مقالات عامة

إطلالة على المِنْدائيّين (ت)

إطلالة على المِنْدائيّين (ت)
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

الطقوس والشعائر والتعاليم

يتّجه المندائي في صلاته وفي تأدية شعائره الدينية صوبَ الشمال، كما أسلفنا، النجم القطبي (Polaris, the North Star) لكونه، في اعتقاده، عالم الأنوار (الجنّة، دار الحقّ، مشوني كشطا)، حيث يعرّج عليه ’المؤمن‘ (مهيمني) لينعم بجوار ربّه بالخلود، والنجم القطبي خير دليل على هذه الجهة المباركة. ويُدعى الملاك الواقف على باب الجنّة اباثر. وفي الماضي، دأب المندائي في ممارسة ’الوضوء‘ (الرشامه) يوميًّا، إذ أنّ النجاسات معدية، أمّا اليوم فمن النادر أن يقوم الرجل أو المرأة بذلك في النهر أو في البيت. والقلّة اليسيرة التي تقوم بهذا الوضوء تقوم به في البيت، حيث يصبّ الشخص الماء الجاري (يَرْدِنا) على نفسه، لا سيّما بعد الجِماع. أمّا المرأة إثر الحيض فتقوم بالطماشة في البيت، وقلّما يحدث ذلك في النهر، وبعد الولادة، فهي بحاجة إلى صباغة، أي تعميد. وفي هذه الحالة يذكر الاسم الديني ’ملواشا‘، والأمر ذاته ينسحب في طقوس دينية أخرى. وورد في چنزا ربّا يسار ”يا أصفيائي، إذا عاشرتم نساءكم فاغتسلوا، وتطهّروا، ولا تقربوا النساء في الحيض، إنّ من يفعل ذلك له عذاب عظيم (ص. ٢٩٦)“. ومن أهمّ شعائرهم الدينية القديمة ’مصبتا‘ أي التعميد (الصباغة) بـ’اليردنا‘، ماء الحياة، ميا هيا (وعكسه ’تاهما‘ أي الماء الراكد، غير الصالح للشرب)، وقد يكون هذا الاسم مشتقًّا من ’الأردن‘ وعنصر ’’الماء الحي‘‘ (ميا هيي) أي مياه الأنهار الجارية جزء لا يتجزّأ من العقيدة المندائية منذ البداية، وهو ذو علاقة وثيقة بالحياة والنور، كما أنّ للماء الراكد الآسن علاقة قوية بالظلام والشرّ. وهناك حارسان للماء الجاري هما ’’شلمي وندبي‘‘، أما حرّاس اليابسة فهم ’’هيبل وشيتل وانش‘‘. ويقوم بهذا التعميد كاهن للطفل، أو للبالغ قبل الزواج، أو لطالب المغفرة والتوبة، وفي حالات عديدة أخرى. ويجري التعميد الأوّل للطفل بعد أن يكون عمره ثلاثين يومًا في يوم أحد (هد شابا، أي واحد السبعة، وتلفظ: هبشابا)، ويغطّس/يطمس/يرتمس في الماء ثلاث مرّات. ويسمّى هذا التعميد بمساعدة حلالي باسم زهريثه، وبه يصبح الطفل مندائيا. ويعمّد الطفل باسمه الديني الذي كان قد حصل عليه من رجل الدين يوم الولادة. التغطيس يرمز للموت والفناء، وبعده القيام أو البعث المتمثّل في الصعود إلى شاطىء النهر. وأهمّ مستلزمات التعميد: مياه جارية، إكليل من الريحان أو الآس (كليلا اد آسا)، ملابس كتّانية أو قطنية بيضاء (رستا)، مكوّنة من سبع أو تسع قطع مثل: قميص/لبوشا أو صدرا وسراويل/شروالا ومنطقة/هميانا وعمامة/كسيا وصندل/صندلا من الصوف أو القطن، على قاعدة خشبية وإناء للبخور/بيت ريها. وتستخدم الرستا في المعمودية والزواج والوفاة، ولونها أبيض كالنور. ومن جهة أخرى، هنالك التعميد الشخصي/طماشه، وهذا لا يحتاج إلى رجل دين أو ملابس معيّنة، وقد يتمّ بماء نظيف في المنزل ويكفي تلاوة الصلاة التالية: بسم الحي ربّي، أنا فلان بن فلانة (الاسم الديني)، اصطبغت بصبغة ابراهيم الكبير ابن القدرة، صبغتي تحرسني وتسمو بي إلى العلى، اسم الله العليم مذكور عليّ.

يؤمن المندائيون بانعتاق الروح وتخلّصها من الجسد، وعبورها إلى عالم النور عبر رسول سماوي. ويمثّل هذا التعميد ولادة جديدة عبر التراتيل، وغفران الخطايا، وهناك الخبز المقدس (پِهْتا) والماء المقدس (مَمْيوها)، (باركوا بهثا وكلوا وسبحوا ممبوها (= الماء المقدّس)، واشربوا تغفر خطاياكم وذنوبكم، چنزا ربّا، ص. ٢٨). وقديمًا كان ’البيمندا‘ بيتًا صغيرًا من الطين والقصب، ذا أضلاع سبع يمينًا ويسارًا، ولعب دورًا هامًّا في تكريس رجال الدين. وترمز هذه الأضلاع السبع إلى الكلمات السبع، التي خلق الله بها هذا العالم. ويكرّس هذا المكان المقدّس في آخر يوم من أيام ’البرونايي’’ أي ’’عيد الخليقة‘‘ في أيامه الخمسة. وفي السقف قطعة من القصب ترمز إلى البذرة، التي وُلد منها الانسان. ويُدعى رجُل الدين المكرَّس حديثا باسم ’الشوليا‘ ثم يصبح ’ترميذا‘، ويقوم بالشعائر الدينية إلى الحيّ الأزلي، ’’هيي قدمايي‘‘. وهناك شعيرة دينية تدعى ’’مشها دخيا‘‘ أي ’’الزيت الطاهر‘‘، يُمسح على شخص يحتضر أو على ’الترميذا‘‘ الذي يُرقّى إلى الرتبة التالية ’چنزبرا‘، والزيت المستعمل هو زيت السمسم لا غير. و’الدرفش‘ أو ’دْرفْشا‘ أي ’’الراية البهية‘‘ وهو العلم أو الراية، ورمز الدين المندائي ورمز النور الربّاني، وهو صليب وعليه قميص النبي يحيى. وهناك ’الصدقة‘ (زدقا) المادية والمعنوية سرًّا، المفروضة على كل مندائي تجاه الفقراء والمعوزين. وينصّ كتابهم المقدس:

’’إن وهبتم بيمينكم فلا تخبروا شمالكم وان وهبتم بشمالكم فلا تخبروا يمينكم‘‘، وهذا يذكّر القارئ المسيحيّ، على وجه الخصوص، بما ورد في العهد الجديد، إنجيل متّى ٦: ٣ ’’أمّا أنت، فإذا أحسنت إلى أحد فلا تجعل شِمالك تعرف ما تعمل يمينك‘‘ (وينظر أيضا في متّى ٦: ٦). وورد أيضا عند المندائيين: ’’من وهب صدقة وتحدّث بها فهو خاطىء لا ثواب له‘‘. ومن الكتب الدينية للصلوات ’’سيدرا اد نيشمتا‘‘ أي ’’كتاب الأنفس‘‘. وهناك الصوم الأكبر، ويعني تجنّب السيّئات والامتناع عن قول، أو عمل أي شيء من شأنه أن يعكّر صفو علاقة الانسان بربّه، أمّا الصوم الصغير فهو تجنّب نحر الحيوانات والامتناع عن تناول اللحم في غضون ٣٦ (رأي آخر ٣٤) يوما معيّنا في السنة، وتسمّى أيام الصيام بالمبطلات، حيث يُحرَّم فيها النحر، وعند الذبح تتلى هذه الكلمات ”بسم الحي ربّي العليم وباسم ملائكته النورانيين، نحرًا زكيًا يهب قوّة وعافية لكل الذين يأكلون منه، واسم الله العليم مذكور عليك“. وورد في التراث المندائي ما معناه: ”صوموا صوما عظيما لا عن مأكل ومشرب هذه الدنيا. امسكوا أعينكم عن الغمز والرمز، ولا تنظروا بسوء أو تعملوه. امسكوا آذانكم عن التنصّت لأبواب الآخرين. امسكوا أفواهكم عن قول الكذب والزيف والتأويل، ولا تحبّوا الأباطيل. امسكوا ضمائركم عن ظنون السوء والبغض والفرقة، ولا تدعوها تحتلّ أفئدتكم. إن الذي يحتلّ قلبَه البغضُ لا يُعتبر مسلمًا مؤمنا. امسكوا أيديكم عن ارتكاب الق*ت*ل وعن السرقة. امسكوا أجسادكم عن معاشرة أزواج الآخرين. امسكوا رُكبكم عن السجود للشيطان. امسكوا أرجلكم عن السعي في السوء. أمرناكم كلّكم أن اسمعوا صوت الله “.

يحتلّ الزواج مكانة هامّة في العقيدة المندائية فهو واجب، ويشمل رجال الدين أيضا، وورد في التراث المندائي ”وأمرنا أن اتخذوا لأنفسكم أزواجًا تعمر بكم الدنيا، أيها الرجل اتّخذ لنفسك زوجة وليحبّ ويرحم أحدكما الآخر“. وهنالك طقوس خاصّة لذلك، منها الصباغة أو التعميد، أي تطهير العروسين نفسيًا وجسديًا بواسطة ارتداء الملابس البيضاء (رَسْتا) وأداء قَسم الإخلاص والولاء أمام الربّ والملائكة وكافّة الحاضرين. وتشدّد الديانة المندائية على الأخلاق الحميدة، والعمل الصالح، وبثّ روح العلم والمعرفة والوئام، فقد جاء في كتبهم: ”أمسكوا أفرادكم عن قول الكذب والزيف والتأويل ولا تحبّوا الأباطيل؛ رأس علمك أن تعلم الآخرين بكلمات طيّبة زكية، ويل لعالِم لا يعطي من عِلمه، ويل لجاهل مغلق على جهله، كل من يعلم ولا يعلّم يُطرد ويُلعن، كل من لا يقود ابنه إلى المعلّم يكون مذنبًا في يوم الدين‘‘.

في الماضي، لم يسمح للغرباء بالاطّلاع على كتب المندائيين المقدّسة، لوجود بعض الأسرار الخاصّة بالطائفة فقط، إلا أنّ ذلك قد تبدّل فهناك الآن، كما ذكرنا آنفًا، ترجمة عربية لكتابهم المقدس ’’چنزا ربّا‘‘، وكتاب الصلوات والطقوس الدينية. كما ويحرّم تدوين هذه الكتب على جلود الحيوان لعدم طهارتها، إذ أنّ نحر الحيوان يعني القضاء على الحياة. وعليه فالمؤلّفات دُوّنت على ورق البردى أو نُقشت على المعادن والحجارة. أما بخصوص المأكل، فكل نبات ذي بذر حلال وحُرّم أكل لحم الجمل والحصان، والخنزير والجمل، والأرنب والكلب والفأر. وبالرغم من عدم وجود أيّة أهمية دينية للبقرة، فإنّ نحرها هي والجاموس، يُعتبر من الجرائم العـظام، وهناك قواعد يجب مراعاتها عند الذبح. ويشار إلى أنّ المندائيين يكثرون من تناول اللحوم المحلّلة طبعًا، ولا سيّما لحم الخروف والطير كالبطّ والأوزّ، وربّما كان السمك الغذاء المفضّل لدى أغلبية المندائيين. كلّ ما يخرج من بذرة فهو صالح للأكل، وعليه فالفطريات مثلا محرّمة. وممّا يجدر ذكره أن معظم آباء المندائيين كانوا نباتيين.

وبعد ثلاثة أيام من الوفاة تفارق الروحُ الجثة، وفي الماضي لم تكن أيّة آثار للقبور، لاحتوائها أجسامًا مظلمة . ولا ختان لدى المندائيين، إذ لا يجوز بتر أي جزء في جسم الانسان، الذي جبله الخالق كاملًا، وأيّ شخص ذي عيب أو عاهة ما في العضو التناسلي، لا يكون مؤهّلًا للكهنوت. وينهى المندائيون عن الحزن والنحيب ولبس السواد على الميّت، وقد ورد في چنزا ربّا ”إنّ من مزّق ثيابه على ميّت فقد دنّسها، ومن قلع شعرة على ميّت فسيربط بجبل الظلام بحبل لا يبيد … فمن الحزن، تولد الأرواح الشريرة، فتسبق نشكاثا في عروجها، وتضايقها في دار الحساب، ص. ٢٩-٣٠ “.

مكانة المرأة والزواج

إنّ أوّل اسم ذُكر في التاريخ المندائي هو للسيدة شلاما/سلمى بنت قدرا، التي عاشت حتى بداية القرن الثالث للميلاد، وإليها يُعزى نسخ قسم اليسار من چنزا ربّا المشتمل على شعر، يصف ارتقاء النفس إلى عالَم النور. شلاما هذه سبقت الناسخ المندائي المشهور، زازاي برچويز طه، الذي عاش في أواخر القرن الثالث للميلاد. ومن النساء الكاهنات في التاريخ المندائي، كما ذكر في چنزا ربّا، يمكن التنويه بالأسماء التالية: ياسمن ام شكندا في القرن الرابع للميلاد، سارت ام قيام في القرن السادس، هوا بنت دايي في القرن السابع، هيونا بنت تهوي في القرن الثامن، انهر بنت سرات في القرن الثامن عشر، بيبي مدلل أخت يهيا بهرام وزوجة رام زهرن عام ١٨٣١ (ينظر في ديوان ملكوثا اليثا). ترتدي المرأة المندائية الملابس الغربية، وتؤكّد العقيدة على دورها الهامّ أُسريًا واجتماعيًا، إذ أنّها نصف المجتمع، وكما ورد في ’’چنزا ربا‘‘ الكتاب المقدّس، أنّ الخالق، الحيّ العظيم، الذي انبعث من ذاته، بأمره وبكلمته تكوّنت جميع المخلوقات، كما خلق آدم وحوّاء بقوّته وقدرته من نفس الصلصال، ”ومن سرّ الكون، جُبل آدم وحوّاء . وحلت فيهما نشمثا بقدرة ملك النور“ (چنزا ربّا، يمين، ص. ٢١). والمرأة رمز النماء والخصوبة والتكاثر، وحجر الأساس في بناء الأسرة، وسرّ سعادتها وتطوّرها على حدّ سواء، إلا أنّ رسالة تربية الأولاد ملقاة، في الأساس، على كاهل الرجُل والأب مسؤول عن أبنائه حتّى عمر الخمسة عشر عاما.
وهنالك في التاريخ المندائي، نسوة شغلن مناصب مختلفة في الكهنوت، ومكانة المرأة مرموقة، إلا أنّ المجتمع يغمط حقوقها. وقد ورد في وصايا النبي يحيى: ”لو لم تكن المرأة في هذا العالم، لما خُلقت السماء والأرض، وما أشرقت الشمس وأنار القمر، الزوجة مثل الماء“. يحثّ الدين الصابئي على الزواج والإنجاب، ويعتبر الأعزب مذنبًا في الفانية والآخرة، ويوصف بالنهر الذي جفت ضفتاه واندثرتا بلا أثر. ويفضّل الزواج من واحدة، إلا أن كهنة وآخرين كثيرين، تزوّجوا باثنتين أو أكثر في الوقت ذاته، وزواج الأقارب معمول به ولبتولية الفتاة، كما هي الحال في المجتمعات العربية التقليدية مثلاً، أهمية قصوى. لا وجود لما يعرف بـ ”شرف العائلة“ لدى المندائيين، ويحرّم نظريًّا على الثيّب الزواج ثانية. وعند إجراء مراسم القِران يُكسر إبريقان فخاريان رمزًا لكسر الشرّ. ويتمّ الزواج في الغالب الأعمّ في فصلي الربيع والصيف، إذ أنّ الماء في فصل الشتاء يكون باردًا جدًّا في حالات كثيرة. وتجري مراسيم الزواج في ما يسمى بأندروني/أندرونا وهي عبارة عن غرفة من القصب. وقديمًا كانت المرأة الطامث تعتبر غير طاهرة، فلا يحقّ لها دخول المعبد (مندي، مشكنا)، أمّا في أيّامنا هذه فاللواتي لا يدخلن المعبد بسبب الطمث هنّ قلّة. وفي داخل هذا المعبد وحوله، تجري وفرة من الطقوس الدينية، كالتعميد والزواج والرسامة، أو تكريس رجل الدين وهلمجرّا.

وعند الزواج يؤدّي العروسان قَسَم الأمانة والإخلاص (كشط ياقرا)، أمام الخالق والملائكة والحضور كافّة، وهذا معناه: أوّلًا الرجل: ”هذا عهد قطعته على نفسي أمام الشهود بأنّي سآخذ فلانة بنت فلانة زوجة شرعية لي. يشهد الله الحي العليم ويشهد رسله وملائكته الأثيريون، ويشهد هؤلاء الكهنة والمندائيون، كلّهم شهودي بأنّي لن أحيد عن عهدي وميثاقي ولن أخون زوجتي أو أغشّها وسوف أوليها رعايتي وأسالمها بالحقّ، وأفي بعهودي التي ربطتني بها أمام الله تعالى“. امّا العروس فتتناول أوّلًا قطعة من الرغيف، الذي أكل منه الزوج، وتُقْسم أنّها لن تأكل إلا منه، وهكذا تتعهّد بمشاركته الحياة فقط، ويكون الرجل كالعصا التي تتكىء عليها المرأة عند الحاجة.
وممّا يجدر ذكره، أنّ النصوص المندائية لا تذكر بأنّ حوّاء قد خُلقت من آدم، بل من نفس الطينة، وبُنيت على هيئة ’’سحابة النور‘‘ (انانا اد نهورا)، ووصفت بالأرض في حين وصف آدم بالسماء. ويُشبّه فعل الذكر والأنثى بالمطر، الذي يهطل من السماء ليروي الأرض القاحلة ليحييها. وكان أدم الذي هبط في سرانديب، في أطواره الأولى، وَفق التراث المندائي المتوارث المتواتر، يدبّ على أربع، وكان صوته يشبه ثغاء الخراف وصهيل الخيل، ثم تطوّر وتأنّس، وأنجب ثلاثة أبناء: هيبل وشيتل وانوش. وفي اعتقاد المندائيين، التناسل البشري الأوّل قد تمّ من زواج أبناء آدم الأرضي، من بنات آدم الخفي (آدم كسيا)، وعليه فالانتساب لدى المندائيين يعود للوالدة ، كما هي الحال عند اليهود. ويجوز للمندائي أن يعمِّد نفسه متى شاء، وخاصّة في المناسبات الدينية والأعياد مثلا، بعد الانتهاء من مراسيم الزواج. لا مكانة تذكر لرجل مندائي لم ينجب ذكورًا، إذ هم الذين سيحملون نعشه لتحلّق روحه في السماء، والتبني عندهم ممنوع.

الاحتفالات والأعياد الدينية

ممّا يجدر ذكره في هذا السياق المندائي، أن نشير إلى أنّ لفظة ’الاحتفال‘ مشتقّة من الجذر ’حفل‘ ويعني الحليب في الضرع والماء في المكان. يؤدّي المندائي ثلاث صلوات فردية يوميًّا، إذ أنّ الصلاة الجماعية نادرة جدّا، ويسبق كلا منهما الوضوء والبركة (الرشامه ثم البراخه). وأعيادهم الدينية خمسة وهي ذات طابع شعبي:

١) العيد الكبير/رأس السنة أو الضحوة/الأضحية (دهوا ربا، نوروز ربا)، وهو معروف عامّة باسم عيد ’التكريس‘، وهو ذكرى هبة الخالق العظيم الحياة للبشر، ويستمرّ يومين لاستقبال العام الجديد على ضفة ’اليردنا‘، وفيه يتناول المندائي الخبز الفطير واللحوم. ويقول المندائيون إنّ الملائكة تصعد في هذه المناسبة إلى الباري للتعبير له عن الشكر والامتنان.
٢) العيد الصغير / القصير (دهوا هنينا، دهفا اد طرما) أو عيد النضوج/الربيع/الأزهار، وهو أوّل أيام الربيع. ويحلّ في الثامن عشر من أيّار، وهو ذكرى عودة الملاك جبرائيل إلى السماء، وبفيه بشرى النور والسلام، وهو يوم واحد.
٣) عيد الخليقة /البرونايا/ البنجة أي الخمسة لأنّه يستمرّ خمسة أيام، تدعى بالأيّام البيض النقية، ذكرى خلق عوالم النور (الما دنهورا)، وهو أهمّ عيد عندهم. يصلّون الصبح، ويجري التعميد، وتنحر الذبائح، وتقدّم الصدقات للفقراء. يصادف هذا العيد في نهاية شهر آب، وتقدّم الطيّبات على روح الميّت.
٤) عيد التعميد الذهبي (دهوا اد مانا) وهو يوم واحد، وعلى المندائي أن يتعمّد فيه، كما تعمّد فيه الأب الأول، آدم والآباء الصالحون القدامى، مثل شيث وسام ويحيى. وقد رأينا أنّ الماء والتعميد يحتلّان منزلة هامّة جدّا، فبالإضافة إلى ما ذكر آنفا من تعميد، فهناك تشـجيع لهذا في كلّ يوم أحد، وعلى حاملي بساط الرحمة والكفن، أن يتعمّدوا قبل هذا الطقس وبعده. وهناك قول مأثور عن فقهاء هذه الطائفة: لمس الماء كلمس الخالق. وفي هذه المناسبة يعمّد الصغار وتقدّم الهدايا للفقراء.
٥) عيد الازدهار (شوشيان) في السادس والسابع من الشهر الأول للسنة الجديدة، وهو ذكرى الحياة الكونية الرابعة، ومن الطريف حقًّا، التنويه بأنّ اسم الليلة بين هذين اليومين هو ’’ليلة القدر‘‘، ففيها تنفتح أبواب النور للمؤمنين. وهناك مناسبات أخرى، مثل العاشورية و’’دك الفل‘‘، أي مزج التمر بالسمسم المطحون على شكل كرات صغيرة، وهذا يرمز إلى الطعام المقدّس.

اللغة المندائية

اللغة المندائية الكلاسيكية هي لغة سامية شمالية غربية، لغة العلم، وهي فرع من اللغة الآرامية الشرقية، كالسريانية والآرامية البابلية، آرامية التلمود البابلي، وهي متأثرة باللغة الأكّادية. يبدو أنّ لغة التلمود البابلي، كانت في بابل العليا، أي شمال العراق، والمندائية كانت سائدة في بابل السفلى، أي في الجنوب، وفي نحوهما شبه كبير، والثانية لم تقترض من لغات أخرى بعكس الأولى. تعود بداية هذه اللغة إلى القرون القليلة قبل الميلاد، وقد ازدهرت منذ القرن الثالث ق.م. وبهذه اللغة دوّنت كافة المخطوطات الدينية، وهي ما زالت مستخدمةً في الطقوس والشعائر الدينية إلى يوم الناس هذا، ومعظم أهل اللغة لا يعرفونها. ويقول الباحث المندائي يوسف متي قوزي إنّ نصف المندائية سرياني والنصف الآخر سورثي من الآراميات الراهنة في العراق (آرامية العهد القديم وقواعد ونصوص، ص. ٥٠).

واللغة المندائية لغة طقوس دينية، حوالي عشرة فروض دينية ويقدّسها أهلها. دين هذه اللغة يفتقر، في الواقع، إلى مرجعية دينية موحّدة وفاعلة، لا اجتهاد فيه ولا افتاء. ويظهر أنّه لا وجود لأي مخطوط مندائي في مكتبات أوروبا يعود تاريخه إلى ما قبل القرن السادس عشر، إذ أن أقدمها هو Marsh 691 في البودليانا في أكسفورد، مجموعة صلوات نسخها آدم زِهرون عام ١٥٢٩. هنالك تماثل كبير من حيث الدلالةُ بين المندائية الكلاسيكية والعربية الفصحى. أمّا اللهجة المندائية الحديثة (Neo-Mandaic) فتمثّل المرحلة الأخيرة لتطوّر المندائية الكلاسيكية الآيلة إلى الانقراض، من حيث النظامين الصوتي والصرفي، وهي لهجة من اللهجات الآرامية الحديثة المستعملة في مناطق بحيرتي ڤان وأورمي شمالا إلى دمشق والأهواز جنوبا. وهذه اللهجات متباينة لدرجة يستحيل معها التفاهم بين ناطقيها، وعليه فمن الصحّة بمكان تسميتها لغات. وهناك تأثير فارسي واضح من حيث النحو والمعجم والدلالة، في القسم الإيراني، والأمر ذاته ينسحب بالنسبة لتأثير العربية في البقاع العربية. وعلينا القول إنّ عدد الناطقين بهذه اللهجة المندائية الحديثة لا يتجاوز الألف، وهم في الأهواز في إيران. بعبارة موجزة أمامنا مثل من مئات اللغات الآيلة إلى الاندثار والانقراض.
وقد حافظ رجال الدين على اللفظ القديم، وعلى طالب اللاهوت أن يستظهر مادّة مقدّسة واسعة، ويُصحّح في عملية الحفظ هذه. وممّا يجدر ذكره، أن هناك تسجيلات لمثل هؤلاء الكهنة منذ العام ١٩٥٤، كانت قد أعدّتها الباحثة البريطانية دراور (Ethel S. Drower, 1879-1972، إثل مي ستيفنسن، قبل الزواج؛ حصلت على ٥٦ مخطوطًا مندائيا وهي محفوظة الآن في مكتبة بودليانا)، التي قال عنها الشيخ /المومن خلدون مجيد، إنّها طلبت التمندع.
وكان صديقي الأستاذ المرحوم، رودلف ماتسوخ (Rudolf Macuch, 1919-1993) قدِ ٱكتشف في العام ١٩٥٣ وجود لهجة مندائية محكية في خوزستان، وبناء على ذلك حاول التوصّل إلى النظام الصوتي للمندائية الكلاسيكية، التي تعود إلى القرن السادس للميلاد، وقد تلت هذه المرحلة ما يسمّى، ما بعد الكلاسيكية (postclassical). ويعتقد المندائيون أنّ ’’الحي العظيم‘‘ كان قد لقّن آدم العلم والمعرفة، وقرأ الأباچادا أي الأبجدية آ، با، چا، دا، ها الخ. وفيها ٢٤ حرفا، تبدأ بالألف وتنتهي به لأنّه في اعتقادهم كلّ شيء يعود، لا محالة، إلى أصله وبدايته، وفيها الصوت ذال. ومصدر هذه الأبجدية في الاعتقاد المندائي هو عالم النور ويقال إنّ أشكال الأحرف تنمّ عن الصراع الدائر بين النور والظلام. وهذه الأحرف هي: a, b, g, d, h, w/u, z, ḥ, ṭ, y/i, k, l, m, n, s, ˓, f, ṣ, q, r, š, t, id, a. (ابجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت + اد، آ). ولكلّ حرف معنى معيّن باستثناء الراء والحرفين الأخيرين، و id هي أل التعريف، وهذه المعاني هي بالترتيب: الأعلى، أب، جبرائيل، طريق/سبيل، حياة، واحسرتاه، نور/بهاء، عين الله، طوبى/جيّد، اليمين/اليوم، حق/حقيقة، لسان، عقل، نور، أمّ، عين، شجرة، صوت، صرخة، شمس، توبة. ولبعض هذه الأحرف، الألف والكاف والنون والپاء والصاد، شكلان في الكتابة أحدهما في بداية اللفظة ووسطها، والآخر في النهاية. وللأحرف الستّة بچد كفت، كما هي الحال في العبرية القديمة، لفظان،ب/پ، چ/غ، د/ذ، ك.خ، ف/ڤ، ت/ث. وهذه الأبجدية خالية من ’الروافد‘ كما دعاها ابن النديم (ت. ٩٩٥؟) أي ’’ثخذ ضغط‘‘، ولها رسم خاصّ بها شبيه بالحرف العربي، لا سيّما الحروف: ب، ح، د، س، ص، ط، ع، ل، ن، و. الحروف الأربعة ا، ز، ي، ش، تتصل بما قبلها ولا تتصل بما بعدها. وفي المندائية ثلاث حركات كما في العربية، ولا توجد علامة لا للشدّة ولا للسكون، لا أداة تعريف، لا صيغة مثنى، ولا وجود لساكنين متتاليين. الخطّ المندائي شبيه بالخطّ النبطي غربًا والخطّ العيلامي شرقًا.

غالبًا ما يضع المندائيون أبجديتهم تحت وسادة النوم للتبرّك. ويذكر أن أصواتًا عربية دخلت حديثًا اللغة المندائية مثل: العين بشكله العربي، الغين وهو وضع نقطتين تحت الجيم المندائية، الذال بوضع نقطتين تحت الدال المندائية، الحاء بوضع نقطتين تحت الهاء المندائية، إذ أنّ العين والحاء في المندائية القديمة تحوّلتا لفظًا إلى همزة وهاء، فمثلًا هناك: ابد = عبد، خادم؛ ازز = عزّ؛ هبر = حِبْر وفي المندائية معناها سَواد؛ هبلا = الحَبْل؛ هوبا = الحوْبة، الإثم؛ هلبا = الحليب . وصوت الشين المندائي يقابل حرف السين العربي كما هي الحال بالنسبة لباقي الأخوات الساميات: شال، شواليا (وفي الأكادية: شئالو) = سأل، السؤال؛ شفل، شفالا، شوال = سفل، الأرض السفلى، أرض الموتى؛ شمبلتا = السنبلة، برج العذراء؛ شنتا = السِّنة/النوم وفي الأكادية شتو. والسين (مثل السامخ في العبرية) يقابلها في العربية الشين مثل: سهد/سهدوثا = شهد/شهادة؛ سنا = شنأ/أبغض. والكتابة المندائية تشمل الأصوات الصامتة والصائتة أي الحروف والحركات في نفس الشكل، كما هي الحال في اللغة الأمهرية/الحبشية مثلًا.
والأعداد العشرة الأولى في المندائية هي: هاد، ترين، تلاتا، اربا، همشا، شتا، شبا، تمانيا، تشا، اسرا. يلاحظ اختفاء الحروف الحلقية: ح، خ، ع، غ، إذ أنّها قُلبت هاء أو همزة كما هي الحال في لغات سامية عديدة كالبابلية والأشورية والعبرية الحديثة. وهناك أيضا خلط ما بين الأصوات /س/ ص/ز/، ك/ق. وقد تحوّل الصوت حاء إلى إشارة لضمير الغائب ويلفظ كالياء.

وهناك لكلّ حرف صامت قوّة معيّنة من الحياة والنور والقدسية والسحر، والعدد ٢٤، عدد الأبجدية وساعات اليوم ملائم في اعتقاد المندائيين للسحر وللقوى الخارقة. حافظ المندائيون على لغتهم وقدّسوها وظلّت بعيدة عن التأثيرات الخارجية، والتشديد في النصوص الدينية كبير جدّا. يحرّم طرح أي نصّ ديني على الأرض، وإذا توجّب إتلافه فلا بدّ من رميه في الماء. ويعتقد المندائيون أنّ لغة آدم كانت المندائية.
وممّا يجدر ذكره أن المندائيين العاديين اليوم، لا يقرؤون ولا يكتبون لغتهم، إذ أنّ تعلّمها يكاد يكون مقتصرًا على رجال الدين والمثقّفين حقّا. فاللغة الحديثة محكية في إيران ولكن بدون أدب. وهناك المخطوطات المندائية في العديد من المكتبات العامّة في العالم الغربي مثل ’’المكتبة الوطنية‘‘ في لندن ومكتبة ’البودليانا‘ في أكسفورد. ويعتبر المستشرق الألماني پترمان (J. H. Petermann, 1801-1876) مؤسّس الدراسات اللغوية المندائية بنشره كتاب چنزا ربا وقواعد المندائية عام ١٨٦٧ وتبعه نولدكه (Th. Nöldeke, 1836-1930) عام ١٨٩٥.

وفي خريف العام ٢٠٠٣ عُقد مؤتمر عالمي في جامعة برلين الحرّة حول الدراسات السامرية والمندائية، وذلك لمناسبة حلول الذكرى العاشرة لرحيل الأستاذ الفذّ، رودلف ماتسوخ (Rudolf Macuch, 1919-1993)، الذي ساهم بأبحاث مميّزة عالميًا في كلا المضمارين، وقلّما تيسّر مثل ذلك الإنجاز في صفوف الباحثين اليوم. وقد تسنّى لكاتب هذه السطور الاشتراك في المؤتمر المذكور، بمحاضرة حول كاهن سامري أكبر، أبي شفيق يعقوب بن عزّي (ت. ١٩٨٧)، الذي كان صديقا لماتسوخ أيضًا، منذ منتصف القرن العشرين. وكان ماتسوخ أوّل من أشار إلى لهجة غير معروفة في المندائية، في أعقاب زيارته للأهواز، وهي لغة الكلام، اللغة المحكية، وأطلق عليها الاسم Neo-Mandaic. والجدير ذكره أن اللغة المندائية هذه، تندرج ضمن اللغات المهدّدة بالانقراض، إذ لا يتجاوز عدد الناطقين بها اليوم المائة شخص من أصل قرابة الثلاثين ألف مندائي في العالم. وهذه اللغة المحكية أو الرطنة، كما أُطلق عليها، قد تأثّرت كثيرا بالفارسية والعربية.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!