البابا المطوَّب والمعسكر الرأسمالي

الكاتب: وردااسحاق
البابا المطّوَب والمعسكر الرأسمالي   كان عهد البابا بولس الثاني الأكثر سياسة في تاريخ الفاتيكان الحديث . بعد سقوط الشيوعية أصبح المعسكر الرأسمالي الهدف الثاني للفاتيكان . أذاً السلطة الزمنية في الكنيسة تجددت في القرن العشرين . المعروف أن النظام الرأسمالي لم يستقر الا بصعود البرجوازية التي حدَّت من سلطة الكنيسة ، حيث كانت سلطة الكنيسة قوية جداً حتى عشية الثورة الفرنسية ، بعدها بدأت بالأضعاف لصالح الكنائس المنشقة ، فيما ظلت سلطة الكنيسة الكاثوليكية على حالها في بلدان كثيرة فكانت تسعى الى ممارسة سلطتها ، وفي أسوأها الى حماية مصالحها الزمنية الخاصة . وفي ظل الصراع الكاثوليكي البروتستانتي ، بقيت الكاثوليكية هي الأقوى لأنها تقوم على أساس تنظيم هرمي قوي ، يتربع على قمته الحبر الأعظم ، وأن كانت عصمة البابا على خطأ لم تقر بعد كعقيدة ، حيث المكانة التي كان يتمتع بها البابا كانت تجعل منه مرجعاً للأساقفة في نزاعاتهم مع الحكومات في بلدانهم  وكانوا يعدون من الشخصيات المرموقة والمؤثرة .   بعد هبوب رياح عصر القوميات في أوربا في القرن التاسع عشر ، وما شهده من تحولات كبيرة في الخارطة الأوربية ، ونشوء دولها على أساس قومي ، وعلى فكرة أن ( كل أمة من الأمم ، تكوِن جماعة عضوية أجتماعية طبيعية ذات كيان معنوي خاص بها مستقلة ومنفصلة عن غيرها ) . تزامنت نشوء الدولة القومية مع هبوط جذري متواصل لسلطة الكنيسة ، قابله صعود البرجوازية الأوربية الى مواقع القيادة ، وهو صعود غالباً ما وصف بأنه نصر على الكنيسة والأقطاع ، أو النصر على السلطة الزمنية للكنيسة . كما تزامنت صعود البرجوازية مع حركات فكرية مناهضة للكنيسة . بل وحركات تهاجمها ، فتجاوزت العلمنة الى الألحاد . هنا نجد التنافر بين المدنية الأرضية والسماوية ، بين سياسة الكنيسة والعالم . فالمدنية الأرضية تسعى الى الهيمنة على الآخر على حساب العدالة ، ورغبة الكنيسة هو تطبيق العدالة . لهذا تحتاج الكنيسة الى أمكانيات بشرية مؤمنة من أجل فرض العدالة والمساوات بين المجتمع . في القرن العشرين مثلاً كان اللاهوتي الألماني ديتريش بونهوفر اللوثري النزعة والمتأثر بجذرية القديس أوغسطينوس ، واجه الحكم اله*ت*لري بشدة حتى الشهادة . أذاً يجب على كل مسيحي أن ينشر السلام والعدل حتى لو صار علامة مخالفة كما قال البابا يوحنا بولس الثاني .     التحرك نحو السياسة مشكلة ، لكن لم يفلح في لجم الحديث عن رجال الدين ، بل ينبغي لهم المشاركة في العمل السياسي بشرط عدم اللجوء الى العن*ف في مواجهة السلطات الحاكمة . الأكليروس الكاثوليكي في أميركا اللاتينية أخذوا يحرضون على أن يتحمل كل مسيحي مسؤوليته وخاصة أولئك الذين بحسب موقعهم وثقافتهم والذين يتمتعون بأمكانيات عمل واسعة ومؤثرة . بذل  البابوات الجهود في مناهضة لاهوت التحرير لأن المؤمنون في أميركا الجنوبية أستخدموا السلاح وهذا يناقض الأهداف الأساسية للكنيسة الهادفة الى السلام والمحبة . وهي الدعوة المسيحية الصادقة وأن لم تضىء كل الجانب السياسي .   قطعت الولايات المتحدة علاقاتها بالفاتيكان عام 1945 ولم تعد الا عام 1984 بعد لقاء البابا يوحنا بولس الثاني مع الرئيس ريغان وكان موضوع الصراع العربي الصهيوني على بساط البحث ، فالفترة الفاصلة بين أعادة العلاقات بين واشنطن وروما ، ووثيقة 1985 لا تتعدى الأشهر . أن الضغوط الأمريكية على الفاتيكان واقعة وقائمة ، وهي ليست شأن الأدارة فقط . فهناك الضغوطات التي تمارسها الكنائس الأمريكية ومعظمها قريبة من الصهيونية المسيحية أو البروتستانتية والتي تم أنشاؤها عام 1980. تضغط تلك الكنائس والمنظمات على الأدارة الأمريكية ، والأدارة تضغط على الفاتيكان الذي ربما أراد أن يكسب الطرفين بترضية كبيرة على غرار العلاقات مع أسرائيل متجاهلاً الخطورة التي تمثلها تلك المنظمات المسيحية على المسيحية بالذات . كانت الولايات المتحدة تدين بالبروتستانتية التي بدأت تنكمش أمام زحف الكاثوليك من دول أميركا اللاتينية بسبب الهجرة المستمرة ومن دول العالم ، فأصبحت فاتيكان دولة حية وقوية مادياً بسبب دعم كنائس أميركا لها والبالغ أكثر من 50 % من واردات دولة الفاتيكان . كذلك للكنيسة الكاثوليكية تأثير كبير في كل الأصعدة في أميركا فهي الأولى في قيادة المدارس الكاثوليكية الخاصة أضافة الى مشاريع كثيرة ، وتلك المدارس تحافظ على الأيمان الصادق وتدفع البلد الى التقدم والتحضر وكما قال المليونير الأمريكي الملحد روبرت ويلسون : ( لولا الكنيسة الكاثوليكية لما تحضر الغرب ) . أفترقت الفاتيكان عن الولايات المتحدة الأمريكية في مواضيع عديدة وبصدد سياسات الحصار ، فأن الفاتيكان أدان الغزو العراقي على الكويت ، وفي نفس الوقت أعتبر العقوبات التي فُرضت على العراق غير عادلة لأنها يجب أن تكون كوسيلة ضغط مؤقتة فقط ، ولا تكون عقاباً مفروضاً على الشعب العراقي . كما طالب بوضع آلية تسمح ببحث الوضع دورياً ومراقبة أنعكاسات هذه العقوبات على الصعيد الأنساني عبر أقتراح تعديلات محتملة اذا أعتبرت ضرورية . ورغم أعتراضات أمريكية أقام الفاتيكان علاقات دبلوماسية مع ليبيا في آذار 1997 وهو لم يقر الحصار الذي فرض على ليبيا .  سبق وأن التقى البابا مع الرئيس بوش الأول عام 1989 فقال البابا : ( أن المبادىء الأخلاقية والقيم الفكرية التي تتمتع بها أميركا ، قادرة على الرد على تحديات العصر والعمل على ضمان احترام الأنسان خصوصاً اذا كان ضعيفاً ) . وفي نيومكسيكو وقَّع البابا مطلع عام 1999 أعلاناً حدد فيه اهداف الكنيسة في الأمريكتين خلال الألفية المقبلة بمواجهة شرور الأستغلال الرأسمالي والفساد وتجارة المخ*د*رات والموت ، وكما تحدث عن الحقوق المشروعة لهنود المكسيك الأصليين . نعم كان هناك أعتماد متبادل بين واشنطن والفاتيكان في السياسة الشرقية ، لكن بعدما أنتهت هذه السياسة بأنهيار الكتلة الشرقية ، عاد البابا ليركز على أنتقاد التوحش الرأسمالي ، وفساد النظام القائم على الأستغلال . ولعل ما يحدث في زيارته للمكسيك كان تتويجاً لهذه العودة ، فبدأ يركز فعلاً على مثالب النظام الرأسمالي الغربي . فأصبح الهدف السياسي للفاتيكان راسخاً وواضحاً نحو الغرب . بل قطع وبأستمرار خطوات ثابتة نحو الأمام رغم مخالفتها جوانب عقيدية في كثير من الأحيان ومخالفاتها لمصالح كنائس أخرى      اللاهوت السياسي للفاتيكان ، هو لاهوت التحرير أو لاهوت الأزمات ، ومصطلح لاهوت التحرير جاء الى الوجود في أميركا اللاتينية سنة 1968 في بيرو وشيلي والمكسيك ، كتأكيد لللاهوت معاصر في المجتمع الأمريكي الجنوبي ضد الرأسمالية ، حيث يدافع عن الفقراء الذين سيرثون الأرض كما قال الرب يسوع . أذاً سيصبح الفقر حجر الزاوية للبناء الجديد في مجتمع جديد . كان أحد أسباب هذا التطور هو الأصغاء لدعوة البابا يوحنا 23 والى المؤتمر الفاتيكاني الثاني لقراءة الأزمة من خلال التأمل النقدي في كلمة الله لكي يشارك الجميع في الألم والفرح وهكذا يكتشف العلاقات بين اللاهوت المسيحي والنشاط السياسي لأجل العدالة وحقوق الأنسان ، أضافة الى التبشير بيسوع كمحرر للفقراء لأن الله هو أب الفقراء ، هذا الذي رأى صراع شعبه في مصر ” خر 3 : 7 – 9  ” وهكذا بشر يسوع بأخبار سارة للفقراء وبشر بتحرير المأسورين ” لو 4 : 18 – 19 ” .   لاهوت التحرير اذاً يعتمد على الكتاب المقدس لكي ينير ، وينقد ، ويحول الواقع الفاسد في الغرب والعالم الى الأفضل ، والى مجتمع وأنسان جديد .    لعب لاهوت التحرير دوراً بارزاً في تحرير الأنسان الفقير الأسود في الولايات المتحدة لكي يتساوى مع الأبيض الى أن وصل الأسود الى كرسي الرئاسة الأمريكية . أما دور لاهوت العدالة في العالم الأول ( أوربا وأميركا ) والذي يستمر في تأثيره بين أبناء الطبقات الفقيرة من أجل أزالة الفجوة التي تكبر بين الأغنياء والفقراء ، خصوصاً في البلدان الرأسمالية التي تسيطر على العالم . هكذا تدخل الكنيسة في الصراع مع الغرب والعمل ضد ظلم النظام الرأسمالي المستبد والذي تحول مجتمعه الى مجتمع ملحد ، يجب مقاومته ونشر العدل وتنمية الأيمان فيه وزرع المحبة مع الجميع . هذا العمل يحتاج الى تنشيط الحركات المسيحية الشعبية لكي تصبح مؤثرة سياسياً وعلى المستوى العالمي فتلفت الأنتباه الى الفقراء الذين يمكن أن يكونوا أكثر تأثيراً في ثورة معاصرة ضد النظام الرأسمالي .بقلموردا أسحاق عيسىونزرد –  كندا..