القديس مار ميخا النوهدري تلميذ مار أوجين

القديس مار ميخا النوهدري تلميذ مار أوجين

إعداد / وردا إسحاق قلّو

مار ميخا النوهدري : ولد في منطقة نوهدرا في العقد الأول من القرن الرابع الميلادي ، حوالي سنة 309 م ، ولقب بالنوهدري نسبة إلى منطقة نوهدرا ، التي تشمل سهول منطقة نينوى ، المحصورة مابين صحراء ما بين النهرين وجبال شمال العراق . ويقال بأنه ولد في قرية بانوهدرا ( دهوك  ) الحالية والتي كانت تابعة لمعلثايي الواقعة إلى غرب دهوك .

 كان أبواه مجوسيين، وأجداده من رؤساء المجوس وندماء الملك. أبوه يدعى كور شاه ، وقد تنصر والداه واقتبلا المعمودية من يد القديس مار أوجين أبي الرهبان في المشرق .

كان ميخا يميل إلى الكنيسة منذ صغره ، فأودعه والداه الكنيسة ليقيم فيها ، ويتربى التربية المسيحية . فتعلم اللغة والطقس ، وختم كتاب المزامير . وكانت الكنيسة بعيدة عن موطن أبويه ، فكان الوالدان يزورانه مرة واحدة كل سنة ، ويجلبان له كميات من المال والملابس والمأكل والمشرب . أما هو فما أن يودع والديه حتى يعود ويوزع كل خيراته على الفقراء والمعوزين ، ولا يترك له منها إلا الشيء القليل ، مما يدل على بذور الخير التي كانت كامنة في كيانه منذ نعومة أظفاره . وبقي هناك حتى اشتد عوده ، وقوي عظمه ، ونهل من الكتب الإلهية قدراً كبيراً من العلم والمعرفة، وأصبح أهلاً للانخراط في سلك الرهبنة ، التي كانت أمنيته ومبتغاه .

توجه للانضمام إلى الحياة الرهبانية في جبل إيزلا ، فقبله القديس مار أوجين في ديره وألبسه الأسكيم الرهباني . فقضى مار ميخا في الدير قرابة عشرين سنة ، كان فيها مثال الراهب التقي الورع المطيع لقوانين الدير ، المتمثل لأوامر الرؤساء ، المكمل لكل الواجبات التي تفرضها عليه حياة الرهبنة . فكان مار أوجين يحبه حباً عظيماً ويعامله كأبنه ، ويخصه بمنزلة متميزة عن أخوته الرهبان . وقد اصطحبه إلى نصيبين لزيارة أسقفها مار يعقوب النصيبيني ، كما رافقه إلى جبل جودي لتكريس الدير الذي ابتناه هناك مار يعقوب النصيبيني ، والمعروف بدير قيبوثا        ” الفلك “، وذلك في الموضع الذي رست فيه سفينة نوح . القديس مار ميخا هو الذي كتب سيرة حياة معلمه القديس مار أوجين .

سنة 361 اضطهاد يوليانس الكنيسة ، فهرب جميع الرهبان من الدير ، ولم يبقى فيه سوى مار أوجين وعشرة من الأخوة الرهبان . فعاش مار ميخا في تلك الفترة متوحداً في كوخ صغير ، عيشة التقشف والشظف ، ممارساً كافة العذابات الجسمية لترويض جسده وإماتة شهواته ، قاضياً الليالي بالصلاة والتأمل وقراءة الكتب المقدسة . وقد تعرض عدة مرات لتجارب وإغراءات الجسد والمال ، فكان يقاومها ويتغلب عليها بشجاعة وإصرار ، من خلال تمسكه بالصوم والصلاة والعبادة ليلاً ونهاراً . وقد كوفيء من الرب بمنحه قدرة إلهية تعينه على شفاء المرضى من عللهم الجسدية والروحية ، فشاع خبره في تلك الأصقاع ، فأتوا إليه فشفاهم بقوة الله .

خطرت لمار ميخا فكرة زيارة الديار المقدسة ، للتبرك والصلاة بجوار القبر المقدس . فشد الرحال ، وما أن وصل دمشق حتى زار الهيكل الذي يضم رفات مار يوحنا المعمدان . ومن هناك توجه إلى أورشليم برفقة رجلين كانا يقصدانها ، وفي الطريق تعرض لهم قطاع الطرق وأرادوا سلبهم ، ولما لم يجدوا شيئاً عندهم حسبوهم جواسيس فحبسوهم في مغارة . وفي تلك الليلة حدثت أعجوبة ، حيث أن اللصوص بعد ذهابهم ألمّ بهم ألم فظيع قضَّ مضجعهم ، وترك سهاد طوال الليل يتقلبون على الفراش من شدة الألم . ولما بحثوا عن السبب ، لم يجدوا غير ظلمهم على أولئك المسافرين الأبرياء المسجونين في المغارة ، وما هذا الألم إلا عقاب لهم بسببهم .

وما أن طلع الصباح حتى أسرعوا إلى تلك المغارة وأطلقوا سراحهم ، وطلبوا منهم العفو والمغفرة . فاشترط عليهم مار ميخا بأن يتوبوا ويكفوا عن أعمال الشر . فقبل اللصوص طلبه ، وتابوا وندموا فزال عنهم الألم ، وتعافوا لساعتها . ثم واصل مار ميخا ورفيقاه السير إلى أورشليم ، حتى بلغوها ودخلوا إليها .

دخل مار ميخا المدينة المقدسة وهو ممتلئ شوقاً ولهفة لزيارة جميع المواقع التي وطئها يوماً المخلص ، وأراد أن يدخل إلى كل مكان دخله يسوع ، وينصت إلى صوته يجلجل في الهيكل يعلم ويوبخ الكتبة والفريسيين على أعمالهم ، ويسير في الأزقة التي سار فيها المخلص حاملاً صليبه على منكبيه . وأخيراً وصل القبر المقدس ، فدخله بخشوع ورهبة ، وسجد مبتهلاً إلى من دفن فيه ، وقام منه أن يعينه على اقتفاء أثره والسير على هديه .

وفي أورشليم التقى بفلابيانس مطران أنطاكية ، فرحب به وفرح بلقائه . وصادف في تلك الأيام أن جاء أناس من طرسوس يطلبون من فلابيانس أن يرسم لهم أسقفاً ، فأشار عليهم أن يطلبوا مار ميخا فوافقوا . وألح عليه فلابيانس أن يقبل طلبتهم ، لأنه مختار من الله لرعاية خرافه فوافق .

وفي يوم عيد العنصرة وضع فلابيانس يده على ميخا ، ورسمه مطراناً على طرسوس . وبعد عدة أيام اختفى ميخا ، وطلبه أهالي طرسوس فلم يجدوه . فقد خرج ليلاً قاصداً جبل سيناء ، وكان الدافع على ذلك تواضعه واشتياقه إلى حياة النسك والتوحد . وما أن وصل هناك حتى زار المكان الذي نزل فيه الوحي على موسى النبي .

وخرج من هناك قاصداً برية الاسقيط ، حيث عدد كبير من الأخوة الرهبان يعيشون عيشة الزهد ، والانقطاع عن العالم وعبادة الله في صمت وهدوء . وبعد أن اطلع على حياتهم ونمط معيشتهم ، ابتعد في عمق البرية وهناك وجد كوخاً اتخذه مسكناً له . وعاش فيه عشرين سنة منقطعاً كلياً عن العالم ، يعبد ربه ويناجيه ليل نهار بالصلاة والصوم . وكان يقتات في كل هذه السنين على حشائش البرية ، التي أضحت قوته اليومي . وفي إحدى الليالي بينما كان منقطعاً إلى خالقه في صلاة حارة ، أوحي إليه أن يعود إلى الشرق ، ويبني ديراً في ألقوش . فقام لتوه وشد الرحال عائداً ، وفي طريقه مر بأورشليم ثانية للتبرك .

ويبدو أن ألقوش كانت مسيحية في القرن الرابع الميلادي ، وكان لها كنيسة تقام فيها الصلوات والشعائر الدينية من قبل الكهنة والشمامسة وجماعة المؤمنين . وهذا ما تؤيده قصة مار ميخا ، حيث تذكر أنه كان في استقبال مار ميخا كهنة وشمامسة وجمع كبير من أهالي البلدة . وكان مجيء مار ميخا إلى ألقوش حدثاً فجائياً غير متوقع ، إذ لم يدر بخلد الألقوشيين أن يقوم رجل مثل مار ميخا بزيارة قريتهم والمكوث فيها . لذا فخروجهم للقائه واستقبالهم له بالحفاوة والتكريم ، كان بإيحاء إلهي وتدبير سماوي .

وعندما قدم مار ميخا إلى ألقوش أستقبله كهنة وشمامسة وجمع كبير من أهالي القرية ، مما يؤكد أن ألقوش كانت مسيحية منذ القرن الرابع . لم يكن مار ميخا يحمل شيئاً سوى كتاب الإنجيل . وكان وصوله في وقت كان قد انتشر فيها وباء ، راح يفتك بالأطفال فتكاً ذريعاً. فطلب مار ميخا من الناس أن يتوبوا ويصوموا ويصلّوا ، فلبوا طلبه بحرارة وشوق ، وأقاموا بمعيته الصلاة والابتهال إلى الله . فسمع الله تضرعهم بشفاعته ، وزال الوباء من القرية ، وتوقف موت أطفالها. فعم الفرح والسرور بيوتها ، وأيقن أهلها أن هذا الوافد الجديد هو مبعوث إلهي إلى قريتهم ، جاء لينقذهم من المرض ويدعوهم إلى التوبة ، ويرشدهم إلى حياة جديدة ، حياة النعمة والفضيلة ومحبة الله . وكان لهذا العمل أثر بليغ في نفوس أهالي ألقوش ، الذين وجدوا فيه شفيعاً ومرشداً. فأحبوه ، واحتضنوه ، وقدروه ، وأكرموه .

  شعر أهالي ألقوش بحاجة مار ميخا إلى منزل مستقل لسكناه ، ولاستقبال الوافدين إليه ، كما لمسوا لديه الرغبة في تعليم الشبان والأطفال وتهذيبهم . فقاموا ببناء دير ومدرسة في الجهة الجنوبية الشرقية من القرية ، ليقيم فيها ويؤدي رسالته التي من أجلها قدم إلى ألقوش . ولما كمل البناء قام مار ميخا بتوجيه الدعوة إلى أسقف معلثايا مع إكليروسه لافتتاح الدير وتقديسه ، نظراً لأن ألقوش آنذاك كانت تابعة لأبرشية نوهدرا. وقد جمع مار ميخا في مدرسته كل الأطفال وطلاب العلم من ألقوش وأطرافها ، واسكنهم في ديره ليعيشوا سوية ، وهذا العمل كان يتطلب مبالغ كبيرة من المال . فاستعان بالذهب والفضة التي قدمها له المؤمنين ، واشترى بها أراضي زراعية في شرق وغرب ألقوش ، وإلى اليوم يوجد في سهل ألقوش أراضي زراعية تسمى ” أراضي القسس “ . كما يوجد غرب ألقوش في قرية بندوايا رحى باسم ” رحى مار ميخا “ ، ومن المحتمل أن تكون من ضمن أملاك دير مار ميخا . وكان يستعين بما تدر عليه هذه الأملاك للصرف على مدرسته واحتياجات تلامذته. وكان مار ميخا قد تنبأ عن قدوم الربان هرمزد إلى ألقوش بالقول : إن الله عتيد ليرسل إليكم نسراً عظيماً، يصعد بمقامه فوق الملائكة ، ويعشعش بجانبكم في هذا الجبل ، ويولد أفراخاً روحية . وكل من يدعو باسمه يطرد منه الرب كل وجع ، ويكون له سلطان على مرارة وسم الدبيب القتال . ويسمى هذا الجبل أورشليم العليا .

 تعد كنيسة مار ميخا النوهدري من أقدم الصروح العمرانية والحضارية الشامخة بهيكلها حتى الآن في ألقوش القديمة ، والذي جاء بناؤها متزامناً مع حياة مار ميخا نفسه حين قدم إلى ألقوش واستقر فيها عام 414م . والداخل إلى هيكل مار ميخا ستمتلكه مشاعر من الخشوع والهيبة عندما يشاهد المذبح القائم في صدر الهيكل وعلى جانبيه مرقدين . من الشمال مرقد مار ميخا ، ومن الجنوب مرقد النبي ناحوم . هذا وترفع مشكاة جميلة على يسار باب المذبح من الجهة الشمالية مزينة بنقوش نباتية في أسفلها كتابة منحوتة في حجر باللغة الكلدانية . كما عثر على صندوقين من الحجر أحدهما يحوي على عظام مار ميخا ، والآخر على عظام النبي ناحوم ، وقد تم التعرف عليهما من الكتابة المنقورة على كل منهما . وفوق ضريح مار ميخا نشاهد صورة كبيرة بالألوان لمار ميخا تمثله وهو يخرج الشياطين من إمرأة ممسوسة . والصورة مرسومة بريشة الرسام الشماس ( إس*رائي*ل بربيشو ) من قرية تل حاش ، وتاريخ رسمها 1925 أوصى برسمها القس يوسف كادو مستوحاة من التقليد الشعبي الألقوشي .

ثبت وجود الدير والكنيسة الأنبا جبرائيل دنبو ( 1757- 1832 )م ) كان في عام 1811 وأتخذ الدير مقراً له ولرهبانه أثر طردهم من دير ربان هرمزد من قبل حاكم العمادية والذي يعد مجدد الرهبنة للطائفة الكلدانية في ذلك الدير .

وعاش مار ميخا في كوخ صغير داخل الدير الذي بُني في ألقوش مدة خمس عشرة سنة ، يمارس الصوم والصلاة والفضائل المسيحية ، ويدير مدرسته التي انتشر خبرها في كل الآفاق . وفي أحد الأيام بعد صلاة الغروب ، جمع الكهنة والشمامسة وطلاب مدرسته ، ووعظهم وصلى عليهم، وقدم لهم نصائحه الأخيرة ، ثم ودعهم وباركهم . وتوجه بطرفه نحو ألقوش وباركها قائلاً : ” لا يتحكم بكِ عدواً “ . وأغمض عينيه، واسلم روحه لخالقها وباريها . ويذكر أن مار ميخا حفر قبره بيده في نفس الكوخ الذي كان يسكن فيه . وقد دفن في نفس المكان  ، وأقيمت الصلوات على روحه. أكتسبت تلك البناية قدسية وهيبة ، وبني فيها هيكل للعبادة فوق قبره . وكانت وفاته في الأول من تشرين الثاني سنة  429، وقد ناهز المائة والعشرين سنة .

إتخذت ألقوش مار ميخا شفيعاً لها . والجالية الألقوشية في أميركا وكندا أسسوا جمعية خيرية بأسمه ، ويحيون ذكراه كل عام .

وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار ميخا النوهدري في الأول من تشرين الثاني من كل عام .

لتكن شفاعته معنا جميعاً .

Exit mobile version