مقالات دينية

إنتخاب القديس مار إيليا لأسقفية موقان ووفاته

إنتخاب القديس مار إيليا لأسقفية موقان ووفاته

إعداد / وردا إسحاق قلّو

بعد تناولنا  ( حياة التجرد والنسك للقديس مار إيليا ) في موضوع سابق ، سنعرض في هذا المقال حياة هذا القديس الأسقفية في مدينة موقان . 

   موقان مدينة فارسية تقع في البلاد الشمالية الشرقية بالقرب من حدود الأقوام الدليمية ،  وسكانها برابرة يسجدون للخلائق الصماء . رسم البار الجاثليق مار طيمثاوس الطوباوي إيليا أسقفاً لعلمه بسيرته الفائقة الوصف ، فكتب إليه رسالة محبة وتحريض ، رسالة أب حكيم إلى أبن مطيع لكي يأتي إليه ليرسمه أسقفاً لمدينة موقان . فقبل الطلب بشرط واحد وهو : ( إني لا أقبل الرسامة إلا في الهيكل المقدس حيث أنا موجود . وأرغب أن يكون ذلك في أحد العنصرة المقدس ) وكان الزمان الذي حدده مار إيليا بعيداً عن تدبير الجاثليق العاجل ، فأضطرإلى تأجيل الموعد إلى يوم العنصرة . تم رسامته وإرساله مع تجار يمرون بالمناطق التي فيها تقع موقان . وكان مار إيليا يعلق الأنجيل الكامل على صدره ، كما كان معه صليباً من النحاس . أثناء ذهابه كان يسير في طريق القوافل مع التجار ويتخلف عنهم قليلاً ليتسنى له تلاوة المزامير . وكان ثمة رجل يسوق بغله مع بغال رفاقه وعلى البغل حمل ثقيل وهو يصعد مدارج سلسلة عالية ووعرة ، وإذا برِجل البغل تنزلق من مدرج عال ، فانقلع قدمه من موضعه ، ولما وصل القديس إليه سأل صاحب البغل عن سبب تأخره ، فأخذ يبكي ويمزق ثيابه ويريه حافر دابته المخلوع ، وكان القديس في شيخوخته يستعمل دهن الزيت في خبزه لمقاومة البرد والضعف الذي ألم بمعدته من جراء الخبز اليابس والملح ، وكان معه في مزودته قارورة زيت ، وقال لصاحب البغل : ( لا تبكِ يا ابني ولا تضطرب فأن الله سيشفي بغلك بسهولة ، ثم قال له ” إثني بالحافر “ فأخذه ووضع فيه الزيت والملح الممزوج بالصعتر اللذين كان يستعملها لطعامه ، ووضعه في قدم البغل ورسم عليها إشارة الصليب وقال للرجل : ” سر عاجلاً باسم الرب لئلا نتأخر عن رفاقنا “ ) وهكذا منح العافية للدابة والفرح لصاحبها وعرف بذلك كل الناس الذين كانوا يسيرون معه إلى هناك ، ومجدوا الله وأقروا بقوة المسيح العظيمة . إذ بدون أدوية تشفي الأمراض بواسطة تلاميذه .

    ولما بلغ القديس بعون الله إلى تلك المدينة الوثنية ودخلها رأى أن أسم الله لا ذكر له فيها ولا يعترف به ، بل كل الناس يسجدون للأشجار الخرساء والأحجار الصماء ، والمدينة خالية حتى من اليهود والمسلمين الذين يقرون بإله الخالق ، فشرع يقرِب الصلاة بدون انقطاع إلى المسيح ربنا لأجلهم ، لكي يعاملهم بحسب لطفه المعتاد وطول أناته ، ومثلما قرب كل الشعوب إلى السجود للآلوهيته بواسطة الرسل ، يعطي أولئك الناس أيضاً بواسطته قلباً وروحاً جديدين ، فيينبذوا الأصنام والأشباه عديمة النفس التي يسجدون لها ويرجعوا إلى معرفة الآب والأبن والروح القدس . وغمر الأسى قلب الطوباوي عليهم وشرع يضع نهاراً الصليب الذي معه على رأس عصاه ويطوف في أسواق المدينة وطرقاتها كلها منادياً بصوت عال على مسامع السكان قائلاً : ( ايها الناس الضالون عن معرفة الله الحقيقية ، أعلموا أن الله رب الكل أرسلني إليكم ليعيدكم عن الضلال الذي أنتم فيه . فكفاكم أنكم عبدتم من ليسوا بطبيعتهم آلهة ، بل أشجاراً تنبتها الأرض إكراماً لكم ، وانتم بجهلكم وبتأثير الشياطين الماردين تقدمون لها السجود الواجب لله ربكم ) . وبعد أن يقضي النهار كله يطوف وينادي بكرازة الحياة هذه . كان يمضي الليل خارج المدينة ، فيضع الصليب نصب عينيه ويرتل ويصلي حتى إنبلاج الفجر . وفي الصباح ، عندما تفتح الأبواب ويخرج الناس ، كانوا يرونه جالساً أمام الصليب فتأخذهم منه الدهشة والعجب وذلك لأن ذئاب الليل كانت مسلطة عليهم بأمر الله حسبما جاء في لعنة إرميا ( أر 6:5 ) وكانت تفترس بضراوة كل من يتأخر خارج السور . فأخذ الناس يشفقون عليه قائلين ( بت عندنا داخل السور لئلا تفترسك الذئاب ) بيد أنه كان يجيبهم قائلاً ( أن الله الذي أعبده سيحفظني من الذئاب ) وكان ذلك مثال دهشة عظيمة لهم ، وهكذا كان في النهار يغرس تعليم الرب في مسامعهم ، فكانوا تارة يسخرون منه وطوراً يزدرونه إلا أن الله ابتلاهم بمرض الطاعون المسمى ” شرعوط “ ( وهو طاعون علامته ثلاث نقاط سوداء تظهر في الكف ، ينتفخ الفم على أثرها ، ثم يسقط الإنسان جثة هامدة )  فضربت أجسادهم بالقروح والورم . ولما رأى القديس أن الضعف أدى بهم إلى شفا القبر، طلب منهم أن يسجدوا لإلهه لأجل عافية أجسادهم . وإذ ثقلت وطأة الوباء عليهم ، وعدوه قائلين : ( إننا سنفعل ذلك بدون عائق ونكون عبيداً للإله الذي يقدر أن يمنحنا الشفاء ، وننبذ كل العبادات ونختار عبادته ) فبارك زيتاً من قارورته وأخذ يرافقهم بصلاة وإشارة الصليب باسم الأب والأبن والروح القدس ويشفي به الجميع ، فلما شفوا بنعمة الله وعاينوا الآيات التي يجريها في المرضى والشياطين التي يخرجها من كثيرين ، لانت قلوبهم لسماع تعليمه ، فطفق يحدثهم عن الله رب الكل وعن مجىء المسيح إلى العالم ، فأخذوا يصغون إلى كلماته وينجذبون بمحبة إلهه . 

   صارحوه عن الإله الذي يعبدوه واسمه ( يزد ) الذي كانوا يسجدون له آبائهم وقالوا له إننا لنخاف من أن يلحق بنا الأذى ، ولعله يقضي علينا إذا كفرنا به ، فإذا كان هذا الإله الذي بشرتنا به أنه الحقيقي فنحن نكون له عبيداً وساجدين إذا كان يبيده ويق*ت*له ، واصبحنا أمامك كالمادة بين يدي الصانع وأعمل بنا ما تشاء . فما إن قال أولئك الناس لذلك الطوباوي حتى أجابهم  أين هو هذا ( يزد ) إبن الزانية الذي عبدتموه انتم وآبائكم ؟ فذهبوا معه ووقفوا على قمة أكمة وأروه من هناك سنديانة كبيرة في الوادي ، وكانت لكبرها ولأهتمامهم بها قد ارتفعت إلى علو شاهق واشغلت أغصانها الباسقة الملتفة مساحة واسعة ، فطلب فأساً فأتوه بها . وشدَ ظهره ولف أكمام قميصه وأخذ الفأس ببسالة ونزل إلى الشجرة . وهو يستهدف بالأخص الشيطان الساكن فيها ، ورفع صوته بشجاعة وثقة وقال : ( صوت الرب الذي يزعزع الأشجار ويستأصل الغابات ) ” طالع مز 9:29 “، ورفع الفأس وهوى بها على الشجرة وأعاد الكرة ثانية وثالثة فأنهارت الشجرة ، وجندلها بضرباته الثلاث رغم صلابتها وقدمها ، وهوى بفأسه كذلك على كل النباتات التي حول الشجرة وقطعها ، إذ كان الضالون يدعونها أبناء يزد . ، وأومأ إلى أولئك القوم ودعاهم بأعلى صوته أن ينحدروا ويقبلوا إليه ، فنزلوا وجمعوا قصباً وهشيماً وأخشاباً يابسة ووضعوها فوق تلك الشجرة وفروعها وأضرموا النارفيها فأضمحل ضلال ذلك الشيطان . ورفع الجميع صوتهم ومجدوا الإله الذي كان أيليا يبشر به ، مثل معاصري أيليا النبي ( 1 مل 1:18 ) الذي استهزأ بالبعل وق*ت*ل أحباره عن بكرة أبيهم وهوت الآلهة الكاذبة . بعد ذلك صعد الجميع إلى تلك المدينة مع الطوباوي إيليا فرحين مبتهجين بالنصر الذي أحرزه فاعل المسيح الذي ارجع نفوسهم وأحيائها وشرعوا كلهم يشيدون كنيسة فخمة وزينها القديس بكل النظم ، فأقام منهم كهنة وشمامسة ، وكتب لهم المزامير، وعلمهم التراتيل ، فصاروا ينمون بالفضيلة ويكثرون رويداً رويداً ، واستقرت ونمت فيهم نعمة المسيح ، وشعروا في قلوبهم أنهم حقاً عادوا من الضلال إلى نور الحياة . وتبعوا ترتيب أوقات الصلاة وواظبوا على تناول الأسرار المقدسة ، فتقدسوا في أعمالهم وأشرقت عليهم شمس الله الذي دعاهم وقربهم إليه وجعلهم خاصته . فلما ثبتوا في رجائهم وشرعوا يسيرون حسب نظام المسيحيين ، شكر الطوباوي الرب لنعمته ومجده واعترف بجميله لأن زرع عمله الحديث أرتفع إلى العقد ثم أنتح سنبلاً وأغل حنطة وأولى غبطة .

   وبعد سنين عديدة أمضاها عندهم ، فكر القديس في العودة إلى بلاده ليسجد في ديرآبائه المقدس ثم يعود . وقد أنجز رغبته وأقبل إلى هنا ، وأخبر اخوته بعودة تلك الشعوب الضالة التي رجعت على يده إلى الحياة والخلاص ، وأنه شيّدَ لهم كنيسة وعمدهم فأشتركوا في فرحه وأدوا الشكر لله على ذلك ، وأتى عنده إلى هذا الدير مار يعقوب أسقف بلاد مركا مع مؤمنين محترمين في البلاد ، وطلبوا منه مع كل الجمعية ألا يترك هذه المنطقة ويعود إلى هناك قبل أن يطوف فيها ويبارك سكانها ، فيشفي فيهم المرضى ويفتقد المصابين , كتب البار يعقوب الأسقف إلى جميع المؤمنين قائلاً : ( هوذا قد طلبت إلى القديس البار مار إيليا أسقف موقان الفاعل الفاضل النشط ، وصانع القوات ـ أن يخرج ويطوف في جميع قراكم لتتبركوا من قداسته ، ومن له دعوى ، أو يريد إقتبال رسامة لدرجات الكنيسة المقدسة ، يحق له أن يقدمها للقديس مار إيليا فتحل مشكلته أو يقتبل الرسامة الكنسية ) . كما شملت خدمته اليهود والوثنيين فنالوا بركته ، وازداد مجد الله بسببه في فم سكان البلاد لأمهم كانوا يرون المرضى يتعافون ، والصم والخرس يسمعون ويتكلمون . لما وصل إلى قرية ( شحري ) طلبوا منه الناس بإلحاح أن يدخل بيت إمرأة عربية كان الشيطان يعذبها فيصلي عليها ، فأجاب إلى رغبتهم ، ولما دخل أمر أحد الداخلين معه أن يُسَلِم ، أما هو فصلى ورسم الصليب أمام تلك المرأة ، وكان الشيطان قد أوقعها في ضيق شديد واضطراب عظيم ، حتى أن أربع نساء كن يمسكنها جالسات عليها لئلا يقضي عليها ذلك الشيطان في غمرة الأضطرابات ، وبدأ الشيطان يقذف الطوباوي بفم تلك المراة بشتائم قبيحة وإهانات مستنكرة باللغة العربية ، أما هو فكان الأنجيل معلقاً في عنقه عوض الصليب فأخرجه من عبه ووضعه على صدر تلك المراة وهو يستحلف ويناشد الشيطان أن يخرج منها ، وقد تجاسر الشيطان كثيراً وعارض القديس الذي كان يأمره بهدوء أن يخرج منها . أخيراً شرع اللعين ينخذل شيئاً فشيئاً وتضعف أجوبته حتى أجاب وقال للطوباوي بالعربية ( وأين تأمرني أن أذهب ، أيها الأسقف ؟ ) فقال له الطوباوي : ( باسم الرب لا تتوقف إلى أن تذهب إلى حران ، وهناك أيضاً أنت مربوط لكي لا ترجع إلى هذه المرأة ) وحران هي المدينة التي قصدها ابينا ابراهيم ووالده ولوط ، تقع على مسافة 45 كم جنوب شرق الرها، وتلك المدينة قد اشتهرت بالخرافات والسحر وعبادة الأبالسة ، وظل فيها بعض هذه العادات حتى قبولها للمسيح  . خرج الشيطان من المرأة وهو يصيح في الهواء وينطلق في إتجاه الغرب إلى مسافة بعيدة ، وأخذ صوته يخفت شيئاً فشيئاً ويبتعد عن مسامع الحاضرين . واستعادة تلك المرأة صحتها وأعترفت بقوة المسيح ، وأخذت تحيا حياة شكر للرب إلهنا وهي تعلن أن لا إيمان ولا حقيقة إلا في الشعب المسيحي المقدس . كما اجترح عجائب كثيرة .

هكذا انتقل القديس إلى السماء

وبعد أن طاف مار إيليا في كل هذه البلاد التي تباركت بخطواته المقدسة ، وحل المشاكل ، ورسم كهنة وشمامسة ، دخل الدير ، وحينما رأى الله الضيقات التي قاساها والأتعاب التي تجشمها حتى أثقلت السنون كاهله ، لم يشأ أن يعود ويموت في الغربة بعيداً عن بيت آبائه كموسى الذي دفنه في جبل نابو ( طالع تث 48:32-50 ) لئلا يتعذب ، بل أراد ان يعود إلى بلاده وهناك يريحه من الحياة المملوءة أتعاباً . مرض مرضاً طفيفاً ، وأنتقل من الحياة الزمنية إلى نعيم الحياة الأبدية .

   وهكذا كان انتقاله إلى السماء . قال عنه مار أبراهام الجاثليق :  لما اجتمع عدد منا حوله في ساعة موته ، جلس وشرع يكلمنا عن افتراقه عنا ، ثم أمرنا أن نقول ترتيلة العماد التي مطلعها ” أبواب الخدر الروحي تفتح لمغفرة البشر … ” وبينما كان جالساً ويداه موضوعتان على ركبتيه ، وصلنا في الترتيلة إلى ” أدخلوا إذاً أيها المدعوون إلى الفرح الذي أعد لكم ” ، ففتح فمه ثلاث مرات وبارحت نفسه جسده قاصدة الفرح المعد لها ، وفهمنا إذ ذاك ، وقد استحوذ العجب علينا . إنه نظر فرأى بعين فكره الخفية الراحة المهيأة له ، فطلب منا أن نقول ترتيلة العماد التي تصَوّر الراحة والنعيم المحفوظين لمتعمدين . بعدها قام جمع بنيه واخوته بمواراته التراب بإكرام وإجلال ، ووِضِعَ مع بقية الأساقفة والمطرافوليطين السابقين في بيت شهداء الدير ، وقد أعد له النعيم في السماء بصحبة بني مسلكه وربه ، أولئك الأبرار الذين اقتفى آثارهم وانتصر بالسير على نهجهم . المجد للمسيح ناصره ، ولشفق علينا نحن الخطاة بصلواته في هذا العالم ، وليشركنا في نعيمه في العالم العتيد . آمين .

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!