مقالات دينية

تجديد الحياة الرهبانية، مطلب أساسي وجوهري


تجديد الحياة الرهبانية، مطلب أساسي وجوهري

تجديد الحياة الرهبانية، مطلب أساسي وجوهري لأحياء وازدهار رسالة الكنيسة المقدسة

لا شك من أن الحياة الرهبانية هي نعمة كبيرة وهبها الله لكنيسته المقدسة ومن خلالها للعالم أجمع. إن الهدف من الإلتزام بالحياة الرهبانية بإعلان النذور الثلاثة: الفقر والعفة والطاعة، هو إعطاء الشهادة على أولوية الله في الحياة وكشف محبته لكافة الناس. إن الراهب بعيشه وتجسيده للمشورات الأنجيلية يريد أن يشهد ويقول: ” إن الله موجود، يحبني وهذا يكفيني.”
ظهرت الحياة الرهبانية في الكنيسة وانتشرت منذ البدء وخاصة بعد إنتهاء عصر الاضطهاد والاستشهاد الذي إستمر حتى القرن الرابع الميلادي. أثناء هذه الفترة الزمنية كان المسيحيون مضطهدون بسبب إيمانهم من قبل امبراطوريتين كبيرتين، الأمبراطورية الرومانية في الغرب والإمبراطورية الفارسية في الشرق. ان دم الشهداء مهد الطريق لظهور الحياة الرهبانية التي بدورها استمرت في إعطاء الشهادة من خلال اقتداءها بالمسيح الفقير والمطيع والعفيف.
نقرأ في قرار المجمع الفاتيكاني الثاني بخصوص تجديد الحياة الرهبانية ما يلي: ” لقد ظهر منذ فجر الكنيسة رجال ونساء أرادوا بممارسة المشورات الإنجيلية، أن يتبعوا المسيح بحرية أكبر وأن يقتدوا به اقتداء أوثق، وأن يعيشوا كل على طريقته حياة مكرسة لله، وكثيرون منهم بدافع الروح القدس، قضوا حياتهم في النسك، أو أنشأوا عائلات رهبانية تقبلتها الكنيسة برضى وثبتتها بسلطانها وهكذا نبتت، بتدبير من الله عجيب، جمعيات رهبانية مختلفة أسهمت إسهاما شديدا لا في أن تكون الكنيسة متأهبة لكل عمل صالح وحسب (2 تيم 3:17) ومستعدة للقيام بعمل الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح (أفسس 4:12) وحسب، بل أن تظهر أيضا مزدانة بمواهب أبنائها المختلفة، كعروس قرينة لعريسها(رؤيا 21:2)، وتتجلى فيها حكمة الله المتعددة الوجوه(أفسس 3:10). وفي غمرة هذه المواهب المختلفة يقوم جميع الذين يدعوهم الله إلى ممارسة المشورات الإنجيلية والذين يلتزمونها بأمانة، بتكريس نفوسهم للرب تكريسا خاصا، متبعين المسيح البتول والفقير(متى 8:2، لوقا 9:58) الذي افتدى البشر وقدسهم بطاعته حتى الموت والموت على الصليب(فيلبي 2:8)، وهكذا بدافع المحبة التي يفيضها الله في قلوبهم (رومة 5:5) يعيشون أكثر فأكثر للمسيح ولجسده الذي هو الكنيسة (كولسي 1:4) وبمقدار ما يكون حارا الاتحاد بالمسيح الذي بلغوه بالعطاء الكامل لحياتهم كلها، تزداد حياة الكنيسة غنى وتزداد رسالتها خصبا” (انتهى الأقتباس).
على ضوء هذا القرار، نلاحظ بأن المجمع الفاتيكاني الثاني يؤكد بوضوح كامل على الصلة العميقة الموجودة بين الحياة الرهبانية وازدهار رسالة الكنيسة في حقل التبشير والتعليم ونشر نور الأنجيل بين الأمم.
لا يخفى على أحد، من أن أهم مقومات الحياة الرهبانية هي الصلاة الفردية والجماعية، التي تجعل من حياة الراهب أيقونة حية وجميلة تعكس صورة المسيح الحي من خلال حياته اليومية. نستطيع القول بأن جذور الحياة الرهبانية نجدها في الكتاب المقدس وخاصة في حياة ربنا والهنا يسوع المسيح له كل المجد والاكرام والسجود. نعم، إن الصلاة احتلت مكانة كبيرة في حياته الخفية والعلنية. كانت الصلاة له وسيلة فعالة ومؤثرة ليلتقي بواسطتها أبيه السماوي ويتحدث إليه بثقة بنوية ومحبة عميقة. أنه استهل رسالته الخلاصية بالاعتزال في البرية 40 يوما قضاها بالصوم والصلاة(متى 11-1: 4) أنه كان يقضي الليل كله في الصلاة(لوقا 6:12) كان يترك الجموع التي كانت تأتي لتسمعه و يعتزل في البراري ليصلي (لوقا 5:16) نراه يصلي بعد اعتماذه من يوحنا المعمذان (لوقا 3:21) كذلك كان يصلي على الجبل حينما تجلى لثلاثة من تلاميذه(لوقا 9:29) يذكر لنا أيضا الأنجيل المقدس صلاته في بستان الزيتون وهو يستعد للموت عملا بأرادة ابيه السماوي(لوقا 44-22:41) وأيضا صلي على الصليب وهو في قمة الألم والعذاب(لوقا 23:34 وآية 46). لقد تحولت صلاة يسوع الى تربة خصبة نبت ونما فيها الزرع الجيد الذي زرعه بتعاليمه السامية وأعمال الرحمة والمحبة التي قام بها تجاه المتألمين والمحتاجين والخطأة فأعطى ثمرا بعضه مائة وبعضه ستين وبعضه ثلاثين.
يحكي لنا التاريخ بأن كنيسة المشرق العريقة ، التي نحن أبنائها وبناتها، عاشت ثلاث خبرات أساسية في القرون الأولى من حياتها وكان لها تأثيرا حاسما وكبيرا في صياغة لاهوتها وليتورجيتها وقوانينها، وهي خبرة الاضطهاد والاستشهاد وخبرة العمل الرسولي والنشاط التبشيري وخبرة الحياة الرهبانية المبنية على الصلاة والصمت والتأمل في كلام الله الحي. يقول المؤرخون ذوي الاختصاص بتاريخ كنيسة المشرق، بأنه كان يوجد هناك أديرة يقطنها عدة مئات من الرهبان تتمركز حياتهم حول الصلاة الشخصية والليتورجية وما زالت كتاباتهم تغذي، حتى يومنا هذا، حياتنا المسيحية وتقوي ايماننا وتسند مسيرتنا نحو الهدف الأسمى أي الله.
يحق لنا أن نفتخر بازدهارالحياة الرهبانية في كنيستنا المشرقية في القرون الماضية، لكن هذا لا يكفي! كما أنه لا يكفي أن نبكي ونتحسرعلى انحدار الحياة الرهبانية في كنيستنا اليوم إلى أدنى مستوياتها. لا يجوز لنا أن نكون متفرجين بل ملتزمين. لا الافتخار بالماضي يفيد ولا البكاء على الحاضر ينفع. إن الواقع الحالي للحياة الرهبانية في كنيستنا يدعونا قبل كل شيء إلى الصلاة لكي نكتشف ارادة الله ونعمل بموجبها. لا إصلاح في الكنيسة من دون الصلاة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، إذ إنه يقول لنا بأن كافة الذين ساهموا في إصلاح الكنيسة واعادوها الى الطريق السليم كانوا أشخاصا اختبروا قوة وفاعلية الصلاة في حياتهم اليومية. حول هذا الموضوع لنقرأ ونتأمل في بعض المقتطفات التي جاءت في كتاب ” الروحانية المشرقية” من تأليف غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار لويس. نقرأ في الصفحة 66 ما يلي :” مسيرة الإيمان مطبوعة بالصلاة، لأن الإيمان يقود الى الصلاة، مثلما يقود النهر الى البحر، من لا يصلي لا يفهم الإيمان. الصلاة لا تنفصل عن الحب، ومن يعرف معنى الحب، هو وحده يقدر أن يصلي لا بشفتيه فحسب، بل بكل كيانه. الصلاة تعني أن الله حاضر في حياتنا فهي تعبر عن الإيمان والحب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم : ” ليس هناك ما يضاهي الصلاة. إنها تجعل مستطاعا ما هو مستحيل، وسهلا ما هو عسير، ويستحيل لمن يصلي أن يرتكب الخطيئة”. وفي الصفحة 68 نقرأ: ” ليس على الأرض ما هو أعز الى الله من راهب جاث على الارض، يصلي دائما. الصلاة الدائمة تجعل من العقل صورة الله، وتمنحه موهبة إدراك الأمور الصغيرة. وبوقت قليل تكفر عن ديون الإهمال الطويل، هذه الصلاة تحوي أنواع الزهد وأنماطه”(انتهى الاقتباس). أدعو الجميع، وخاصة الشباب الأعزاء، الى قراءة هذا الكتاب الصغير الحجم، وذلك لما فيه من فائدة كبيرة تساعدهم على النضوج في الحياة الروحية واكتشاف جمال دعوتهم المسيحية والاستجابة لها بفرح.
كذلك إن واقع الحياة الرهبانية، المؤسف والخطير، الذي تمر به كنيستنا اليوم، يدعونا إلى نهضة روحانية وايمانية شاملة لتجديد وتنشيط هذا النمط من الحياة، والذي لا يمكن الاستغناء عنه إذا أردنا أن تكون كنيستنا حقا كنيسة المسيح وكنيسة الشهداء. كما ان الماء هو ضروري لحياتنا الجسدية ولا يمكن الاستغناء عنه، كذلك الحياة الرهبانية هي ضرورية لحياتنا الروحية والمسيحية ولا يمكن الاستغناء عنها.
لنصل الى الروح القدس، مصدر كل النعم والمواهب، كي يعطي القوة والشجاعة للذين يشعرون بأنهم مدعوون إلى خدمة الكنيسة المقدسة كرهبان وراهبات، وأن لا يترددوا في الاستجابة الى هذه الدعوة السامية والمقدسة، مقتدين بذلك بأمنا مريم العذراء، نموذج الحياة الرهبانية، التي باستجابتها إلى نداء الرب ، مهدت الطريق لخلاص البشرية من خلال تجسد وموت وقيامة ربنا والهنا يسوع المسيح، له كل المجد والاكرام والسجود.
أرجو من كافة الذين يقرأون هذه الاسطر أن يصلوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر ولنبق متحدين بالصلاة.
رمزي كرمو
اسطنبول 27 أيلول

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!