مقالات عامة

الحِكمة والمستقبل في كفّ اليد اليمنى

الحِكمة والمستقبل في كفّ اليد اليمنى
Wisdom and the Future Are in the Palm of the Right Hand
A Story by the High Priest Ya˓qūb Shafīq al-Ḥiftāwi (1899-1987)
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך ב’ עמ’ 379- 388.

الصحفيّ السامريّ الأوّل

أنتَ تقول إنّي أُعبّر عن نفسي بالعبريّة كما أفعل بالعربيّة؟ نعرف كلانا أنّ في الأمر مبالغة معيّنة. عبريّتي، هي التي تعلّمتها في المدرسة العبريّة. لا، لم أكن تلميذًا في المدرسة العبريّة في نابلس، لأنّي آنذاك، كنت أكبرَ من العمر، بل في مدرسة المحْسن وارن، هناك تعلّمتُ، العبريّة القديمة وليست الحديثة، والعربيّة وقليلًا من الإنچليزيّة. معلّمو المدرسة العبريّة كانوا أصدقائي، داڤيد ميلر وأبْراهام روزين رحمها الله، والمعلّم موشي نيساني، الذي يسكن في نتانيا حتّى اليوم، أطال الله عُمره.

صحيح، العبريّة التي تعلّمتها منهم، لم تُسعفْني في الكتابة بسلاسة. لقد تعلّمت الكثير من صديقي يتسحاك بن تسڤي، رحمه الله، الذي أصبح لاحقًا رئيسَ دولة إس*رائي*ل الثاني. ولكن، كلّ ما تعلّمته غير كافٍ لي، في رأيي. أعتقد أنّه لن يفوت الأوان للتعلّم أبدا. اليوم، في العام 1985، أنا ابن ستّ وثمانين عامًا وكاهن أكبرُ للطائفة السامريّة الصغيرة. جسمي ضعيف وعيناي تعبتا جدّا. لكنّي لن أتوقّف عنِ الاستمرار في تعلّم العبريّة عن طريق القراءة في أعداد الصحيفة/الدوريّة أ. ب.، التي تمنحونني إيّاها. إنّي أقرأ كلّ كلمة بكلّ لغات المجلّة. هذا يهمّني جدّا، هذه بالنسبة لي طريقة أخرى في مواصلة التعلّم.

قراءة الكفّ

في البداية، كما تعلم، عملتُ مراسلًا في صحف الصباح العبريّة في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن العشرين، واعتشتُ من ذلك. بعد حرب العام 1948، جلست في بيتي، نبشت ونبشت في كتب الفكر والبحث وتعلّمت حِكمة قراءة كفّ اليد، وما لم أتعلمه منها، أتممته بالتجربة في هذه الصنعة المبنيّة أساسًا على الحكمة وتجارب الحياة. زاولت هذه المهنة سنواتٍ كثيرة، فيها كنت بعون الله أزجي النصائح الحسنة لطالبيها الكُثر. ومنذ أصبحتُ كاهنًا أكبرَ، توقّفت عن هذا العمل، ولا حاجة له إلا نادرا.

لستُ بحاجة لأحكي لك عن شُهرتي مطبّقة الآفاق، التي كانت لي في هذه الصنعة، لا سيّما بعد حرب العام 1967، عند قدوم الكثيرين من اليهود (في الأصل: بنو يهودا) الذين طلبوا منّي قراءة مستقبلهم الكامن في كفّ اليد.

تسألني في ما إذا كانت هنالك بركة في هذه الصنعة؟ ليكن الله في عوني، ويشهد عليّ أنّني لم أشكُّ قطّ بخصوص قدْر الدخل، وكلّ ما حصلت عليه من هذا العمل استثمرْته في أولادي. عدد مؤيّدي هذه الصنعة أقلّ بكثير من عدد معارضيها، ويرون بها خديعة وذلك، كما يبدو، جهلًا، ففيها الكثير من البركات من حيث التجربةُ الجمّة التي أثرتْني في تعرّفي على طبيعة البشر، مشاكلهم وأخطائهم، عند مجيئهم إليّ طالبين منّي قراءة كفّ اليد. نعم، تعلّمتُ كثيرًا عن طبيعة الإنسان من صنعتي الخاصّة.

أتودّ سماعَ بعض القصص؟ في جعبتي الكثير منها. لقد أمسكت بيدي اليمنى أيادي يُمنى كلّ هلقدّة كثيرة بكلّ الألوان، الأشكال والأحجام. وعليك أن تعرف، هنالك في عالمنا رجال ونساء كثيرون كلّ هلقدّة، يرون في قراءة الكفّ وتخمين مستقبلهم، مخرجًا لكلّ مشكلاتهم وأسقامهم. كانت أيّام، أسابيعُ وأشهر، لم تنقطع فيه رِجل الإنسان من مكتبي في نابلس حتّى للحظة واحدة. ولكن اليوم، لا أمارس هذه الصنعة، وعدد القادمين إلى نابلس أسبوعيًّا بالكاد يصل إلى عشرة.

ولدان اختفيا

بماذا تذكّرني؟ نعم، قصّة تلك المرأة التي حلّت بها مصيبة، اختفاء ولديها الصغيريْن. بُذلت جهود كثيرة على مدى أيّام كثيرة، لمعرفة مكان هذين الولدين، ولكن بلا نتيجة. لم يتوقّف أمل الأمّ في العثور على ولديها في آخر المطاف.

توجّهتْ إلى كبار الحاخامات ليصلّوا من أجلهما. ذهبت إلى السحرة والعرّافين المنتشرين في هذه البلاد. كلّ واحد منهم قال لها أنّه سيُعثر على الولدين قريبا. آخ، كم كانت مسكينةً هذه المرأة. ذهبت إلى كلّ الأماكن التي ذكرها العرّافون لها، مؤكّدين لها بوجود ولديها هناك، إلا أنّها عادت بخُفّي حنين. لم يُعثر عليهما. اهتزّت كلّ البلاد؛ بقي موضوع الولدين المختفيين شغلَ الصحافة الشاغل. توقّعوا كلَّ يوم رجوعَهما إلى البيت بسلام.

يئستِ الأم من كلّ المنجّمين، والسحرة والمشعوذين وخبيري أوراق اللعب، وقارئي الأبراج.اِنتابها اكتئاب شديد للغاية، وبكلّ ما تبقّى من قوّتها، تابعت تقاريرَ الراديو والتلفاز بصدد ولديها المفقوديْن بعيون ممتلئة بالدموع. آخ، كم تعيسة كانت هذه المرأة، ليرحمنا الله برحماته الكثيرة. لا أتمنّى لأيّ عدوّ ما شعرت به هذه الأمّ الخاصّة.

يد الله جمعتني بهذه الامرأة. إنّك حتمًا تذكر كيف أنّنا دُعينا اثنانا ذاتَ يوم، للاشتراك في برنامج تلفزيونيّ بعرافة يَرون لُنْدن ”صاحبنا“ (في برنامج: عَلِي كوتيرِت، 1981، التلفزيون الإ*سر*ائي*ليّ). اِستغلّ مقدّم البرنامج فرصة استجابتي للمشاركة في برنامجه، فوضع كفّه بيدي كي أقول له شيئًا عن مستقبله. هذا البثّ قد أشهرني بشكل غير عاديّ، لدرجة أنّني لم أجد وقتًا للراحة مدّة شهور عديدة. الأمر الأساسيّ، هو أنّه من بين مشاهدي البثّ، كانت هذه المرأة التي لم يتمّ العثور على ولديها بعد، وانتشرت شائعات تقول بأنّ جهة معاديةً قد تكون قد خطفتهما.

أذكُر تسلسلَ الأحداث. لن أنسى لقائي بهذه الامرأة أبدًا، بالرغم من شيخوختي المتقدّمة. اِتّصلتْ بكَ [ּأي: الأمين/بنياميم صدقة، محرّر أ. ب. أخبار السامريّين] أوّلًا مستفسرة عن كيفيّة الوصول إليّ. في آخر المطاف، وصلت رأسًا إلى مكتبي في نابلس، وأنت اهتممتَ بإبلاغي عن قدومها سلفًا.

هذه الامرأة، كانت فريدة من نوعها. على الرغم من ظهرها المنحني حزنًا على فُقدان ولديها، بدا في عينيها الأملُ بأنّي قادر على مدّ يد العون لها، كشف مكانهما. جلستْ قُبالتي منفعلة، هائجة، متألّمة. شفِقتُ عليها. عرفتُ بأنّني بعون الله فقط، أستطيع إيجاد الإجابة المرضية لها.

مدّت إليّ كفّها اليمنى. شرحتُ لها معنى خطوط كفّ اليد. خطّ الحظّ وخطّ طول العمر، خطّ الخصوبة وخطّ الشبه. على حين غِرّة، بينما كنت أفحص كفّ يدها، رأيتُ بين هذه الخطوط الجواب عن سؤالها غير المنطوق (الأخرس) بخصوص ولديها. تجربتي المديدة علّمتني بعد جهد كبير كظم انفعالي. اِنتظرتْ ما سينطق به فمي.

لم أنوِ أن أقول لها شيئًا إذا كانت الإجابة محزنة. كانت معنويّات (إيمان) الامرأة في الحضيض لدرجة أنّ إفشاء الحقيقة لها كان سيقضي عليها.

ماذا تقول لي عن ولديّ الصغيريْن يا سيّدي الكاهن؟ حثّتني الامرأة.
قلتُ لها: لا أستطيع أن أقول لكِ شيئا، سوى أنّ الله الطيّب يعرف الجواب لمحنتك ويساعدك برحماته الوافرة. اِذهبي بسلام وناظر الكلّ يرى حالتَك، ويعينك في ساعتك الأصعب.

ربّتُّ على كتفها وعزّيتها بكلمات مشجّعة. الجواب الصحيح كان في رأسي، إلّا أنّه ما كان ليشجّعها. غادرت مكتبي والشكّ في عينيها أخذ بالتضاؤل. في اليوم التالي، أعلنت وسائلُ الإعلام عن العثور على الولدين، غارقين في بِركة مهجورة بالقرب من مكان سكنهما. لقد عرفتُ عن موتهما من رؤية كفّ يد أمّهما.

نعم يا بِيني (بنياميم، الأمين)، هذا هو بيت القصيد، كفّ اليد اليمنى، تزوّد كلَّ من يهتمّ بنفس الإنسان واستشراف مستقبله بالمعلومات الكثيرة. في الكفّ تفاصيلُ كثيرة عن الماضي، لا سيّما، تفاصيل يحاول إبعادها إلى ما وراء وعيه. أمور تعلو وتطفو في وعيه في اللحظات العصيبة.

قراءة كفّ يد وزير الخارجيّة الأردنّي

ما أودّ أنّ أقصّه عليك هي قصّة مثيرة جدًّا للاهتمام، حول كيف من الممكن رفع رؤساء حكومة وعزلهم عبر رؤية كفّ يد واحدة. هذه القصّة الخاصّة حدثت معي قبل العام 1967. وكنتُ آونتَها أيضًا ذائعَ الصيت في أرجاء المملكة الهاشميّة، إذ أنّني أمارس قراءة الكفّ منذ أكثرَ من ثلاثين سنة.

في ساعة مبكّرة من صباح ذات يوم، وقفتْ قُبالة مكتبي سيّارة فاخرة جدًّا، وبدا عليها أنّها لأحد وجهاء حاشية المملكة. في السيّارة كان السائق فقط. سألني، هل أنا الكاهن يعقوب شفيق/بن عزّي، جاوبته بالإيجاب. لا تسألني أيّ شيء- ردّ السائق، لقد أُمِرتُ بأن أُقلّك إلى فِناء المملكة في عَمّان؛ جهِّز نفسك؛ غدًا قبل شروق الشمس سآتي لأقلّك بحسب ما كُلّفتُ به.

عرفتُ حال رأيته مَن مُرسل السائق من سيّارته. أَحبّ سيّدُه السفرَ بسيّارة فاخرة وبالطراز ذاته دائما. وعندما رأيته تذكّرتُ زيارة سيّده. لن أذكر اسمه احترامًا له، ولكن في تلك الأيّام، عند زيارته لمكتبي شغل الرجل منصب وزير الخارجيّة في حكومة الملك حسين. تعرفُ أنّ آلافًا من الناس زاروني في مكتبي، وحتمًا ليس بمقدوري تذكّرهم كلّهم، ولكن زيارة وزير خارجيّة شيء آخرُ لا يُنسى بسرعة. على كلّ حال، أذكر زيارة وزير الخارجيّة الأردنّي لمكتبي، وكأنّ ذلك حصل البارحة فقط.

نظر إخوتي الكهنة باندهاش شديد، كيف يتكبّد وزير الخارجيّة الأردنّيّ عناء المجيء إلى باب مكتبي. أوّلًا كان عند الكاهنين الشقيقيْن عِمران وصدقة اللذيْن عرفهما جيّدًا، وطلب منهما أن يجمعاه بالكاهن أبي شفيق الخبير بقراءة كفّ اليد، بحسب ما علِم من أصدقاء زاروني.

أرسل الكاهن صدقة ابنَه يوسف ليخبرَني عن نيّة وزير الخارجيّة الأردنّيّ لزيارتي في مكتبي. بلا أيّ تأخير، وقفت لاستقباله عند باب المكتب. فحص اليافطة أمام المكتب وداخله بفضول، ثم التفت إلي وابتسم.

لقد سمعتُ عنك من أصدقاء في عمّان، عن خبرتك الثريّة في تخمين مستقبل الشخص، وَفق كفّ يده. دعنا نرى ماذا تقرأ في كفّ يدي. ضحك وزير الخارجيّة، أمّا أنا فشعرت بإرباك ما لإطرائه الجمّ. خشيت لئلّا يرشدني الله في ذاك اليوم لإنجاح مهمّتي. تمتمت بعض كلمات عن أنّ كلّ شيء متعلّق بإرادة الله، إلا أنّ هذا الرجل الثريّ بالتجارب، أنهى كلامي بابتسامة خفيفة. حتمًا، سمع ذلك الكلام من آخرين زارهم بهذا الشأن وتوقّع منّي مفاجأة حقيقيّة.

عرّفتُ زوجتي عفاف على وزير الخارجيّة، وتكريمه بما أعدّت ممّا لذّ وطاب كعادة الشرق. بعد كلمات شرح قليلة لحالة الطائفة، إذ أنّني حرِصتُ على أن يسمع رأيي حول ما يمكن مساعدة إخوتي السامريّين، مدّ ضيفي الوجيه كفّ يده اليمنى. فحصت بعناية وجهَ الكف. كانت هذه الكفّ كثيرة جدًّا بالخطوط، التي خبّأت قصصًا كثيرة وتجاربَ على مدى حياته. سردت له ما أجده عن ماضيه، عن حاضره وعمّا يخبئه المستقبل.

قلتُ له بحذر: إن أرشدني الله إلى الطريق السليم، ها كلّ ماضيك ومستتقبلك خفيّ بكفّ هذه اليد. كفّ يدك تقول لي بأنّك قد تزوّجت امرأة أحببتها كثيرًا في البداية، إلّا أنّ حبَّك لها برد بسبب قصّة حبّ تعيشها اليوم. بالرغم من أنّك متقدّم في السنّ، ثمّة حدثان رائعان في حياتك. بالنسبة لحياتك الشخصيّة، من المتوقّع أن تطلّق زوجتك ابنة شعبك وتتزوّج من حبيبتك الأجنبيّة. وفي حياتك العامّة تنتظرك فترة أوج، وظيفتك الحاليّة ستكون أدنى من الآتية. سيرفعك الملك حسين إلى الأعلى، إلى الأعلى. هكذا يُرشدني الله تعالى بقراءة كفّ يدك.

كفّ يد وزير الخارجيّة الأردنّيّ رجفت وهي بكفّ يدي. نظر إليّ بعدم تصديق واضح مرّةً، وبدهشة كبيرة مرّة أُخرى.

حقًّا، صدقتَ بصَدَد رغبتي في تطليق زوجتي ابنة شعبي، وسبب ذلك قصّة حبّي مع حبيبتي الأمريكيّة. لكن لا أحدَ يعلم بذلك سوانا، أنا وهي، والآن وصلك الخبر من الله، إلا أنّي لا أُصدّق شيئًا واحدا. ها أنا أشارف على عام السبعين من عمري، فما هو المنصب الذي يُعدّه لي الملك حسين كما تقول. ها أناعلى عتبة التقاعد النهائيّ، من منصبي كوزير خارجيّة؟

بوُسعي أن أقول لك فقط، إنّ كفّ يدك لا تشي بالمنصب، لكن إذا دخلنا في التخمينات> فإنّي لن أُفاجأ إذا كان ذاك المنصب رئيس الحكومة – قلت ذلك بتردّد كبير، وقبل أن أُنهي حديثي صرخ وزير الخارجيّة غير مصدّق.

ماذا تقول، فهذا غير ممكن، لماذا سيختارني أنا العجوز من بين كلّ المحيطين به والأصغر سنًّا منّي؟

يبدو لي أنّ تجربتك الثريّة هي التي تجذب اهتمام الملك، أجبتُ وزيرَ الخارجيّة.

صافحني وزير الخارجيّة بحرارة شديدة مودّعًا إيّاي، وفمه ينطق بكلمات عدم التصديق. وفجأة، جلس كمن يودّ إضافةَ شيء ما.

عرّاف خدّاع من لندن

هيّا أقول لك، أنّ هذه التجربة التي عايشتها في مكتبك اليوم، لا نظيرَ لها في حياتي. في أثناء مُكوثي في لندن ببعثة الملك في لندن، طلبت ألّا تكون لي لقاءات، فخرجت للتجوّل برفقة موظفيّ الكبار في شوارع المدينة العِملاقة. في ما كنت متمتّعًا بتَجوالي في شارع أُكسفورد، من أطول شوارع لندن، لفت نائبي الماشي بجانبي انتباهي، إلى يافطات ملوّنة على بيت كبير فاخر، في رُكن شارع جانبيّ متصالب مع شارع أُكسفورد.

رُسمت على اليافطات دعاياتٌ، توجِّه الناظر إلى قاعات الطابق الأوّل في العِمارة، وتعلن عن مسكن ”أكبر الخبراء في العالَم في قراءة كفّ اليد“. وقرأت في اليافطات، أنّ نسبة دقّة قراءة كفّ اليد هي 100% نجاح. وقد كُتب في إحدى اليافطات: مقابل دفع مبلغ محترم، يقرؤون لك مستقبلك حسنَ السُّمعة من خلال كفّ يدك.

بالطبع، أُثير حبُّ استطلاعي على الفور. كلّفتُ مرافقيّ أن يُمهّدوا طريقي إلى مكتب الخبير في الطابق الأوّل. تبيّن أنّ الطريق إلى غرفته لم تكن ميسّرة. جيش من السكرتيرات استقبلنا عند دخولنا القاعة في الطابق الأوّل. دور طويل من الزبائن، الذين ضربوا موعدًا منذ شهرين، ينتظرون دعوة الخبير. عُلّقت على الجدران جداول ومخطّطات مشفوعة بشروح تفصيليّة، لكل خطّ وخطّ في كفّ اليد. وهنالك في جداول أُخرى، داخل إطارات كبيرة، رسوم بيانيّة وتفاصيل إنجازات الخبير، التي تبرِّر بحسب رأيه أن يكون ”الخبير الأشهر في العالَم في قراءة اليد“.

اِنتظرتُ قليلًا وأنا أنظر بتردّد على دور المنتظرين الطويل. كان ذلك يوم زيارتي الأخير للندن. لم يخطر ببالي مطلقًا أنني سأفوِّت فرصةَ مقابلة الخبير العظيم. استخدمت الوسيلة المعروفة. بابتسامة لطيفة وبمبلغ ماليّ محترم، مُهّدت طريقي أخيرًا إلى غرفة المتخصّص، مصحوبة بتذمّر المنتظرين.

دخلت إليه وحدي، إذ أنّ الأمر برمّته مبنيّ على الخصوصيّة. لقد شرحتْ سكرتيراته له مقدّمًا من أنا إلخ. ليتركّز بقراءة الماضي وبتخمين المستقبل فقط. فحص كفّ يدي وقارن ما رآه مع عدد من الجداول المعلّقة على الجدران. بعد ذلك، قال ما قاله بثقة كبيرة لدرجة أنّي بالكاد تماسكتُ ولم أُقهقه.
سرعان ما تبيّن لي، أنّ الرجُل مخادع ومتخفّ. لقد أسهب في الهُراءات. كلّ ما قاله عن ماضيّ لم يمُتّ للواقع بأيّة صلة. بالطبع، لم أصدّق ما قاله عمّا ينتظرني في المستقبل القريب والبعيد. أستطيع أن أقول لك بثقة كبيرة، إنّ الرجلَ كذّاب. لو كانت أوقاتي بيدي، لقمت أنا ورجالي بقلب مكاتبه عليه، ورفع دعوى قضائيّة ضده في وزارة الخارجيّة البريطانيّة.

لذلك عجبي منك عظيم، ختم وزير الخارجيّة الأردنّيّ كلامَه. أنتَ، بدون كلّ الجداول والرسوم البيانيّة، وبلا تحديد أجرة تعبك، قلتَ لي بدقيقتين هذا الكمَّ الهائل، من الحقائق عن ماضيّ وعن حاضري، وأدهشتني بما يخصّ مستقبلي، لدرجة أنّي أتركك بحَيرة عظيمة.

مدّ يده إلى جِزْدانه، حاولتُ ردَّها، ولكنّه أصرّ أن يدفع بسخاء. بعد أن منح ما منح، صافحني ثانيةً ودخل سيّارته.

ما لكَ؟ سألني سائق وزير الخارجيّة، والآن السائق الشخصيّ لرئيس الحكومة – ألم تسمع كلامي جيّدا؟

سِر في طريقك! قلتُ له، سأكون جاهزًا للسفر غدًا باكرا.

الحياة بلا امرأة أصعبُ من الحياة معها

وفى السائق بوعده، فوصل مدخل مكتبي في الساعة المحدّدة. دقّت ساعة الحائط الكبيرة العتيقة التابعة لجدّي يعقوب، خمس دقّات عند خروجي إلى السيّارة. جلست في المقعد المنجَّد بقُماش مُخمليّ أزرقَ ذي ملمس لطيف جدّا. وعلى ظهر مقعد السائق، بار صغير للمشروبات الباردة والساخنة. بالطبع، لم أُفكّر في استعماله. سيّارة البويك الأمريكيّة كانت أشبه بسفينة أحلام طويلة وسماويّة الزرقة (على زَراق). هذه السيّارة الفاخرة، التهمت بدون جُهد محسوس للمحرِّك، الطريقَ بين نابلس وجسر أَلِلنْبي، على نهر الأردن.

لم أطلب من أيّ فرد من عائلتي أن يرافقني. كبار أولادي العشرة، جاؤوا وقبّلوا يدي اليمنى، متمنّين لي رحلة موفّقة، على الطائر الميمون، والعودة بسلام، وكذلك زوجتي (زوجة حِضْني، في الأصل). إنّ ساعاتِ السلام التي عِشتها معها، تعادل آلاف الأيّام من عدم الارتياح التي عرفتها بدونها.

اِعرف يا بيني (بنياميم/الأمين) أنّ العيشَ مع امرأة عقبةٌ كأداء، وثمّة محنة أشدّ منها وهي العيش بدونها. هم عرفوا، بأنّي سأتغيّب بضعة أيّام، وما سموّ مكانة الرجل الذي استدعاني لقصره في عمّان. هم عرفوا أنّه رئيس حكومة الأردن بلحمه وشحمه.

هكذا كنت أهجِس، والسيّارة مسرعة بجانب مخيّمات اللاجئين المبنيّة من الطين والوحل البنّي. بدأتِ الشمس تعلو وتعلو. الصباح كان حارًّا، مع أنّي لم أحِسّ بالحرارة لوجود تهوية منعشة في السيّارة. السائق لم ينبِس ببنت شَفة طوالَ كلّ الطريق. يبدو لي أنّه سلك بموجب تعليمات تلقّاها، وأنا من جهتي لم أحاولِ استدراجه للحديث.

ثلاثُ غانياتٍ إس*رائي*ليّات

كانت لديّ أفكاري الخاصّة، حولَ مهنتي غير العاديّة بامتياز. إن أردتَ، هذه عمل، وإن أردتَ فهي تجربة حياة، وإن شئتَ فهي وسيلة تعرُّف على أُناس كثيرين جدّا.

في بعض الأحيان، حدثت لي حوادث اتّسمت بالتسلية. تعلمُ، ذات يوم، دخلت بيتي على الجبل ثلاث حسناوات إس*رائي*ليّات. واحدة شعرها أسودُ كلون الغراب، الثانية شقراءُ والثالثة شعرها عسليّ. كنّ جميلاتٍ لدرجة أنّي أستطيع أن أقول لك، إنّ خمسَ بناتي فقط تفوقهن جمالًا، نعم، نعم، لا أنسى ذكرَ خمسة أبنائي.

وضعتْ كلّ واحدة منهنّ كفّ يدها الغضّة بكفّ يدي، مفعمة بالخشية، ومرتجفة ممّا سأقول لها عن ماضيها، حاضرها ومستقبلها. تعرف يا بيني، الأعمى هو الوحيد الذي ينكِر الجمال الذي خلقه الله. تحدّثتِ الثلاث بالعبريّة الحديثة عن تجاربهنّ بصوت عالٍ، وبالضحك الخافت على ما قرأته في يد كلّ واحدة منهنّ.

اِنجرفتُ، دون أن أدري، مع حديثتهنّ وتبادلنا الكلام عنهنّ وعن مسقط رأسهنّ. كلامي وأسئلتي أثارا ضحكهنّ المدوّي. هنّ لم يتوقّعن أنّ كاهنًا سامريًّا ابن الشرق، كيّس جدّا، في السبعينيّات من عمره، أن يتصرّف بشكل غير تقليديّ. وسُرعان ما انجذبتُ لضحكهنّ وبدأت أُقهقه.

توقّف ضحكي دفعةً واحدة، عند سماع صوت زوجتي عفاف التي أطلقت من المطبخ تنهداتٍ بصوت عال، مقلّدة ضحكي، فأعادتني إلى أرض الواقع. اِنتبهتِ الحسناوات الثلاثُ لتنهّدات زوجتي، وبما تبقّى من حيْلهن، بعد أن دفعن لي بيد سخيّة، غادرن بيتي وهنّ متشنّجات بضحك مكظوم.

السَّفَر إلى رئيس الحكومة الأردنّيّ

في آخر المطاف، الوجهاء، أصحاب المكانة المرموقة، همُ الذين لا يُنسَوْن. السؤال الثاقب الذي يُشغلني كثيرًا هو: ما الذي يجعل أشخاصًا ناجحين جدًّا، ووضعهم متين وثابت، يأتون إلى مكتبي طالبين معرفة حظّهم المرسوم بيد الخالق في الكفّ الداخليّة ليدهم اليمنى؟ الله أعلمُ!

كلّما كثرت وتكرّرت هذه الحالات، بدأت أجد جوابًا ولو جزئيًّا عن هذا السؤال. في حالات ليست بالقليلة، كلّ الجمال والنجاح، الغِنى والمكانة المرموقة، كانت بمثابة غطاء وهميّ لنفوس مفعمة بالإحساس والعذاب. إنّ كفّ يدهم حكت لي قصصًا حزينة، وأكدت لي بأنّ ما في الإبريق مختلفٌ تمامًا ممّا تراه عيناي.

لكن، ما بي أُمطرك بأفكاري الفلسفيّة؟ إنّك ترغب في معرفة ما كان مصير ذلك السفر إلى عمّان. وصلنا إلى وِجهتنا في الساعة التي فيها سخّنت شمس الظهيرة الساخنة، أسْطحَ قصور جبل عمّان، تلّة مساكن الملك ووزراء الحكومة.

أسرع السائق ليفتح الباب الخلفيّ. انتظر قُدومي موظّفان يرتديان بدْلتين أوروبيّتين، مَخيطتيْن جيّدًا واستقبلاني بالتحيّة المألوفة: أهلًا وسهلًا. هززت رأسي مُرحّبًا بهما فأشارا لي إلى الطريق. دخلت بوّاباتِ القصر الفاخر، مسكن رئيس الحكومة.

دخلت غرفة إثر غرفة، حتّى الغرفة الأخيرة، حيث وقف شخص قُبالتي، مدّ يده لمصافحتي وأخبرني بأنّه من مساعدي رئيس الحكومة الكبار، واستفسر عن حالي وفي ما إذا كنت أشعر بإعياء ما بعد السفر الطويل. هززت رأسي يمينًا ويسارا، شاكرًا له الاستقبال اللطيف. شرح لي أنّ رئيس الحكومة قد كلّفه أن يُحضرني إليه حالَ وصولي شرطَ ألّا أكون تعبانًا من السفر. أجبتُ مجدّدًا بأنّي غير متعب، وأنّي مستعدّ للقاء رئيس الحكومة فورا.

شكرني المساعد ورافقني إلى غرفة رئيس الحكومة. وقبل أن ألاحظ رئيس الحكومة الذي نهض عن كرسيّه متوجّهًا نحوي، كنت جدّ مندهش من منظر الغرفة. كنت أتوقّع أن أشاهد غرفة مؤثثة بأفضل طراز يصمّمه الخيال الشرقيّ، لكن بدلاً من ذلك استقبلتني غرفة مؤثثة على الطراز الغربي، تتميّز بخطوط حادّة ومربّعة، دمجٌ منَ النيكل والزجاج الشفّاف.

قابلني رئيس الحكومة بابتسامة عريضة، أسرعت إليه وتعانقنا بحرارة. كان هذا الرجُل نفسه، ذو الطلعة الوقورة والمثيرة للإعجاب، الذي زارني في نابلس حينَ كان وزير الخارجيّة. بالرغم من أنّه كان أكبرَ سنًّا منّي بسنوات غير قليلة، بدا أصغرَ سنًّا منّي. سُرعان ما غُصنا في محادثة حيّة عن أخبارنا منذ زيارته لي في مكتبي في نابلس. قلتُ له إنّي تابعتُ أخبار القصر الملكيّ عن كثَب. سعِدت عند سماعي بأنّ تنبّؤي حول تعيينه رئيسًا لحكومة الملك، قد تحقّق.

وكذلك أعربتُ عن فرحي بأنّ ما قلته له عن حياته الخاصّة، قد غيّر رأيه بشأن تطليق زوجته. إنّّه قرّر إبقاءها معه في الوقت الراهن، رغم أنّه لم يقطع علاقته مع حبيبته الأمريكيّة، وكذلك اهتمّ بتلبية كلّ احتياجاتها وأسكنها في بيت فاخر بالقرب منه. زوجته عرفت ذلك وقبلت على مضض بـ-”تمرّده/عصيانه“. يجوز للمسلم أن يكون مع أكثرَ من امرأة، بحسب القرآن وهنالك مسلمون كثيرون يمارسون ذلك.

زوجة رئيس الحكومة الأردنّيّ

في النهاية، بعد أن كشف هامسًا بأذني كلَّ ما كان دفينًا في قلبه، أفصح لي عن سبب دعوته لي لبيته. هو عامل زوجته، أم ابنه باحترام كبير، إلّا أنه لم يُحبّها كما في البداية. وفي الآونة الأخيرة لم تكن على ما يُرام. اِستدعى لها خيرةَ الأطبّاء من الشرق والغرب، ولا أحد تمكّن من تشخيص حالتها، إلى أن طرأ بمخّه أن يستدعيَني لبيته، لعلّ الجواب عن سبب عدم نومه ونوم أفراد بيته يكون كامنًا في كفّ يدها.

أجبتُ، سأُلبّي رغبتهم، وليكن الله عوني ليرشدَني إلى الإجابة الصحيحة. بينما كنا نتحدّث، دخلت زوجته. لم أرها قطّ، ولكنّي شعرت بأحاسيسي المرهفة بأنّها موضوعُ حديثنا.

قدّمها لي رئيس الحكومة. حقًّا كانت زوجته. حافظتْ على رباطة جأشها، وردّت بأدب شديد على تحيّاتي. شرح رئيسُ الحكومة لها ولابنها الذي أتى معها، غايةَ مجيئي. ابتسمتْ غير مصدّقة وبملامح رافضة كأنّها قالت: ماذا يستطيع هذا أن ينفع بعد؟

هي تركتْنا. قال لي رئيس الحكومة، بأنّهم يفضّلون أن أرى كفّ يدها في غرفتها الخاصّة للحفاظ على كامل سريّة الموضوع. لا حاجة لأن يعرف أحدٌ الغرضَ من زيارتي. ابنها رافقني إلى غرفتها.

كانت كفّ يدها مثيرة للإعجاب، ككفّ زوجها. لم أكن بحاجة للانتظار طويلا. خطوط يدها روت لي قصّتها. موقفُ زوجِها المتحفِّظُ، هو الذي تسبّب في روحها العاصفة. شرحتُ لها بهدوءٍ بأنّ زوجها يحترمها جدًّا، ولن يتركها. كما قلت لها إنّ خطوط كفّها، تهمِس لي بأنّ روحها الهائجة ستهدأ قريبًا. وبدا لي، أنّ كلامي كان كالبلسم لنفسها المنهَكة.

دخل اِبنُها طويلُ القامة مذعورا؛ أقسم بأنّ أحدًا في القصر، لم يسمع منذ مدّة مديدة، ضحكَ أُمّه. لقد ضحكت ثانيةً وقدّمت لي الحلويات .

هلّا ألقيتَ نظرةً على كفّ يد ابني؟ قالت. مدّ يدَه بقلق. نظرتُ إليها وذُهلت. كانت شبيهةً جدًّا لكفّ يد أبيه.

ستصبح رئيسَ حكومة، قلتُ.
ما الذي يجعلك تفكِّر هكذا، سيّدي الكاهن؟ سأل.
حقًّا، هكذا كان، عندما قلتُ.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!