. وحذا حذو تيمورلنك، فق*ت*ل الالاف من المسيحيين وسبا اخرين، كما هدم عددا كبيراً من الكنائس والاديرة.

وبين الاعوام 1831-1836، قام ألامير محمد باشا الراوندوزي المعروف بالامير الاعور-ميره كور- بحملة شرسة على قرى الموصل وبهدينان لتوسيع امارته. ففتك فتكاً شديدا بقرى ألقوش وتلكيف وتللسقف والقرى المجاورة الاخرى والقرى اليزيدية، اضافة الى الاديرة، وخصوصاً دير الربان هرمزد. فق*ت*ل عدداً كبيرا من سكان هذه القرى ونهب وسلب ما استطاعت قواته الغازية. ومن الذين ق*ت*لوا في هذه المجزرة، الانبا جبرائيل دنبو مجدد الرهبنة الانطونية الهرمزدية الكلدانية،

وفي سنة 1844م، أقدم أمير البوتان في تركيا بدرخان بيك، بحملة شرسة على المسيحيين في امارته. وق*ت*ل الالاف من أتباع كنيسة المشرق (الاثوريين). ولم يوقف حملته الا بتدخل الدول الاوربية التي ضغطت على الحكومة التركية لايقاف واعتقال بدرخان.

وفي سنة 1915، خلال الحرب العالمية الاولى، قامت الامبراطورية العثمانية بشن حملة اعتقالات في صفوف المسيحيين في تركيا، خاصة بعد ظهور بوادر خسارتهم في الحرب. وأسفرت هذه الحملة على ق*ت*ل وتشريد عشرات الالوف من الارمن والكلدان والاثوريين، واصبحت تركيا شبه خالية من المسيحيين. أما الناجون من الحملة، فهربوا الى سوريا والعراق مشيا على الاقدام. وق*ت*ل في هذه الحملة مار بنيامين بطريرك الاثوريين، اضافة الى العلّامة اللغوي مار توما اودو مطران اورمية الكلداني، ومار ادّي شير العلّامة المؤرّخ مطران سعرد الكلداني، اضافة الى المطران يعقوب اوراهم مطران الجزيرة الكلداني والذي لاقى عذاباً لا يوصف.

ولا ننسى ما جرى في سميل سنة 1933م وصوريا سنة 1969م من ق*ت*ل عدد كبير من المسيحيين الاثوريين والكلدان على أيدي زمرة أثيمة محسوبة على الحكومة العراقية، دون اتّخاذ أي اجراء ضدّها.

وقبل شهرين، سيطر مقاتلو الدولة الاسلامية في العراق والشام (د*اع*ش) على مدينة الموصل وقرى سهل نينوى المسيحية. وتم تشريد أكثر من 100 ألف مسيحي من قراهم، اضافة الى عدد كبير من اليزيديين والشبك والكاكائيين وغيرهم من الاقليات. لقد تركوا قراهم وفرّوا منها بملابسهم الى كردستان، الى مدينتي أربيل ودهوك وقراهما وخاصة المسيحية منها. وهم الان في حالة مزرية، وتحاول الكنائس ومؤسساتها والمؤمنون من أتباعها، والفاتيكان اضافة الى حكومة اقليم كردستان توفير المأوى والمستلزمات الضرورية لهم للتخفيف من هول الكارثة. ويظل مستقبلهم في مهب الريح، خاصة وان المدارس والجامعات على أبوابها، والشتاء قريب. انهم بحاجة ماسة الى صلواتنا ومساندتنا. ولا ننسى شهداء مذبحة كنيسة سيدة النجاة  في بغداد، والشهداء المطران فرج رحو رئيس اساقفة الموصل للكلدان والاب رغيد كني ورفاقه الشمامسة، اضافة الى الاب بولس اسكندر وجميعهم استشهدوا في الموصل بعد ان تمّ اختطافهم من قبل جماعات مسلحة، لعدم وجود سلطة قانون. فالمسيحيون الضعفاء هم المستهدفون، وهم يدفعون ثمن ايمانهم شهادةً ليسوع المخلّص.

لنشارك الاب الاقدس البابا فرنسيس والقادة الكنسيين الاخرين وجميع الخيّرين للصلاة من اجلهم وسلامتهم. يا مريم العذراء، ملكة السلام، امنحينا السلام، امين.

سامي خنجرو – استراليا..

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!