الحوار الهاديء

ذكريات شخصية عن مجزرة صوريا: صرخة المطران يوسف بابانا

الكاتب: جاك يوسف الهوزي
ذكريات شخصية عن مجزرة صوريا: صرخة المطران يوسف بابانا

جاك يوسف الهوزي
مرّت قبل أيام قليلة الذكرى السادسة والأربعون لمأساة قرية صوريا الكلدانية التي راح ضحيتها أناس أبرياء مسالمون بطريقة وحشية يندى لها جبين الأنسانية التي لم تحرّك ساكناً لردع هذا الفعل الأجرامي الذي بقي دون عقاب رغم سقوط الدكتاتور وحكمه الظالم ومجئ مايسمى بالحكم الوطني الديمقراطي. فالذي تغير هو الوجوه فقط، أما النظرة الدونية وأحياناً حتى الأستمتاع بمعاناة المسيحيين لدى الكثيرين بقيت متأصلة في عقول وقلوب من يُسَمّون شركاء الوطن من مختلف الشرائح الأسلامية، ومنهم من يتلذّذ بإحتقارهم وإهانتهم بغرض طردهم من وطنهم وأراضي أجدادهم، ويبدو بأنهم نجحوا أو أقتربوا من تحقيق مسعاهم هذا. لا أرغب هنا أن أعيد قصة هذه المجزرة الوحشية لأنها أصبحت معروفة لدى كل من تعنيه مثل هذه الأمور، إلاّ أنها كانت الخطوة الأولى (وآخر مجزرة كبرى في آخر نصف قرن) لما وصل إليه حال المسيحيين في العراق والمنطقة عموماً لسببين رئيسيين: ١- أنها رغم بشاعتها مرّتْ مرور الكرام دون حساب أو عقاب، بل على النقيض من ذلك، تم تكريم الجلاد ومعاقبة الضحيّة مرّة أخرى. ٢- سكوت المجتمع الدولي على مثل هذه الجرائم وخاصة إذا كان الضحايا من الأقليات الأثنية أو الدينية شجّع مرتكبيها على التمادي في سحق وهضم حقوق هذه الأقليات. هناك موقفان شخصيان مؤثران متعلقان بهذه المأساة ما أزال أتذكرهما جيداً رغم أن عمري حينها لم يكن قد تجاوز ٨ أعوام. صرخة المثلث الرحمات المطران يوسف بابانا كان المرحوم المطران مار يوسف بابانا مطراناً لأبرشية زاخو ونوهدرا عندما وقعت هذه الفاجعة في يوم ١٩٦٩/٩/١٦، وكان مقر المطرانية في محلة النصارى في زاخو، سمعنا قرع نواقيس الكنائس في الليل، وعندما كانت تُقرع نواقيس كاتدرائية مار كوركيس الكلدانية، ناقوسان أحدهما كان له صوت مميز عندما كان يسمعه أهالي المحلة يعرفون فوراََ أن شخصاً ما قد توفي فيخرج الناس تلقائيا الى الشوارع ليستفسروا عن الشخص المتوفي، فيعرف الجميع من يكون وخلال دقائق معدودة. يعقبهما قرع ناقوس كنيسة مريم العذراء المجاورة للسريان الكاثوليك، وكانت النواقيس تُقرَع بشكل متناوب لعدة دقائق ولكل ناقوس منها صوت مميز تعرفه الناس. كانت النواقيس تطرق في النهار دوماََ، حتى لو كان الميت قد توفي في الليل، إلاّ أن قرع الأجراس في الليل يعني حصول أمر كبير أستثنائي، وإنتشر الخبر بشكل سريع يعلن وصول جثمان الأب الشهيد حنا يعقوب قاشا الى الكنيسة، وكان الناس على علم بالمجزرة لأنها كانت قد حصلت قبل أيام من صول جثمان الشهيد الذي ترك في العراء هذه المدة وفي جو حار ومشمس. تجمع الناس أمام باب الكاتدرائية ووقفوا على مسافة بعيدة من الجثمان الذي كان ممددا في جيب أو لاندروفر قديم بسبب الريحة التي لاتطاق، وفي هذه الأثناء ظهر المثلث الرحمات مار يوسف بابانا والحزن الشديد باديا على وجهه  وفي يديه قنينتان كبيرتان من العطر وتقدم نحو جثمان الشهيد وأنحنى عليه ثم إلتفت نحو الناس وأطلق صرخة مدوية بغضب شديد قائلاً: أين هم الرجال؟ هل تتركون جثمان القس حنا هنا في الشارع؟ فتقدم عدة رجال وفتحوا قنينتي العطر ورشوها على جثمان الشهيد وحملوه الى إحدى الغرف في حوش الكنيسة. المرأة التي كانت تبكي عندما صُوّبت البنادق الى أهالي القرية بعدما تم تجميعهم في مكان محدد سقط الجميع، فظن المجرمون بأنهم ماتوا جميعا فتركوهم وذهبوا، إلا أن بعضهم لم يمت وتم نقل أعداد منهم الى مستشفى زاخو القديم، ومنهم إمرأة كانت ترقد بجانب المرحومة والدتي في ردهة النساء الكبيرة (قاييش أو قاويشا دبَختاتا) كما كنا نسميه، كانت هذه المرأة لاتكف عن البكاء وكانت والدتي تحاول التخفيف عنها وتساعدها لأن ساقها كانت قد بٌترتْ ولاتقوى على الحراك، كنتُ كطفل أعتقد بأنها تبكي من شدة الألم. لكنها قالت لأمي إنها لاتبكي على حالها وإنما تبكي على أحبابها الذين فقدتهم، ومنهم على ما أعتقد ولدان، أو ولد وبنت أحدهما كان بعمري حسب قولها، وكانت تسألني أنا وأخي سمير الأصغر مني بأربع سنوات بالأقتراب منها والجلوس على سريرها لأنها إشتاقت كثيرا الى أولادها. بعد أيام خرجت والدتي من المستشفى ولم أراها بعد ذلك أو أعرف من هي تلك المرأة، إلا أنني مازلت أتذكر نظراتها الحزينة وتأوهاتها..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!