مقالات

الإنحطاط الأخلاقي للغرب

كشفت الحرب على غ*ز*ة اضطراب أخلاقي عند الغرب حسب البعض وانحطاط أخلاقي عند البعض الاخر، ومهما يكن من توصيف مفاهيمي فإن الأمر يتعلق بالتناقض الصارخ ما بين الخطاب الذي تعكسه المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي يتبجح الغرب بأنها من صميم ثقافته، وما بين الممارسة التي تنهجها الدول الغربية، لقد أثار الاختلاف في شدة ردود فعل الغرب على غزو أوكرانيا والقصف الإ*سر*ائي*لي لغ*ز*ة اتهامات ب «المعايير المزدوجة» من دول الجنوب مما يدفع إلى إحياء الانقسام “الغرب ضد البقية” وتقويض مصداقية المواقف السياسية التي تتبناها القوى الغربية.
إن كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال الإ*سر*ائي*لي حق يعترف به ميثاق الأمم المتحدة، فالقرار 1514 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 14 دجنبر 1960 يؤكد بصفة صريحة أنه “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعي بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”. والقرار 3236 بتاريخ 22 نونبر 1974 الدي ينص على أن الأمم المتحدة “تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه (…) وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق”. كما اكدت اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية أسرى الحرب، على شرعية حمل السلاح لمقاومة المحتل من خلال إضفاء المادة 4 صفة “أسرى الحرب” على أعضاء حركات المقاومة المنظمة “التي تعمل داخل أرضها أو خارجها وحتى لو كانت هذه الأرض واقعة تحت الاحتلال وذلك بشروط، أولها أن يكون لهم رئيس مسؤول، وأن يحملوا السلاح علناً، أن يحملوا علامة مميزة ظاهرة، وأن يلتزموا في نضالهم بقوانين الحرب وأعرافها، وهي كلها شروط تنطبق على المقاومة ا*لفلس*طينية . نفس الشيء اعتمده الملحق الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 1977 الذي يشير في مادته الأولى ان نطاق تطبيقه يشمل المنازعات المسلحة التي تناضل بھا الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصریة, وذلك في ممارستھا لحق الشعوب في تقریر المصیر, كما كرسه میثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودیة والتعاون بین الدول طبقاً لمیثاق الأمم المتحدة.
منذ انطلاق عملية “طو*فا*ن الأقصى”، هرع المسؤولون السياسيون الغربيون إلى اس*رائ*يل واحدا تلو الآخر خشية انهيارها، فمن الإعلان عن الدعم اللامشروط السياسي والعسكري الى تحريك الاساطيل في اتجاه المنطقة لتوجيه الرسائل الى داعمي المقاومة ا*لفلس*طينية، مبررين ذلك بحق إس*رائي*ل في الدفاع عن النفس متجاهلين انها دولة احتلال لا ينطبق عليها مبدأ الدفاع عن النفس، ومع نزع الشرعية عن المقاومة ووصف كفاحها بالار*ها*ب برهنت الدول الغربية على أنها محرضة بل مشاركة في الحرب على الشعب الفلسطيني.
الوجه الاخر لانهيار القيم الأخلاقية لدى المسؤولين الغربيين هو تزكيتهم لحرب الإبادة التي تشنها إس*رائي*ل، فالحجم غير المسبوق للدمار الناجم عن القصف الإ*سر*ائي*لي المنهجي لغ*ز*ة حيث قصف المدن والقرى والأماكن السكنية واستخدام أسلحة محرمة دوليا في مناطق مكتظة بالسكان وتسوية أحياء كاملة بالأرض الشيء الذي خلف عشرات الالاف من الضحايا ما بين قتيل وجريح اغلبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وإجبار أكثر من مليون شخص على مغادرة منازلهم ضمن استراتيجية التهجير القسري، إغلاق إس*رائي*ل لحدود غ*ز*ة وقطع الغذاء والوقود والكهرباء وحتى إمدادات المياه النظيفة، التدمير الممنهج للمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة، كل ذلك يوثق للخرق السافر لاتفاقية لاهاي الخاصة بقوانين واعراف الحرب، واتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الاضافي الأول، ولارتكاب ج#ريم*ة الإبادة؛ الجرائم ضد الإنسانية؛ جرائم الحرب ثم جرائم العدوان المنصوص عليها في المواد من 5 إلى 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 18 يوليوز1998 .
إن الهدف الاولي للمحكمة الجنائية الدولية هو العمل على إنهاء ا فلات مرتكبي أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره من العقاب، والاسهام بالتالي في منع ارتكاب تلك الجرائم، لكن الحرب على غ*ز*ة وضعت إس*رائي*ل والغرب مرة أخرى أمام احراج قانوي علما انهم يتباهون بأنفسهم كحماة للقانون الدولي عندما يتعلق بدول أخرى. فلا مجلس الامن الدولي تحمل مسؤولياته في وقف الإبادة بسبب الفيتو الغربي، ولا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مارس اختصاصاته في توجيه الاتهام للأشخاص المعنيين بارتكاب تلك الجرائم، كل ذلك فضح ازدواجية المعايير او الكيل بمكيالين في تعامل الغرب مع باقي العالم، فالمسؤولون الغربيون بما فيهم الإ*سر*ائي*ليون يتمتعون بحصانة ضد المتابعات القضائية الدولية ودليلنا في ذلك الجرائم الامريكية بكل من أفغانستان والعراق والفرنسية في افريقيا.
كما عرى الغرب عن وجهه الحقيقي، فتشدقه بالقيم الديمقراطية والحقوق السياسة لاسيما حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي لم يصمد امام الواقع الذي فرضه الانفلات الإعلامي من الهيمنة الغربية السائدة منذ عقود والتي ظلت توجه الراي العام الأوربي حسب أجندتها، فبفضل هدا التحرر النسبي تزايد الوعي لدى الاوربيين وحتى الأمريكيين بعدالة القضية ا*لفلس*طينية وتماهي المواقف الرسمية مع الاطروحة الصهيونية مما يفسر حجم المشاركة الجماهيرية في المظاهرات التي نظمت في العديد من الدول للتنديد بالعدوان والدعوة الى وقف المجازر بحق المدنيين العزل، لكن في مواجهة هذه الصحوة التي طالت في بعض الدول جهات رسمية، عمدت الحكومات الغربية الى وضع قيود وحظروتدخل من قبل قوى الأمن والسلطات لمنع التظاهرات والمسيرات، وصل إلى حد حصول اعتقالات وإيقافات. ففي بريطانيا أعلن أن التلويح بالعلم الفلسطيني قد لا يكون قانونيا في بعض الحالات في البلاد، وفي المانيا تم حظر العديد من المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين المعلنة ووقعت البقية في ظل ظروف من المضايقة، واعتبر أي شخص ينكر حق إس*رائي*ل في الوجود بانه سيرتكب ج#ريم*ة يعاقب عليها على الفور؛ اما في فرنسا فقد بلغ السيل الزبى مع استعداد مجلس الشيوخ الفرنسي لدراسة مشروع القانون رقم 21 من قبل مجموعة من أعضائه بهدف تجريم “معاداة الصهيونية”.وينطوي هذا المشروع على مخاطر جسيمة على الحريات الأساسية، ويسيء إلى العديد من مبادئ القانون الدولي العام، فالعقوبة الحبسية قد تصل الى 5 سنوات ضد الأشخاص الذين “يشككون” علنا في “وجود دولة إس*رائي*ل”، أو يرتكبون إهانة “ضد دولة إس*رائي*ل”، أو “يثيرون الكراهية أو العن*ف ضد دولة إس*رائي*ل”، ويتعلق الأمر لأول مرة بتجريم إهانة دولة أجنبية، هي إس*رائي*ل، مع تحديد أن ج#ريم*ة الإهانة ضد فرنسا غير موجودة. ان الهجوم الهائل على الحق في الاحتجاج وحرية التعبير لا يمكن تفسيره بالحرب في غ*ز*ة وحدها، بل هو رد فعل الطبقة الحاكمة التي تشعر بالعزلة والتهديد بشكل متزايد من قبل الجماهير.
إس*رائي*ل وليدة الامبريالية، وحرب الإبادة الجماعية هذه ضد المدنيين في غ*ز*ة هي تصعيد لسياسة استمرت عقودا من الزمن لتجريد الشعب الفلسطيني من أراضيه وممتلكاته. لقد وصف المدير المستقيل لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بنيويورك السيد فولكر تورك في 28 أكتوبر 2023 الأحداث الجارية في غ*ز*ة بأنها حالة إبادة جماعية، لقد دخل المشروع الاستعماري الأوربي القومي العرقي في فلسطين مرحلته النهائية نحو التدمير المتسارع لآخر بقايا السلالة الاصلية في فلسطين ، علاوة على ذلك، فان حكومات الولايات المتحدة والكثير من اوربا متواطئة تماما في الهجوم، لا ترفض هذه الحكومات الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقيات جنيف فحسب، بل انها تعمل بنشاط على تسليح الهجوم، وتوفير الدعم الاقتصادي والاستخباراتي والتغطية السياسية والدبلوماسية للفظائع الإ*سر*ائي*لية . إننا نشهد بالفعل نزع الطابع الغربي لحقوق الانسان عن الغرب، فبالموازاة مع فقدان هيمنته الاقتصادية على العالم، فانه سيعمد الى اشعال مزيدا من الحروب لتأبيد هيمنته واستغلاله لبقية العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!