مقالات دينية

القديس مار يعقوب مؤسس دير بيث عابي

الكاتب: وردا اسحاق

 

 

القديس مار يعقوب مؤسس دير بيث عابي

إعداد / وردا أسحاق قلّو

ولد القديس يعقوب الراهب في مدينة لاشوم الواقعة على مسافة 12 كم شمال شرق داقوق ، في منطقة بيث كرماي ( كركوك ) واقام سنين طويلو في أماكن شتى . فكان يعلم ويقرأ الكتب للآخرين وكان يحب أن يسكن منفرداً في مواضع هادئة . صعد إلى دير ( إيزلا ) وتتلمذ لربان مار دادا يشوع ، وأقام منزوياً في الصومعة التي كان يسكنها الطوباوي مار يعقوب أسقف نصيبين الذي توفي سنة 338 م . بعد أنتقال مار داد يشوع إلى الحياة الأبدية خلفه مار باباي في رئاسة الدير ، أما الربان يعقوب فأختار لنفسه التواضع وعدم مبالات بأعتبار الناس له كأنه غريباً بينهم وبعيداص عن أمجاد هذا العالم ، فحسب ذاته إنه أصغر راهب في الجمعية الرهبانية ، بينما كان عظيماً ورفيع الشأن لدى الله رب العالمين . أما عند الجهلة فكان محتقراً ومرذولاً بسبب تقشفه وتجرده . وقد أصبح عرضة لهجمات كثيرة وشدائد مختلفة سببها له الشياطين المردة هناك . ولكنهم عندما لم يجدوا إلى التغلب عليه سبيلاً ، أثاروا عليه فتنة .

الطوباوي مار أيليا الحيري ، وهو أحد تلاميذ مار أبراهام الكبير ومؤسس دير مار أيليا قرب الموصل والذي كان ساكناً في نفس الدير أكتشف خطيئة في بعض الرهبان الساكنين حول الدير ( تزوجوا من نساء وسكنوا معهن في صوامعهم وأنجبوا منهم أطفال ) فنقل الخبر مفصلاً إلى رئيس الدير مار باباي ، وبعد التحري في الأمر والتأكد من صحته ، تم نزع الثوب الرهباني عن المخالفين وحلقوا رؤوس هؤلاء الرهبان وطردهم ونسائهم وأولادهم وأخرجوهم من هناك ، وأضرموا النار في صوامعهم وأحرقوها .  من الدير ، ولم ينتهي الأمر بهذا ، بل أستمر الشيطان بخطته لتدمير الدير كله والنيل من الصالحين في الدير وخاصة من القديس يعقوب ، فقرف هذا القديس بتهمة على لسان مار إيليا ، فقال أن مار يعقوب متهم أيضاً لأن صومعته كانت قريبة من مساكن الرهبان المطرودين وكان يعلم بسيرتهم وأخطائهم لكنه أخفى الأمر كل هذه المدة دون أن يفضح سلوكهم فقرعه مار إيليا بالقول ( أن هذا الذنب كله ذنبك ، وعلى عاتقك تقع مسؤلية هذه الخطيئة كلها فإنك لو كشفت الأمر وأظهرته لنا من البدء لكانوا يؤدبون أو يطردون ) لكن في الحقيقة كان مار يعقوب أشد الناس وداعة وتواضع ، وكانت عينيه من الطهر بحيث لم يكن ليرى الشر في قريبه ، ولم يضر إنساناً طيلة حياته ، ولم يزجر أو يوبخ أحداً ، بل كان نظره محفوضاً وعيناه مغروقتين بالدموع وقلبه مفعماً بالندامة المقرونة بالأنسحاق حسب ما تأمر به حكمة الرب . طرد ما باباي يعقوب فخرج من الدير وأرتحل مع تلميذ طاهر قديس كان قد لزمه منذ أمد بعيد يسمة برنون ، فذهبا إلى جبال قردو الواقعة شرقي دجلة والمقابلة لمنطقة بيث زبدي . كتب عليه الرئيس الموقر حرماً كثير المواد مشحوناً بالوشايات والإدانات .

غادر الدير لأنه أدين بغير عدالة وقرف بغير حق ، لم يحكم على أحد ولم يقابل أحداً من الذين أدانوه ، بل فوض الأمر كله إلى الله الذي سيدين المسكونة بالعدل . بعد خروج الطوباوي يعقوب عاين الآباء القديسين في الدير ما حدث من ظلم على هذا القديس البرىء فأضطرمت فيهم نار الغيرة وأخذوا ينحون باللائمة على رئيس الدير ويذمونه ويصخبون عليه قائلين ( إنك لا تدبر الشؤون الإلهية بعدالة ، بل حسب الهوى البشري وبميل غير حميد ، فأنك نسبت الذنب إلى الطوباوي يعقوب المتواضع بدون علم منا وطردته بدون مشورتنا ، فأرسل إذاً في أثره حيثما هو ، وإلا فإننا سنغادر المكان كلنا ). لما رأى مار باباي أن آباء جمعيته القديسين قد ثاروا عليه ، أسقط في يده ولم يحر جواباً ، إذ لم يكن يعرف إلى أين توجه الطوباوي مار يعقوب . وهكذا بدأت الأمور طفيفة وتدرج منها إلى كبيرة فغادر الجميع الدير لأن الرباط الذي كان يجمع شملهم قد أنفرط ، فغادر الجميع الدير وتوزع المنتسبون إلى مجاميع صغيرة نتيجة الخصام ، فأسسوا أديرة كثيرة لكي يخزوا الشيطان وينالوا من خطته الذي أراد تبديدهم . سبق هذا الحدث القديس مار برعيتا الناسك البصير فرأى بعين الروح هذا التشتت قبل أن يبدأ ، فدعا يوماً شيوخ جمعيته وقال لهم : أيها الأخوة تجري في العالم أمور مثير يخالها الأنسان بظواهرها ناجمة من هجمات الشياطين أو الميول البشرية ، غير أن الرب الإله يستهدف من ورائها إنجاز تدبير إرادته على أحسن وجه ، وعندما يعرف المتبصرون إنها ليست بدون أمره وإنها جرت لكي تؤدي بالعقلاء إلى تمجيده كما جرى الأمر في هرب يعقوب من عيسو . وفي بيه يوسف ، وهروب موسى بسبب مصرع المصري ، وإضطهاد شاؤول لداود، وكذلك الشأن مع جمعية أبينا القديس مار أبراهام .

بعد المغادرة كان مار يعقوب يسكن في جبل قردو ، وكان أحد القديسين يسكن بجواره . أستلم رسالة سماوية من إمرأة  رآها جالسة فوق شجرة كمثري ، مفادها ( قم وعد إلى صومعتك ، فإن الله سيقيم على يدك ديراً عظيماً يشتهر في الشرق كله ، وخذ أنجيلي هذا الذي قد أمحى قليلاً وأعطيني أنجيلك … ) ولم يشتبه مار يعقوب الفاضل في كلامها الذي تم بحذافيره … لتحل الرحمة علينا في يوم الدين بصلواته وصلواتها وصلوات كل الذين يتقون الله .  حين سمع الرسالة من تلك المرأة القديسة علم أن إرادة الله هي أن يعود إلى السكنى مع الناس ، ويصبح أباً ومربياً لرهبان ، مع إنه كان يفضل البقاء في حياة النسك بعيداً عن عشرة الناس ، ةوأن يكون مسكنه مع الحيوانات ليبقى فكره بعيداً عن الأمور البشرية ويتسر له الأتحاد مع الله بالهدوء والسكينة . رضخ للعناية الإلهية فعاد مع تلميذه الوديع إلى بيث عابي ، ألتحق به تسعة أخوة  . ألتقى بربان برحذبيشا فقبله بحنان وسر به جداً وذهب بصحبته إلى بيث عابي وتنبأ له بنجاح ديره وبالأزدهار العظيم الذي يوايه المسيح الرب لجمعيته ، وقد مكث معه زمناً يسيراً ثم عاد إلى صومعته وديره . غمره الأبتهاج والفرح حينما التقى مع أخوته فتبادل معهم القبلة المقدسة كما فعل ابينا يعقوب مع أبنه يوسف وذرف الدموع بسبب فرحه الداخلي وأقام معهم كل أيام حياته بالتواضع الذي عمله الرب لتلاميذه إذ قال ( تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم ) ” مت 29:11″  .

كان زمن مجىء مار يعقوب إلى دير بيث عابي في أيام الملك كسرى بن هرمزد عام ( 590 ) م ، وأراد كسرى أن يبني ديراً لأمرأته شيرين في مقاطعة بلشفر المجاورة للحدود العراقية الأيرانية ، وتشمل منطقة خانقين وحلوان ، وهناك يقع قصر شيرين . كما أرسل كسرى وزير ماليته ( شمطا أبن الطوباوي مار يزدين ) وهو من أهالي كركوك إلى مدينة الرها لكي يجلب من هناك كتب الطقس والأسفار المقدسة لتكون في ذلك الدير ، فجلب لرباننا كتباً كثيرة لينتسخها .

عمل مار يعقوب عجائب كثيرة منها ، زجر النار التي نشبت في الدير فأنطفت ، والسيل الذي تدفق في كلا الواديين فخرج إليه وردعه ولطف إنحداره لئلا يستأصل الدير مع الهيكل في المكان الأول الذي كان مبنياً فيه . كما كان يطرد الشياطين . كما أمر المخلع الذي يقول ( لك أقول أيها المخلع ، قم أحمل سريرك وأمضي إلى بيتك . ) هكذا أيضاً أمر مخلعاً آخر كان يسكن بيت الشهداء وكان يزحف على بطنه حتى قفز في وسط الهيكل فساد الفرح والغمرة والأبتهاج بالحاضرين .

قال الحكيم ( أن الصديق السائر في سلامته ، طوبى لبنيه من بعده لأن أجراء الحكم فرح للصديق ).

مات الصديق مار يعقوب ولعله لم يمت ذلك الذي خلف وراءه كثيرين أمثاله ، وتتلمذ على يده جمع غفير بلغوا الثمانين رجلاً كتبت أسمائهم في سفر الحياة . أمر القديس يعقوب أن يخلفه الأنبا يوحنان الشيخ ( سابا ) الذي كان ند للقديس يعقوب .

 نطلب شفاعة القديس يعقوب ليسود السلام والوئام اليوم في بلاد النهرين الذي عاش على أرضه ، ولتحل بركاته علينا جميعاً   

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!