مقالات سياسية

ذكريات من الماضي العراقي القريب (2)

الكاتب: عبدالله النوفلي
 
ذكريات من الماضي العراقي القريب (2)
نكتب كما يكتب غيرنا وكما كتب الأقدمين؛ منهم من قام بأرشفة معلوماته وكتب عن ذكرياته الشخصية، ومنهم من كتب عن البلدان والسفرات التي قام بها، لكن سلسلة مقالاتي هذه لن تكون ذكريات شخصية ولا خبرة شخصية بقدر ما هي واقع حال عشته كغيري من العراقيين على أرض الواقع في زمن كانت الأجواء ملتهبة والدخان يتصاعد من كل مكان خصوصا عندما أدرك من كان بيده السلطة آنذاك أن الأمور تزداد سوءا وأن الأعداء سيعملون كل شيء من أجل تحقيق أهدافهم فقد أحاط المدن بدخان كثيف وكانت ألسنة اللهب المصاحبة للدخان تتصاعد وبكثافة وخصوصا في المناطق الحيوية؛ كونهم كانوا يضنون أن طيران (الأعداء) سوف لن يرى الهدف ولن يستطيع أصابته، متناسين أن الطيران الحديث لا يعتمد على رؤية الطيار كثيرا فإن أشعة الليزر هي التي تحدد كل شيء وقد لا يرى الطيار الهدف، رغم ذلك فقد عشنا في العراق أجواء ملوثة وبشدة كبيرة .. الكهرباء شبه معدومة … الخراب يحدث أينما وجهت نظرك … الناس خائفون … وليس من يستطيع القول أنه سيعود إلى بيته سالما بعد أن خرج من منزله قاصدا أي شيء أو مكان لان الزمن كان صعبا ومليئا بالمتغيرات وكذلك بالأحداث الجسام.
وكغيري ممن تستهويهم الكتابة أردت ان أسجل بعض مما حدث وعايشته أو قرات عنه او سمعت أحاديثا عنه أو في بعض الأحيان عايشت الأشخاص الذين يكونون شخوصا لمقالاتي، وكذلك أردت مما سأكتبه تبليغ الرسالة عما حدث للذين كانوا بعيدين خصوصا من هم في أقاصي الأرض عن العراق وبعيدين عن الحقيقة وعما تشهده أرض العراق من قصص قد توصف بأنها من نسج الخيال، فكم من الآهات قد غصت في صدري وعلامات التعجب تظهر على وجهي ولا أجد مبررا يقنعني عن أسباب ما يحدث وما هو الهدف المقصود من كل ما جرى في الماضي القريب الذي يشمل عقدا من الزمان أو أقل من ذلك بقليل.
لقد سال دم كثير وأستبيحت الأعراض وعمت الفوضى كل شيء، ولم نكن نرى ولا نسمع من يستجيب للاستغاثة التي كانت تنطلق من المغدورين والضحايا ولا يوجد من يرفع صوته مدافعا عن المظلومين ولدرء الظلم عن الآخرين كما أن روح المساعدة قد اختفت ولا نجد من يقدم العون (فكلمن يحود النار لكرصته) كما يقول المثل العراقي وكذلك (حارة كل من أيدو ألو) على قول غوار الطوشي في أحدى مسلسلاته.
هكذا أصبح الحال عليه ليس بعيدا بعدد السنين لكن كله حدث في الماضي القريب ووطننا الذي تغلي الدماء في عروقنا وقلبنا يأخذ بالنبض السريع كلما تذكرناه او شاهدنا ما يربطنا به من وفود أو منتخبات أو مسلسلات أو أعمال التي تجعلنا نعود ونتحلى بالأمل بأن الغد سيكون أحسن ولابد لليل أن ينجلي ولابد للظلم أن ينحسر ولابد للقانون أن يسري على الجميع؛ يحاسب الجميع على أخطائهم ويقف إلى جانب المظلومين كي يستردوا حقوقهم.
فما عاشه العراقيون هو زمن مختلف ولا يشبه وقت أي بلد آخر من الدنيا بالأحداث التي جرت وبتفاصيل يلفها الغم والحزن في كل لحظة ودقيقة ويعجز القلم وكذلك المراقب أن ينقل الحقائق لكل ما حدث فقد تضيع الحقيقة وسط كم هائل من الغبار وأجهزة الإعلام التي تحركها أصابع مختلفة؛ أحيانا تكون أجهزة مخابرات دولية متمرسة ورائها وتحاول أظهار ما يجري وفق ما تشاء من أجندات كي تحقق أهداف لا يعرفها المواطن البسيط وتضيع وسط كل هذا الحقيقة ولا يرى الكاتب ولا المواطن الحقيقة كما هي بل يراها بعد عمليات أضافة رتوش عليها كي تخدم مخططات من يريد للأحداث أن تسير وفق ذلك المخطط.
فلم تسلم مما جرى حتى براءة الأطفال التي أصبحت هدفا من الأهداف وكأن الطفل أصبح مرعبا للأشرار ويريدون من خلاله اغتيال الطفولة لأنها تعني بوجودها أن هناك مستقبلا للعراق وقد يكون بشكل لا يريده الأشرار فعملوا جاهدين على أرعاب الأطفال وق*ت*لهم إن تطلب الأمر، ألم تكن مدرسة ابتدائية هدفا لصواريخ أيرانية يوما راح ضحيتها العشرات والتي أصبح اسمها بعد ذلك بلاط الشهداء!!!.
وليس هذا فقط بل حتى معالم بارزة للحياة في العراق أصبحت أهدافا معلنة لمن يريد الدمار لأرض الرافدين الخالدة التي انطلق منها أبراهيم أبو الأنبياء وتحوي أرضه نهرين خالدين كانا من أنهار الجنة، فشارع مثل شارع المتنبي كان يوما هدفا للعمل الإجرامي الذي أغتال من خلاله المثقفين كلهم وحاول أبعاد رواده ودفعهم للابتعاد عن شراء الكتب باتجاه أضاعة الوقت سدى كي يتحول عقل العراقي من النباهة والذكاء إلى البلادة والغباء وبهذا العمل يكونوا قد أصابو أساس بناء الإنسان في العراق، فهذا الشارع كان يعج بالمثقفين وكانت الأرصفة على جانبيه تشهد الآلاف من الكتب الحديثة والمستعملة وبأسعار يستطيع الإنسان البسيط شرائها وكان هذا الشارع سببا في دخول الثقافة والمعرفة بيوت أغلب العراقيين وكان رواده من مختلف الأذواق منهم الشاب المراهق الذي يبحث عن قصائد للغزل وأخرى لقصص من الخيال عن الرومانسيات وغيرها وأيضا كنا نجد الطلبة والذين يقومون بأعداد بحوثهم الدراسية لأن زمن الكومبيوتر لم يكن قد أخذ مداه وتأثيره في واقع هؤلاء بسبب ندرة الكهرباء وكذلك التخلف الذي عاشه لسنوات عجاف استمر لعقد ونيف من السنين وهو تحت وطأة الحصار الدولي وممنوع دخول أية تكنولوجيا حديثة إليه، وأتذكر أن بداية دخول الشبكة العنكبوتية للعراق كانت مع نهايات القرن العشرين حيث استطعنا الاشتراك بها وللفترة من منتصف الليل وحتى السادسة صباحا وعبر التلفون الأرضي وبأسعار مرتفعة تثقل كاهل أي أحد حينها فما بالك لو أخترت زمنا آخر كأن يكون في النهار مثلا؟ وأيضا لم يكن بمقدورنا التصفح بحرية فقد كانت هناك فلاتر مسيطر عليها تقف بينك وبين المواقع التي لا يريد لك المسؤول حينها الاطلاع عليها… .
إذا كتب وأوراق هذا الشارع كانت هدفا شنيعا للأشرار وكم من فكر للمفكرين قد احترق أو أتلفته مياه الإطفاء التي في النهاية أعلنت ضياع الكثير الكثير من الكتب والجهود الفكرية ونتاجات سنين للمبدعين حُرم منها أبناء العراق بقرار خائب لمن خطط ونفذ لمجزرة اغتيال شارع المتنبي وكأني بهولاكو قد عاد مجددا والجميع قد قرروا ان تلُفَّ الأمية عموم العراقيين، والأشرار قد انتقموا من جامعة المستنصرية العريقة في القدم وكذلك من أشعار أبي نؤاس وأبي تمام وحتى عصا عبد المحسن الكاظمي قد سرقت وحرم حتى تمثاله من نعمة الاتكاء عليها، لأننا في زمن العبث الذي كنا نصحو في كل يوم على أحداث وممارسات أقل ما يقال عنها أنها غريبة وغير مفهومة وكما قلنا أن تمثال عبد المحسن الكاظمي لم يسلم وكذلك تمثال أبي جعفر المنصور وغيره من التماثيل التي كانت تزين الساحات والتقاطعات وحُرمت منها بغداد وافتقدت بذلك جانب من جماليتها المتميزة. فكأن ما جرى لهذه الرموز يمكن ان نقول عنه حربا على الثقافة والعلم، أليس العلماء والأطباء والمهندسين قد أصبحوا أهدافا لقوى الشر بغية أفراغ العراق منهم بتصفيهم أو أرهابهم كي يذهبوا بعيدا ويخدموا دولا أجنبية ويكون خير العراق من حصة الغرباء!!!
ألم نشهد ما جرى في أول أيام حرب تحرير العراق!!!! على قولهم أو حرب غزو العراق على قول غيرهم وإن تعددت التسميات فالنتيجة واحدة، لقد عادت كهرمانة لتجد ليس أربعين حراميا بل ربما أربعة ملايين من اللصوص، فقد خرج الجراد من شرنقته كي يغزو جميع الحقول الخضراء ويأكل كل شيء ويدمر ما لا يستطيع أكله أو الاستحواذ عليه، وكل العالم شاهد عبر الفضائيات التي كنت تلك الأيام أول أيام غزوها أيضا لبيوت العراقيين، لقد شاهد الجميع ذلك الشاب الذي أتى مسرعا وهو يأمل بنصيبه من الغنائم من بناية اللجنة الأولمبية العراقية آنذاك ومن فرحته بوصوله للبناية اول فعل قام به هو تقبيله للكاميرا التي كانت تنقل الحدث أول بأول لجميع أنحاء العالم ودخل مسرعا ويبدو أنه وجد كل شيء قد تم الاستيلاء عليه وكان هناك باقة من الورد لم ينتبه إليها أحد أو لم يجد أحدا فائدة من أخذها لعدم الاهتمام بها في ذلك الوقت من أحد فخرج حاملا تلك الباقة، والكامرة التي قبلها وهو يدخل هي التي صورته خارجا بباقته أضعف الإيمان من الغنائم في تلك البناية التي كانت نتيجتها الحرق كي تتحول إلى كومة من الأنقاض ومازالت كذلك إلى يومنا هذا.
ولم تكن حال الجسور بأفضل من غيرها…
وللذكريات بقية
عبدالله النوفلي
2012
[email protected]
 
 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!