مقالات عامة

هل كان الزعيم عبدالكريم قاسم دكتاتورياً مع الفن ؟

الكاتب: وردااسحاق
 
 
 
هل كان الزعيم عبدالكريم قاسم دكتاتورياً مع الفن ؟
 

 
 
نبدأ بالمقدمة لكي ننظر قليلاً الى صورة الحكم المَلكي الذي أعتبر حكماً ظالماً مستبداً وأزالته أصبح واجباً مقدساً . فهل كان ظالماً ؟ أم هو الذي أسس العراق المستقل وأسس له نظاماَ سياسياً ورسم له الحدود الرسمية مع دول الجوار وشكل وزارت ودوائر وبنى المستشفيات والمدارس وكل دوائر الدولة الخدمية والمهمة لخدمة المواطن، كما شق الطرق في الصحاري والجبال وبرزت الثقافة والفنون، وأستخرج النفط لكي يكون ثروة وطنية. كما كان السلام يعم طول فترة وجود المَلكية. لم يسجل التاريخ لنا أسم شخصية واحدة قامت بسرقة خيرات الشعب و …الخ . أقول أنا لست رجل سياسة لكن الحق يجب أن يقال . فلو قسنا تلك الفترة بالفترات التي حكمت العراق قبل المَلكية أي فترة مئات السنين من حكم العثمانيين ، فلم نقرأ في تاريخهم الأسود بناء مدرسة واحدة أو مستوصف أو أي مشروع خدمي يذكر. أما ما بعد ثورة 14 تموز ، فنلاحظ بأن الأحزاب برزت وتكاثرت وتصارعت فيما بينها فخلقت الحروب والنزاعات دفع الشعب ثمنها فسالت الدماء في الشوارع ولم يقف النزيف لحد هذه الفترة التي نسميها بالحكم الديمقراطي الحر الناتج من الأنتخابات النزيهة .
نعم كان الزعيم عبدالكريم وطنياً ونزيهاً وعسكرياً ناجحاً بأمتياز ، لكنه فشل في قراءة السياسة وفهمها فأعطى الثقة والحرية للجميع الى أن صار هدفاً للكثيرين

 
أما عن متن موضوعنا الفني فنختصره بالآتي : أول عمل فني بعد الثورة كان شعار الجمهورية الذي صممه الفنان الكبير جواد سليم .  قلب الشعاركان مستلاً من تكوين في مسلة ( نرام سين ) يحتوي على شمس صفراء في المركز تحيط بها السيوف ، وداخلها نجمة مثمنة . قال الزعيم عبدالكريم قاسم شارحاً الشعار ولافتاً أنظار الحضور الى لون النجمة المثمنة : ( هذا اللون ليس أحمر ، بل هو بني محروق ، وهذا يعني أن لنا لوننا الخاص من الأشتراكية ، يختلف تماماً عن اِشتراكية الأتحاد السوفيتي ) . من مآسي الفكر العسكري هنا والمتمثل بضابط كبير وهو الزعيم عبدالكريم تدفعه مغامراته ومنصبه العالي الى الأعتقاد بقدرته على أيجاد فلسفة أشتراكية جديدة أولاً . وثانياً فرض أفكاره على أفكار الفنان العراقي الكبير مثل جواد سليم الذي كان يمتلك حساً فنياً وقدرات فنية كبيرة وثقافة تاريخية ترتبط بجذورحضاراتنا القديمة أضافة الى ثقافته الفنية المعاصرة
كلف الزعيم عبدالكريم المهندس المعماري والفنان التشكيلي رفعت الجادرجي بتنفيذ ثلاث نصب فنية تقام في ساحات بغداد تخليداً لثورة 14 تموز. بادر الجادرجي بتخطيط النصب الأول وهو نصب الجندي المجهول نفذه على شكل طوق عالي تم تنفيذه في ساحة الفردوس بناء على رأي الزعيم لأن المكان كان يعتبره البوابة التي مر بها جيشه للسيطرة على بغداد. تم تنفيذ المشروع بعد سنة من الثورة

أما النصب الثاني فنفذه الفنان الكبير فائق حسن على جدار عالي في ساحة الطيران، شرق حديقة الأمة . نٌفِذ َبعد مرور عامين من الثورة.
الفنان التشكيلي فائق حسن

أما الثالث فهو عبارة عن لافتة كبيرة نفذها رفعت الجادرجي معمارياً بطول خمسون متراً، أي بعرض حديقة الأمة ، وبأرتفاع عشرة أمتار، وعلو اللافتة من الأرض ستة أمتار. وطلب من الفنان الكبير جواد سليم ملىء تلك المساحة بعمل فني يجسد ثورة 14تموز ، فقال له ، أن هذا العمل لم يكرر منذ عهد الآشوريين. تم تنفيذه عام 1962م.

 
السؤال ، هل طلب الزعيم وضع صورته على الجدارية لكي يصبح من ضمن موضوع الجدارية ؟ قال الجادرجي أنه لم يطلب مباشرة غير أنني فهمت ذلك من حديثه معي عندما رأى التخطيط الأول فقال : ( الجدارية لا توضح الثورة بشكل حقيقي ) . فهل حقيقة الثورة في العمل تكمن في صورة القائد ؟ وهكذا أستمر الزعيم بالحديث مع الجادرجي فشرح له كثيراُ منذ أن قام بالسيطرة على بغداد ، وفي نهاية كلامه قال له . هل فهمت ؟ فقال الجادرجي ، لا . لكن محاولات الآخرين كانت تنطق بوضوح لوضع صورة القائد على الجدارية .
 
أرسَلَ الفنان جواد سليم من مدينة فلورنسا ( أيطاليا ) الى رفعت الجادرجي آخر لمساته على رسم الجدارية على صورة فوتوغرافية بطول مترين وأرتفاع 70 سم بيَّنَ فيها العمل النهائي للجدارية ، فشرح رفعت لعبد الكريم ما يرمز له كل قسم . بعد أن تأمل الزعيم ملياً بها قال : (هذا النصب جيد ولكنه لا يمثل ثورة 14 تموز بالذات ،قد يكون نصباً رومانياً أو نصباً في أي مكان آخر) . وهذا ما كان رفعت يتجنبه خاصة بعد أن أصبح الزعيم يشار اليه بـ (الأوحد) والجماهير تهتف باسمه ليل نهار ، فكيف بنصب بهذا الحجم يخلو من تمثال الزعيم الأوحد ؟ لذا أراد أن يكون تمثاله في منتصف النصب! وفي هذه المحنة برز النحات خالد الرحال بفكرةٍ خبيثة فأبدى أستعداده لنحت صورة لعبدالكريم في النصب . أصبحت الفكرة واضحة جداً وعلى أثرها سافر رفعت الى فلورنسا ليضع حداً للنغمة الجديدة الخاصة بأضافة صورة شخصية الى نصب الحرية لكنه لن يتفوه لجواد عن الموضوع لكي يسير العمل حسب المخطط . عادت الشائعات بسرعة وخاصة عندما علم جواد من خالد الرحال أن النصب سيرفض من قبل الزعيم بسبب الصورة ، وأنه سيكلف بهذه المهمة بدله ، فجن جنون جواد وارتبك خاصة وأن السفارة العراقية في روما لم تتعاون معه آنذاك لنفس السبب ، فعلى أثر ذلك أصيب بأنهيار عصبي أدى الى دخوله مستشفى الأمراض العقلية. الأمر الذي دفع رفعت الى السفر حالاً الى روما مرة أخرى لأحتواء المشكلة فأخرجه من المستشفى لكي يكمل صب التماثيل الباقية مع الفنان محمد غني حكمت .
 
من الشهود الذين قرأو الفكرة الطبيب والفنان التشكيلي خالد القصاب ، وهو من جماعة الفنانين التشكيلين الرواد . أنه أول طبيب وصل الى المستشفى الذي نقل اليه الزعيم بعد أصابته بأربع أطلاقات نارية في شارع الرشيد ، أعتقد مهاجموه أنه مات . وكان سائقه قد ق*ت*ل . فتطوع سائق سيارة أجرة لأخذه الى المستشفى ، فأمره الزعيم بالذهاب الى مستشفى الرشيد العسكري ، ثم أمره في الطريق أن يعرج على مستشفى السلام الأهلي التابع لجماعة السبتيين الأدفنديست ، تخوفاً من ملاحقة المهاجمين له لربما سمعوه يطلب من السائق التوجه الى مستشفى الرشيد . يقول الدكتور القصاب أمضيت معه شهراً في المستشفى أزوره كل يوم مرتين أتاحت لي الفرصة للتعرف الى شخصية الزعيم عن قرب . بعد خروجه من المستشفى ، كنت جالساً بجانبه في السيارة في أحد الأيام ورأيت أن الوقت مناسب لكسر هذا الصمت والتوتر. ففتحت موضوعاً جديداً، بدأت أتكلم عن جواد سليم وما نكن له من أحترام كبير. سمعني الزعيم ولكنه لم يعلق بأي شىْ، وبقي صامتاً ، شعرت عندئذ أنه كان منزعجاً منه ، ربما بسبب ما شاع آنذاك من أنه طلب من جواد أن ينحت وجهه ويضعه في نصب الحرية، لكن جواد رفض ذلك .
 الطبيب / الفنان التشكيلي خالد القصاب

 
بقي الجادرجي يبحث عن الحقيقة التي يؤمن بها والخاصة بعدم وضع صورة الزعيم في الجدارية، فسأل والده كامل الجادرجي فيما لو وضعت صورة عبدالكريم على الجدارية ماذا سيحصل ؟ فأجاب الوالد: مع اول أنقلاب سوف يتم تفجير الجدارية أنتقاماً من عبدالكريم. وفعلاً أثبتت الحقائق التاريخية تلك الحقيقة. فبعد أنقلاب شباط 1963 قاموا بتدقيق حسابات الصرف على تنفيذ نصب الحرية، فلم يجدوا ما يدين الفنان رفعت الجادرجي أو عبدالكريم قاسم لكي ينتقموا .
 
في المقال التالي سنتناول خطوات العمل في فلورنسا بأشتراك الفنان محمد غني حكمت .
 
 
 
ليبقى نصب الحرية عالياً وخالداً مع أسم الفنان المبدع جواد سليم
 
 
 
المقال منشور في جريدة أكد الكندية العدد (282) في 23 شباط 2013
 
 
 
بقلم الفنان التشكيلي
 
وردا أسحاق عيسى
 
ونزرد – كندا
 
المصادر
 1- كتاب الدكتور خالد القصاب ( ذكريات فنية )
 
2- مذكرات المهندس رفعت الجادرجي
 
 
..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!