مقالات دينية

القديس الأنبا يوسف

القديس الأنبا يوسف

إعداد / وردا إسحاق قلّو

  كان الربان يوسف المغبوط من بلاد بيث كرماي ، من المقاطعة المدعوة بيث مشيناني الواقعة على الزاب الصغير . منذ صباه تتلمذ في دير بيث عابي تاركاً كل الأفكار والأهواء المؤدية إلى الخسران ، فتجرد كلياً من جميع الماديات . فشاد له صومعة في واد يدعى ( دَخيا ) وعاش فيها طيلة حياته بكل فقر روحي . ويقال أنه لم يكن له ما يسمى بالألفة ، فطيلة حياته لم يكن له صديق ولا تلميذ ، بل كان يتقصد من شغل قلايته القليل أو يخرج إلى الحصاد مع رفاقه ، ومن محصوله هذا كان ينفق حسب احتياجه بقلة . وإلى جانب الفضائل لاحظت السيطرة على الحواس في هذا الشخص القديس الذي أنا بحاجو إلى صلاته . فأنه كان دوماً ينظر أمامه حتى لو كان وحده في صومعته ، ولم يكن ليمد عنقه إلى هنا وهناك وينظر إلى مكان آخر ، لذا فقد تقلصت أعصاب أكتافه المرتبطة بالرأس حسب تركيب خلقة طبيعتنا . فكان يرى ما كان قريباً أمام رجليه فقط . أما ما كان بعيداً قليلاً أو إلى أحد الجوانب فلم يكن يراه البتة . ويقول الرهبان القدماء الذين راجعتهم بشأنه أنه مدة أربعين سنة لم يرفع عينيه ولم يرى سقف هذا الهيكل ، كما هو مكتوب عن نده . فتقرحت عيناه وتناثرت أهدابه ومآقيه كانت مخددة سوداء من فرط سيل دموعه . ولما لم يعرفه أحد ، ولم يرد أن يكون معتبراً ، فقد انهى حياته بالراحة .

    في الفترة التي ادركته في الحياة ، هجم علينا عدة لصوص أكراد ونهبوا أموال الدير كلها ودخلوا كل الصوامع وأخذوا ما وقعت عليه أيديهم . ولما لذنا جميعنا بالفرار إلى الآكام أصبح لهم متسع من الوقت لكي يفتشوا بهدوء المنازل والصوامع كلها ، لأن الوقت كان نهاراً . ولما غادروا الدير ، عدنا جميعنا ، فذهب أحد الأخوة وهو جار له ليرى ماذا حدث لذلك الشيخ القديس ، فرآه نائماً وقت القيلولة عند مدخل كوخه الصغير وقد فتح بابه للتبريد ، فسأله : ( أيها الأب إلى أين هربت من الأكراد الذين داهمونا اليوم وأخذوا كل ما لنا ؟ ) فأجابه مندهشاً : ( يا ابني لم أحس بمجيء السراق إلى هنا ) . هكذا حفظ الله الرجل من الضرر ومن عذاب أؤلئك اللصوص .

    روى البار ( حكيما ) أسقف ( كوكي ) ” يظن أن كوكي كانت مدينة في بيث كرماي ، تقع بالقرب من الزاب الصغير ” .قائلاً ( إني ذهبت يوماً إلى هذا الطوباوي لأطلب صلاته وأتبرك منه ، ولما قرعت وفتح لي جلست عنده قليلاً ثم ودعني وأخرج وأعطاني قصعة صغيرة لم أرى لمنظرها وتركيبها مثيلاً وقال لي : ( يا بني أعطِ هذه الشيخ الفلاني وأشكره وقل له إنني لك شاكراً لأنك عندما أتيتني بطبيخ في هذه القصعة لم أكن قد ذقت خبزاً منذ ثلاثة أيام ) . وكان ملاك الرب هو الذي أتى له بطعام ، كما أرسل لدانيال عشاء بواسطى حبقوق من يهودا إلى بابل . وقد تحقق لدينا هذا الأمر ، إذ أنني حينما أخذتها إلى ذلك الشيخ واعدت عليه ما قال لي الأنبا يوسف ، أقسم وأكد أنه لم يذهب إلى صومعة ذلك الطوباوي منذ أكثر من سنة . فملاك الرب إذاً ظهر بشكل ذلك الشيخ لهذا ” الراهب الذي ” مكث طاوياً داخل صومعته ولم يخرج ليقرع باب بشر لسد حاجته .

   كان في الدير رجل اسمه ( فالوحا ) وكان خادم الدير ، هذا ارسله الوكلاء ليحتطب ويجلب الحطب بالقارب . وذهب ربان يوسف قبله إلى دير ربان مار أيشو عزخا الذي يكنى بدير الجص ، وفي صباح اليوم التالي قفل راجعاً فلمح فالوحا القديس من بعيد وعرفه ، فرآه يقترب من الزاب ويرسم إشارة الصليب ويجتاز فوق الماء ، فدنا منه وسلم عليه ، ولما رآه الشيخ وعرف أنه أحس به ، ساورته الظنون وأضطرب ، واستحلفه قائلاً له : ( بأمر الرب لا تخبر بما رأيت إلى أن أغادر هذه الحياة ) ثم تركه ومضى إلى صومعته . غير أن ذلك لم يقم للحرم وزناً ولم يَخَف من القسم ، بل أخبر بالأمر أمام الأخوة كلهم .

   روى أحد المبتدئين قائلاً : عندما كنت أرى القليل من الثيران التي كانت للدير وسط الغاب في الوادي المجاور ، إذا بي أسمع صوت بكاء مر كبكاء من غلل بالقيود ، وصوت صراخ حزين . فتوغلت بتوءدة ووجدته جاساً على الأرض وسط العشب والأزهار لأنه كان شهر أيار ، ورأيته ينتقي العشب اليابس من وسط النضر ويدنيه من وجهه ويغص بالدموع وهو يقول : ( أن أيام الإنسان مثل العشب ، وكزهر الحقل ينمو ، وما أن هبت عليه ريح حتى يضمحل ولا يعرف له أثر ) ” مز89 : 5-6 ” وأيضاً ( إنما البشر شبه نفس وأيامه كطل تمضي ) ” مز 4:143 “

  كان يكرر ذلك بنغمات شجية والدموع تنهمر في مآقيه بغزارة . وكان يأخذ أيضاً من تلك الأزهار الجميلة وينظر إليها بأعجاب ويتنهد قائلاً لله ( المجد لك يا خالق الكل ، ما أجمل أعمالك ) ” أش 40 : 6-7 ” وفي تلك الأثناء كنت واقفاً ساكناً مندهشاً من هذا المشهد الغريب ، وكيف الأشياء الحقيرة والبسيطة كهذه كتنت تفجر دموع ذلك الشيخ القديس ، فأن آخرين لم يكونوا ليبكوا هكذا حتى تحت الضربات . وبعد بكائه الشديد وصراخه المؤلم الذي به كان يشكر الله ذاهلاً ، إذا بفرح تدفق من داخله فامتلأ فمه ضحكاً ولسانه تسبيحة كما يقول داود النبي في مزمور ( 2:126) . وقد أخذ من تلك الأزهار التي أمامه بيده وأدناها من منخريه ورفع صوته مرتلاً أغنية السعانين : ( الورد والسوسن والأزهار وأقاحي نيسان بهية جداً بمنظرها … ) أما أنا فتركته وانطلقت لئلا يشعر بي فيغضب . وله أمور أخرى كثيرة ، غير أني أتجاوزها لكي لا أحمل هذا المقال عبثاً ثقيلاً فيطول أكثر من غيره .

   لما وافته المنية رقد في صومعته وحيداً دون خادم . ولم يخدمه أحد قط في مرضه ، ولم يحس به إلا الشيخ القديس ربان بطرس رفيقه ، وهو أخبرنا بوفاته . ولا نعلاف هل كان ذلك برؤيا إلهية أم إنه ذهب ليزوره … فتُلِيَت الصلوات على جسده الطاهر ووري التراب في مقبرة الدير بجوار مكان الصلاة .

            لتحل علينا بركته ويعضدنا بصلواته … آمين

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!