مقالات دينية

الاضطهادات الفارسية على كنيسة المشرق

سامي خنجرو

الاضطهادات الفارسية على كنيسة المشرق
لم يتعرض المسيحيون القاطنون في الامبراطورية الفارسية للاضطهاد العنيف طالما كانت الامبراطورية الرومانية تدين بالوثنية، ولكن ما ان صدر مرسوم ميلانو سنة 313م، الذي فيه اعلن الملك قسطنطين الكبير شرعية الديانة المسيحية في امبراطوريته وانتمى بنفسه اليها، حتى تغير موقف الفرس من رعاياهم المسيحيين، فاخذوا يضمرون لهم الشر والعداء. ولان ملك الفرس انذاك كان صغير السن وهو شابور الثاني، لم يستطع مجابهة خصومه الرومان، فقد ظلت العلاقات طيبة واحيانا فاترة بين الامبراطوريتين واستمر المسيحيون ينعمون براحة نسبية. الا ان الحالة تغيرت حينما كبر شابور الثاني، فاخذ يطالب الرومان باعادة المقاطعات الخمس في الحدود الشمالية الغربية ـ منطقة نصيبين وحولها ـ التي اقتطعت من المملكة الفارسية وضمها الملك الروماني غاليريوس ) 305ـ311 م (الى مملكته. وسرعان مااتخذت هذه الخصومات طابعا دينيا بين الامبراطورية الفارسية الوثنية والامبراطورية الرومانية المسيحية بعد صدور مرسوم ميلانو المذكور. فجهز شابور حملة عسكرية وزحف على مدينة نصيبين وحاصرها مدة 63 يوما وذلك سنة 337م، ولكنه لم يستطع فتحها والسيطرة عليها، وترك المدينة وعاد الى بلاده خائبا فاشلا، وثار غضبه امام هذه النكسة واستنفر القوات برمتها وفرض ضرائب باهظةعلى الاهلين،وخاصة على المقاطعة البابلية الغنية.
وكتب شابور رسالة الى حكام بيث اراماي جاء فيها: حالما تطلعون على امرنا هذا نحن الالهة، عليكم ان توقفوا زعيم النصارى شمعون والا تخلوا سبيله الى ان يوقع سندا فيه يتعهد بجباية ودفع ضريبة الراس مضاعفة وضرائب اخرى من شعب النصارى الذين يسكنون في ارضنا، لاننا نحن الالهة نتعرض للضيقات والحروب وهم ينعمون بالراحة والهناء، وهم موالون لقيصر عدونا. وكان جواب مار شمعون برصباعي الجاثاليق، انه لايستطيع تلبية رغبة الملك، لكنه يعرب عن ولائه للملك واحترامه للقوانين العادلة، اما الجائرة منها، فلا طاقة له على تنفيذها، خاصة انه اقيم رئيسا روحيا على النصارى وليس جابيا للاموال والضرائب. وتردد الملك في القضاء على مار شمعون، الا ان المجوس انتهزوا غضب الملك ولم يكفوا عن تحريض الملك على المسيحين. وحينما رفض مار شمعون السجود للنار بعد ان طلب منه الملك شابور، امر الملك بضرب عنقه واعناق الموقوفين بحد السيف، وكان ذالك يوم الجمعة العظيمة في الرابع عشر من نيسان سنة 341 م.
وتقول المصادر التاريخية عن خبر استشهاد مار شمعون ورفاقه: انهم سيقوا من المدائن الى كرخ ليدان في مقاطعة الاهواز حيث كان الملك يقيم انذاك وهناك وفي بلاط الملك كان الامير كوشتازاديدين هو ايضا بالمسيحية، ولما احس الملك بذلك، افرغ كل جهده في اقناعه بالعدول عن هذا المعتقد، لكن جهوده ذهبت ادراج الرياح. بيد ان كوشتازاد تظاهر اخيرا بالسجود للشمس تحت ضغط عظماء الدولة. لكنه ما ان سمع بقدوم قافلة  الاسرى المؤمنين وعلى راسهم مار شمعون برصباعي جاثاليق المشرق، حتى خضته نعمة قوية اثارت فيه عواطف الندامة الشديدة على كفره وجحوده. ولما طلب ان يواجه مار شمعون، ابى هذا ان يلتقي به لكونه جاحدا جبانا. فانزوى كوشتازاد في بيته وعكف على الصلاة ولبس المسوح وافترش الرماد، واستمر في البكاء على جحوده طيلة يومين، الى ان دعي مار شمعون للمثول امام الملك للاستجواب. وهناك جرت مناظرة بديعة بين الملك وشمعون حول معتقد النصارى والتهمة الباطلة التي الصقت بشمعون زورا وبهتانا. ولم يفلح الملك في اقناع الجاثاليق  للعدول عن رايه، فامر باعادته الى السجن. واذا بشمعون يلتقي بكوشتازاد  اثناء خروجه من عند الملك، فاراد التبرك من الحبر الاسير، . لكنه لم يتلق منه الا زجرا دفع به الى المجاهرة بايمانه المسيحي ثم الى الاستشهاد. اما مار شمعون ورفاقه فقد امضوا تلك الليلة في السجن وهم يستعدون للاستشهاد بصلوات متواصلة، ثم اقاموا القداس على ايديهم، وفي بعض المصادر ، على ظهر احد الكهنة، اذ لم يستطع احد ان ياتيهم بالاواني المقدسة خوفا من المضطهدين. واخذ شمعون يحرضهم ويشجعهم على الاقدام على الاستشهاد. وهناك قال انشودته البديعة التي مطلعها بعين الفكر والمحبة…وتقال في طقس كنيستنا المشرقية في تذكاره .وطلب الى الرب قائلا :اعطنا يا رب ان نتالم نحن ايضا في هذا اليوم ونشرب فيه نظيرك كاس الموت من اجل اسمك القدوس حتى لا يبقى على الارض الا من يقول: ان شمعون واخوته انقادوا  ليسوع ونظير يسوع ق*ت*لوا يوم الجمعة في الرابع عشر من نيسان سنة 314م. ففي صباح الجمعة العظيمة امر الملك باخراج المعترفين من سجنهم، ثم دعاهم الى السجود للنار. ولما رفضوا ،امر بضرب اعناقهم بالسيف. فشرع السيافون يقودون عشرة عشرة منهم الى الموت، والجاثاليق واقف كالبطل الصنديد يشجعهم على بذل دمائهم في سبيل المسيح وهو يقول هذه الانشودة البديعة الاخرى: وان تنزعون عنكم الان ثيابكم الخارجية…وفي الاخير تقدم هو ايضا برباطة جاش ومد عنقه للسيف ونال اكليل الشهادة. وتقال هاتان الانشودتان في تذكار القديس الشهيد الواقع في  الجمعة السادسة من سابوع القيظ  (حيث كرس فيها المذبح الذي بني على اسمه في كرخ ليدان) حسب طقس كنيستنا المشرقية.
وكان بين قافلة الشهداء كاهنان هما حننيا وعبد هيكلا، فلما بلغ دور حننيا ليمد عنقه للسيف، اعترته رجفة شديدة  لشيخوخته وللهلع الذي استحوذ عليه امام هذه المجزرة الرهيبة، واذا بصوت يناديه مشجعا: لاتخف يا حننيا، لاتخف، اغمض عينيك قليلا فترى نور المسيح.  وكان هذا صوت فوسي رئيس صناع الملك الذي استشهد هو ايضا في اليوم التالي )سبت النور)  بعد عذاب اليم. ولحقت به ابنته الراهبة مـرتا في احد القيامة في المكان نفسه بعد مناظرة افحمت فيها الملك وطغمته.
بعد ان نال مار شمعون اكليل الشهادة  يوم الجمعة العظيمة سنة 341 م، استمرت كنيسة المشرق ترزخ تحت وطاة الاضطهاد خلال السنين الاحقة. ففي  خريف سنة 341م القي القبض على مار شاهدوست الذي خلف مار شمعون على كرسي المدائن مع مجموعة من الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات ، وتكللوا في 20 شباط سنة 342م، اما مار شاهدوست فقد سيق الى بيث لافاط حيث قطع راسه في صيف تلك السنة. وفي نهاية سنة 344م وخلال اقامة الملك في ساليق، القي القبض على مجموعة من الاكليروس وق*ت*لوا في  6 نيسان سنة 345م بعد ان امضوا قرابة 6 اشهر في السجن. ولقد بذلت يزداندوخت الشريفة الاربيلية قصارى جهدها للاعتناء بهم ثم في دفن اجسادهم. وفي شباط القي القبض على مار بربعشمين ، وهو ابن اخت مار شمعون، وخلف شاهدوست على كرسي المدائن، وعلى مجموعة من اكليروسه، ثم اقتيدوا الى كرخ ليدان واستشهدوا في 9 كانون الثاني سنة 346م . وبعد استشهاد بربعشمين الجاثاليق، ظلت الكنيسة الشرقية بدون راعي مدة 40 سنة تقريبا، الى ما بعد وفاة شابور الثاني سنة 379م.
ومنذ سنة 343م، كان الاضطهاد مستمرا في المناطق الشمالية والشمالية الغربية من المملكة الفارسية، لاسيما في مقاطعة بيث كرماي كركوك، ومقاطعة حدياب اربيل، وذلك لوجود القوات الفارسية هناك على خطوط المجابهة مع القوات الرومانية. ويطول البحث عن جماهير الشهداء الذين قضوا ضحية هذا الاضطهاد الهائل في مختلف المقاطعات الفارسية. ونرشد القارئ الى الكتب التي تتحدث عن بطولات هولاء الشهداء الرائعة ومنها: سلسلة سير الشهداء والقديسين التي نشرها الاب بولس بيجان، وكذلك كتاب سير اشهر شهداء المشرق للمطران ادي شير مقتبسا حوادثه من الكتاب الاول، او في الجزء الاول من شهداء المشرق للاب البير ابونا. وكان استشهاد عقبشـما اسقف حانيثا (بين العمادية وراوندوز) الشيخ مع رفاقه الشهداء ومنهم ايثالاها شماس بيث نوهذرا سنة 379 خاتمة المطاف لهذه الحقبة الرهيبة والرائعة معا لكنيسة المشرق. ودامت قرابة اربعين سنة لذلك سمي بالاضطهاد الاربعيني. ويقول المؤرخ سوزمين ان عدد الشهداء الذين عرفت اسماؤهم وحدهم يربو على 16,000 شهيد، اما المسعودي )+956 ( في كتاب التنبيه والاشراف يقول: ان عددهم بلغ 200,000 شهيد. ونظرا لهذا العدد الهائل من الشهداء لذا سميت كنيسة المشرق بكنيسة الشهداء، وللمقارنة فان عدد شهدائها فاق عدد شهداء جميع الكنائس الاخرى مجتمعة.
ان كنيسة المشرق فقدت العديد من رؤسائها وابنائها في الاضطهاد الاربعيني، لكن هذا الاضطهاد عجز عن اخماد انفاسها والقضاء عليها. فانها خرجت من هذه المحنة الدامية ناصعة جميلة، راسخة في ايمانها، ثابتة في مبادئها وشجاعة في المجاهرة بالقيم السامية والاخلاق العالية. وحقا لقد اصبح الدم الغزير الذي ارتوت منه ارض فارس، بذرا خصبا للمسيحيين الذين ما ان خمد نار الاضطهاد، حتى راحوا يستعيدون كيانهم وينظمون شؤونهم وينشرون هذه الديانة التي تعذر على السيوف والحراب القضاء عليها.                                                                                                                                                                                                                                                                                                   سامي  خنجرو
سدني- استراليا

..

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!