مقالات دينية

بداية الفنون التشكيلية المسيحية

بداية الفنون التشكيلية المسيحية

بقلم / الفنان التشكيلي  وردا إسحاق قلّو

     بدأت الفنون التشكيلية مع الإنسان القديم قبل آلاف السنين عندما كان الصيد مهنته الأولى لكسب قوته اليومي ، فكان يرسم الحيوانات التي يسعى إلى صيدها على جدران الكهوف ، ومن أقدم تلك الرسوم هي التي اكتشفت في كهف لاسكو في جنوب فرنسا والتي تحتوي على رسوم الخيول والغزلان والأبقار . كما اجتهد في تلوين تلك الرسوم بلون واحد كالأسود والأحمر والأصفر فكان الرسم أول الفنون التشكيلية في التاريح ومن بعده جاء النحت والخزف وفن العمارة وغيرها .  

    بعد الإيمان بالمسيح ورسالته ظهر الفن المسيحي ويسمى بالفن المقدس ، تأتي أفكار هذا الفن للفنان الذي يتأمل بعمق في الموضوع الإيماني الذي يتوخى الوصول إلى عمقه مستخدماً إلهامه الروحي الذي يرفعه إلى تجسيد تلك الأفكار ونقلها على لوحته ،  وبها يهدف إلى التعبير عن أهداف مقدسة لكي يحدد الجانب اللاهوتي بأعماله ، ومن خلالها يرفع بها عقلية الناس إلى المستوى الروحي وكما يفعل الواعظ ، لأن لوحته أو نحته أو جدارية الفسيفساء وما شابه ذلك من الأعمال ستنقل الفكرة إلى الناظربكل وضوح .

  بدأ الفن مع بداية المسيحية ، وأقدم اللوحات في تاريخ المسيحية تعود إلى حوالي عام 70 م . وأقدم تمثال كان لتابوت منحوت يرجع تاريخه إلى بداية القرن الثاني . ثم برز الفن بعد أعتراف الدولة الرومانية بالمسيحية لكي تعيش الكنيسة في عصر الحرية فأخذ المؤمنون يعبّرون عن أيمانهم برموز ورسوم وتعابير فنية جميلة فتقدم الفن في الشرق الأوسط على ضفة نهر الفرات في المنطقة المسمات ( دورة أوروبس ) وفي الدياميس على ضفة نهر نيبر في روما وحتى بنفس الطريقة التشكيلية . وفي الفن الهيلينستي استعمل الفنان المسيحي أساليب وأشكال فنية يونانية رومانية بطريقة هندسية ، وتصوير الأشخاص والمواضيع ( الراعي ، المعلم ، اللباس ، الحركات ، الحيوانات .. ألخ ) وطريقة التعبير نفسها ، وفي خط التقليد اليوناني حفظت المسيحية التوازن والإنسجام العقلي ، والأحترام للشخص دون أن يشدد على الشعور والعواطف .  

   وهكذا انتشرت الفنون التشكيلية في العالم المسيحي ، أما بعد ظهورالإسلام فمنذ بدايته صار إنتكاسة كبيرة وفترة مظلمة لكل الفنون التشكيلية ، فحرم فن التصوير ( الرسم والنحت ) وأقتصرت الفنون الإسلامية على الخط العربي والزخرفة الأسلامية وهذه لا تدخل في قائمة الفنون التشكيلية العالمية . أما سبب منع الإسلام لهذه الفنون فجاء بسبب حديث لرسوله الذي نقله البخاري في صحيحه ( 5954) ، فقال محمد : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون الله بخلقه ) وفي صحيح آخر للبخاري المرقم ( 5950) فيقول ( إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون ) أي الرسامون والنحاتون . واستمر رسول العرب في توضيح حديثه ليقول للذين أطلق عليهم المصورون ( إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون ، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم ) وقال ( إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ) ولهذا تجردت بيوت العبادة الإسلامية من الرسوم والمنحوتات الفنية وما تزال بعض البلدان لا تحتوي على معهداً للفنون الجميلة . رأي الإسلام بالفنون التشكيلية أنعكس على تطور الفنون في البلدان التي دخلها وحتى على الفنون المسيحية في تلك البلدان .

   كل الأديان تُعَبّر عن معتقداتها بتعابير حسية مادية كالكتابة ، والرسوم ، والموسيقى وأشكال هندسية مرسومة كشعارات أو عن طريق رسوم تشكيلية أو زخارف ، وهذه التعابير بالنسبة إلى المسيحية ما هي إلا رموز محدودة تقود إدراك المؤمن إلى أهداف لاهوتية تفوق تلك الإشارات التي لا يمكن أن تقود الإنسان إلى كامل الإستيعاب لما تشير إليه ، بل تساعده في إدراك الحقائق المتوخاه .

   تجذر الفن المسيحي في الحضارات التي عاشها لكي يعطي لكل حضارة طابعها الخاص كالحضارة المصرية وحضارة بلاد الرافدين وبلاد الشام وبلاد فارس وغيرها مع إحترام السلطات الحاكمة على بلدانها . وهكذا الحال في الغرب حيث الحضارة اليونانية القديمة المشهورة بفنها التشكيلي الهندسي والتي ركزت على أهداف كثيرة منها روحية ومنها سياسية أو إجتماعية لهدف الدفاع عن الحرية والحقوق والحياة الديمقراطية . أما روما فقد وضعت أنظمة صارمة بفضل الجيوش المدربة ، وشدة القوانين، علماُ بأنهم ليسوا مفكرين وفنانين كاليونانيين ، بل رجال عمل وهندسة وفتح الطرق .   

   في المسيحية بدأت الفنون التشكيلية منذ القرن الأول . أما عن عصر إزدهاره فكان في القرن الثالث عشر في أوربا . كان الرهبان يرسمون مخطوطات زخرفية في الكنائس فالهمت تلك الأعمال الفنانين التشكيليين كليوناردو دافنشي الذي رسم لوحات زيتية رائعة كلوحة العشاء السري ، والفنان مايكل أنجلو الأكثر شهرة في عصر النهضة ، وجونتو الذي كان رساماً ومهندساً  معمارياً ، وغيرهم . أسست أناملهم مدارس الفن التشكيلي . وكانت الكنيسة تشجع الفنون التشكيلية في القرون الوسطى ، بل تُجبِر الفنانين لرسم الكنائس فدفعت بالفن التشكيلي إلى النهوض والتطور، وأكتشف الفنانون مدارس مختلفة في أنواع الرسم كالواقعية والإنطباعية والرمزية والسريالية والتعبيرية وغيرها .

    أما عن التركيز على المعنى الروحي الرمزي على حساب التعبير الطبيعي الجسدي ففي الغرب حفظ على التعبير المتوازن الطبيعي لأن المقصود من فنه ليس إلا تقديم البشارة الإنجيلية على إدراك الشعب البسيط دون الإهتمام مباشرةً بجمال الشكل كالفن الهيلينستي  ، لكن في الشرق الأوسط أخذت المسيحية تتجاهل في تعبيرها الفني التشكيل الجسدي الطبيعي وذلك خاصةً تحت تأثير الفلسفة الأفلاطونية . الصورة ليست الهدف في العبادة ، وإلا فتصبح وثناً ، بل كل الفنون الدينية ما هي إلا رموزاً ترمز إلى أشياء تفوقها ، وإلى سر غير منظور تشير إليه ، مع أن الصور تجذب نفس الإنسان إلى التأمل بالحقيقة الأصلية وإلى التقرب من هدفه الإيماني  .فالصورة ليست هي الهدف الأسمى الذي يفوق ما في معنى الصورة أو المنحوتة المنظورة والتي تشير إلى سر غير مرئي . كما أن الصور تجذب الناظر إلى التفكيربحقيقة الموضوع المرسوم لتقربه من الهدف .

   كان الفن التشكيلي قليل الإستعمال لخدمة إيمان أبناء العهد القديم ، لكن عندما تجسد ابن الله بينناعبرت صورته عن الإنسان الكامل والحقيقي الطاهر وكما يريده الله ، أو كما خلقه منذ البداية وصورته كانت تُعبّر عن محبة الله للإنسان ، بل كانت كصورة الله المنظور والملموس المتحدة بصورة الإنسان المخلوق الكامل ، لكن ليس ككمال المطلق لله طبعاً .

   في هذا العصر أظهرت الفنون المسيحية في الصور والتماثيل التي ترمز إلى شخصيات أرضية وسماوية ، أما الفن المسيحي القديم فمر في عدة مراحل ، منها في عهد الأضطهاد في القرون الثلاثة الأولى والتي نقلت إلينا رسومات جدارية وصور نحتية بارزة على ألواح التوابيت الحجرية وعلى القبور ، ومن الرموز القديمة التي ظهرت كانت للصليب والسمكة وخاصة على القبور .  أما ما بعد عهد قسطنطين الملك ، فبدأت النهضة الفنية ببناءً هندسياً معمارياً وخاصة كنيسة القديس بطرس والقديس بولس وكنيسة الصليب المقدس وغيرها . أما في القسطنطينية فبدأ قسطنطين ببناء عشرات الكنائس في الأراضي المقدسة وفي القسطنطينية وسائر الأمبراطورية وخاصة بناء بناية الباسيليكية ( الحكمة الإلهية ) أي كنيسة ( آية صوفيا )  ، والقديسة أيرينة ، والرسل القديسين . وفي أورشليم الباسيليكية مع دائرة القبر المقدس ، وبيت لحم مع مثمن مغارة الميلاد . أستعمل في تزيين الكنائس أعمال فسيفسائية عظيمة حيث يظهر اللاهوت المسيحي في أجمل لباسه بتعبيره التشكيلي وذا ألوان ساطعة . أولاً ظهر الصليب المنتصر المرصع بالجواهر على السماء الأزرق أو الذهبي وسط الورود والنجوم ، ثم من بداية القرن الرابع أخذت صورة المسيح مكاناً بارزاً في الصدر ، جالساً مثل الملك الحاكم المجيد وسط الرسل والأحياء الأربعة وكما يوصف المنظر سفر الرؤيا ويتقدم نحوه في الصورة صفوف الخراف ، من مدينة أورشليم وروما ، وبعدئذ الشهداء والقديسون ومشاهد أخرى مستنبطة من العهدين ، والبسطاء الأميين يقرأون هذه الصور ككتاب التعليم المسيحي المصور فيصلون إلى الأهداف المرسومة من أجلها .

إلى اللقاء في مقالات أخرى تتناول المراحل اللاحقة .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!