مقالات دينية

غاية يسوع من التبشير بالأمثال

غاية يسوع من التبشير بالأمثال

بقلم / وردا إسحاق قلّو

    ( سأفتح فمي بأمثال، وأكشف ما كان مخفياً منذ إنشاء العالم ) ” مت 35:13 “

    المثل ، لغة خاصة تعبيرية لها عمق يتخطى كلماتها المسموعة ، أو المكتوبة لأجل أيصال هدف الكلام إلى الآخر لكي يشعر بهدف المثل . والمثل يدخِل السامع أو القاريء في خيال روحي ليبحث في العمق فعليه البحث عن الحقيقة والغاية . في العهد القديم استخدم أيضاً أسلوب التحدث بالأمثال ، فنجده في سفر يشوع بن سيراخ ، والحكمة ، إضافة إلى سفر مخصص للأمثال وهو سفر الأمثال  . يقول إبن سيراخ (قلب الرجل العاقل يتأمل في المثل ومنيةُ الحكيم أذن سامعة) ” سير 29:3 ” .

   تكلم المسيح بالأمثال للذين كانوا يرفضون كلامه الصريح ، فكانت الأمثلة لغة تصويرية ، فكان على المستمع الشعور بخفاياها  ، ففي بعض الأحيان كان قادة اليهود يصلون إلى التفسير ويكتشفون أن يسوع يعنيهم ، ويهاجم أفكارهم وعقائدهم ، فكانوا يحاولون رجمه أو إلقاء القبض عليه .

    استعملت الأمثال في العهد القديم ، لكن في العهد الجديد أعطى لها يسوع لوناً ، وطعماً ، وعُمقاً ، ورؤى جديدة ، فيها فكرة روحية لم يصلها أحد من قبلهَ . كان المثل يتكون من قصة بسيطة في خطاباته للجمهور إلا إنهم لايستطيعون فهمه  . أستعمل في خطاباته أمثال كثيرة في الأناجيل الأزائية الثلاثة ، مجموعها 65 مثلاً . منها متكررة في الأناجيل الثلاثة الأولى ، أما عدد الأمثال الغير مكررة فهو 43 مثلاً . والأنجيل الذي  يحتوي أكبر عدد منها هو إنجيل البشير لوقا الذي صاغ تعليم يسوع بالأمثال ، وأهتم بها إهتماماً خاصاً أكثر من متى ومرقس ، فدّوَنَ ثلاثة وثلاثون مثلاً ، أما البشير يوحنا فأسلوبه يختلف عن الآخرين لأنه تميّزَ بأسلوب لاهوتي بعيد عن لغة الأمثال والقصص .

   الأمثال ليست لغة مشفرة تحتاج إلى حلها ، بل هي قصص قد تبدو بسيطة لكنها تحتاج إلى من يفك رموزها . وللأمثال مزايا كثيرة تجعلها مرغوبة للسامع كأنه يسمع إلى قصة قصيرة فيها البساطة ويستطيع حفظها ونقلها للآخرين . وغاية المثل ليس للتعقيد ، بل للتواصل مع الآخر، وعلى الآخر أن يفكر لكي يصل إلى التفسير . كما كانت غاية يسوع من إستعمال الأمثال للإستمرار في الحوار مع سامعيه ، سواء كانوا كتبة أو فريسيين أو الشعب بدلاً من التحدث علناً بما يقصد به لكي لا يدخل في نقاش وجدال عقيمين معهم ، فكان يطرح الفكرة على شكل مثال وعليهم التفكير في أن يقرروا ويردوا عليه ، وقد غيّرَ أفكارهم المتحجرة والمتعصبة  بالأمثال لكي ينطقوا بالحق وإن كانت النتيجة لصالح عدوهم كمثل السامري الصالح الذي استخدم فيه يسوع لغة المجاز ، والذي كان يتحدى به مواقف السامعين العنصرية . فالرجل الذي سقط في طريق أورشليم أريحا ( كان يقصد به آدم ) والكاهن واللاوي الذين لم يسعفوه هم ( الشريعة والأنبياء ) أما السامري الصالح ( والصالح هو الله وحده ويقصد به المسيح ) هو الذي اهتم به ، فوضعه على دابته ( المسيح نفسه هو الذبيحة ، لأنه حمل خطاينا كما حملت الدابة جسد الجريح ) وقاده إلى الفندق التي اسهها بدمه ( الكنيسة ) وترك لصاحب الفندق ( الكهنة ) قطعتي فضة ( كتابَي العهد القديم والجديد ) أي الكتاب المقدس الذي يشفي جروح الخطايا ,ووعدَ صاحب الفندق بالعودة ( مجيئه الثاني ) . بهذا المثل أقحم الرب أحد علماء الشريعة عندما قال له ( من برأيكَ كان قريبه ؟ ) لم يقل السامري ، فقال ( الذي ساعده ) وذلك لوجود عداوة وكراهية بين اليهود والسامريين ، لهذا السبب أختار يسوع في مثله السامري ، وقد كرر يسوع ذكر السامري في أمثال أخرى عمداً ليكون الشخصية المرغوبة ، وذلك لكي يُقَرِب اليهود من السامريين ، وبهذا المثل أثبت لهم بأن القريب الأفضل للإنسان هو من يكون بقربه  ويساعده وإن كان يحسبهُ عدواً . ومن شِدة المفاجأة لم يقول عالم الشريعة أن قريب الجريح هو السامري لأنه يمتنع من لفظ كلمة ( السامري ) لكونه يمقتها . وهكذا غيّرَ يسوع وجهته عن كون القريب هو قريب النسب عندما قال ليسوع ( ومن هو قريبي ؟ ) فوضح له الرب بان القريب هو كل شخص بحاجة إليه ، لا بالقول فحسب ، بل بالفعل . والفعل هو المطلوب ، وهذا ما يوضحه لنا مثل الإنسان الذي كان لديه ولدان ، طلب من الأول ليذهب ويعمل في كرمه ، فأجاب : ( لا أريد ) وبعد ذلك ندمَ وذهبَ  . والثاني الذي أجابه ( لبيك يا سيدي ) لكنه ليذهب . ( لو 21: 28-31 ) . إذاً الأولوية تعطى للفعل لا للكلام ، وقد شبه يسوع البغايا بالأبن الأول ، وعظماء الكهنة والفريسيين والكتبة بالأبن الثاني ، لهذا قال لهم : ( ان الجباة والبغايا يتقدمونكم إلى ملكوت الله ) .

  وكذلك نقول : كانت الغاية من الأمثال لدعوة الناس إلى الملكوت الذي كان بينهم ، والملكوت لا ياتي بسبب الأعمال والواجبات ، بل بدافع الإيمان المقرون بالحب والفرح . فالأمثال تدعو الناس أولاً إلى التوبة ، ثم الأستجابة لنداء سر الملكوت ، أما في نظر الآخرين فالأمثال عندهم تصبح ألغازاً وقصص غامضة لا يلتمسوا منها اي إعلان ، وأن ملكوت الله قد أتى وحل بينهم ، وعليهم أن يتوبوا ويؤمنوا بذلك النداء العاجل القائل ( حان الوقت واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة ) ” مر 15:1 ” .

   كانت الأمثال مهمة جداً لنقل البشارة بصورة مستترة لكي لا يعلم السامعين في حينها ما يقصده المسيح ، وبأنه هو المسيح إبن الله المنتظر ، ولكي يستطيع أن يتمم رسالة الملكوت في السنين الثلاثة الأخيرة . لهذا كان يكَلِم الجموع بالأمثال ، تقول الآية ( وبغير مثل لم يكن يكلمهم ، ولكنه كان يفسر لتلاميذه كل شىء حين ينفرد بهم ) ” مر 34: 4 ” وذلك لأنه ( كان يريد ان يعطي لهم سر ملكوت الله ، ولغيرهم كان يتحدث بالأمثال ) ” مر 11:4 ” . وبعد البشارة سيتم تفسير كل شىء من قبل المبشرين  .

    قال لتلاميذه ( ضربت لكم أمثالاً في كلامي عن هذه الأمور ، ولكن سيأتي وقت أحدثكم فيه عن الآب بكلام صريح ، دون أمثال ) ” يو 25:16 ” وقد تم ذلك فعلاً في الأيام الأخيرة ، لهذا قالوا له ( ها أنت الآن تكلمنا كلاماً صريحاً بغير أمثال ) ” يو 29:16 ” .

   المثل الذي كان قصة قصيرة ومُسَليّة للسامع استعملها يسوع لغاية الوصول من خلالها إلى مفاهيم سماوية عظيمة ، فكان يفهمها كل مستمع مهما كان مستواه الثقافي ، وكان يشعر بضرورة التأمل بها لسبرغورها .

   يسوع فقط تحدث بالأمثال ، أما رسله من بعده فلم نجد لهم أمثالاً في رسائلهم . أمثلة يسوع غَيّرِت النفوس ، وأجبرت مستمعيها لكي يعترفوا بالحقيقة ويتحولوا من تعليم العهد القديم إلى تعليم عهد النعمة والمصالحة ، تعليم العهد الجديد .   

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!