مقالات عامة

إطلالة على المِنْدائيّين (أ)

إطلالة على المِنْدائيّين (أ)
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

مقدّمة

يبدو لي أنّ القارىء العربيّ المثقّف حتّى، لا يعرف شيئًا ذا بال عن هذه الطائفة الكتابيّة الغنوسطيّة الصغيرة والوحيدة، (Mandaeans, Mandeyānāye)، طائفة المتعمّدين العرفانيّين، التي تعيش على ضفاف دجلة والفرات (ادچلات وپوانون)، جنوبي العراق، وفي الجنوب الغربي من إيران (خوزيستان)، على ٱمتداد نهر قارون، منذ ألفَي عام. يعيش المندائيون/المنداعيون أو الصابئة أو الصُّبّة الذين يُطلق عليهم أسماء ونعوت كثيرة: المتعمّدون؛ العارفون؛ المغتسلة؛ السابحة؛ الكوشطيون/الكشطيون (أصحاب/دعاة الحقّ)؛ الكيماريون؛ الرشيون؛ الأنباط العراقيون؛ شلماني أي المسالم؛ اليحياويون أي أتباع يوحنّا المعمدان؛ الناصورئيون/النوصرائيون؛ الآدميون؛ الحرنانية/أهل حران؛ المصطبغون؛ صابئة البطائح؛ المتنوّرون أو أبناء الماء والنور؛ أتباع إدريس؛ نصارى/مسيحيو القدّيس يوحنّا المعمدان؛ صاغة الفضّة العماريون؛ نوارس الرافدين/العراق؛ بهيري زِدقا/الصادقون المختارون- اليوم في مدن عراقية كبيرة أيضًا، مثل بغداد والبصرة والناصرية ومَنْدَلي، والكوت والعِمارة والحلّة، وقلعة صالح وسوق الشيوخ والحلفاية، وديالى والديوانية وكركوك والموصل وواسط وكذلك في الشتات، في أمريكا الشمالية وأوروپا وأستراليا وفي أقطار الخليج العربي وسوريا والأردن وإيران إلخ.

المندائيون هم دين وقومية وثقافة موغلة في القِدم، وهم يقولون إنّ ديانتهم من أقدم الديانات، إن لم تكن أقدمها، إنّها تعود إلى آدم أبي البشر، رأس الذرية وإنّها أنقى الشرائع. يرجع معظم تراثهم المكتوب إلى ما قبل ظهور الإسلام. الماء أبجديتهم الأولى، كما كانت الحال لدى السومريين والأكّاديين قبل ذلك، وربّما كانوا سكّان بطائح العراق/جنوب العراق الأصلانيين. يسمع الإنسان العربي، ويقرأ هو والمثقّفون عامّة، عن الشيعة والسنّة والأكراد والأشوريين والأزيديين والتركمان والسريان، ولكن لا أحد تقريبًا يذكر المندائيين. الجدير بالذكر أنّ الدساتير العراقيّة، لا تُشير البتّة إليهم، وفي إيران هم أصغر مكوّن وغير معترف به.

اِرتأيت في هذه الدراسة، إلقاء بعض الضوء على هذه الأقلية الصغيرة، من ضمن عشرات الأقليات التي يزخَر بها العالم العربيّ، إنّها تتكلّم اللغة العربية، ولكنّها ليست عربية ولا إسلامية، لا مسيحية ولا يهودية، حالها في هذه الجزئيّة حال السامريين. ينبغي عدم الخلط بين هذه الطائفة الموحِّدة وصابئي حرّان الوثنيين، عبدة الكواكب والنجوم. في مجلس الحُكم الانتقاليّ العراقيّ، كان ثلاثة عشر عضوًا من الشيعة، خمسة من السُّنّة، خمسة من الأكراد، واحد من الأشوريين وواحد من التركمان، ولكن بدون أيّ ممثّل عن المندائيّين. هناك من يقول، إنّ أصل العرفانية (الغنوصية) تعود إلى نبونيد (٥٥٦-٥٤٩ ق.م.)، آخر ملوك بابل، الذي دعا إلى عبادة إله واحد ٱسمه سين، إله القمر، وجعل حرّان قِبلة المؤمنين. ترى المندائية أنّ الإنسان مكوَّن من روح ونفس وبدن. الروح نور إلهي مرتبط بملكوت السماوات، والنفس دنيويّة فيها الشهوة والشعور، أمّا البدن فهو مركز الغرائز والخطايا.

يُقدّر عدد المندائيين اليوم ما بين ٢٥ ألفا و٣٠ ألف نسمة (رأي آخر يقول ٦٠ ألفا – ٧٠ ألفًا، وهو في تقديري، أقلّ احتمالًا بكثير من الأوّل)؛ بقي منهم الآن في مسقط رأسهم في العراق ما بين ٨-١٠ آلاف، في حين أنّ عددَهم قبلَ العام ٢٠٠٣، كان أكثر من ٣٥ ألفًا؛ والمسيحيّون كانوا قرابة ١،٣مليون والآن أقل من ١٥٠ ألفا. هنالك مجلسان، مدني وديني/روحاني يتوليان إدارة شؤون الطائفة. هنالك كوتا من خمسة نوّاب للمسيحيين في برلمان بغداد، وخمسة في برلمان إقليم كردستان، أمّا للمندائيين فهنالك نائب واحد في برلمان بغداد. مئات من المندائيين قد تنصّروا إثر هِجرتهم إلى الغرب منذ تسعينيّات القرن الماضي، فذلك العقد كان من أصعب الأوقات بالنسبة لهم في العراق، وهذا ما يحدُث عادة للكثير من المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط إلى الغرب، وهذه الهجرة هي الشغل الشاغل في الوقت الراهن بالنسبة لأوروبا الغربية. يمكِن القول إنّ المندائيين قد عاشوا بأمن وأمان وازدهرت حياتهم الاقتصادية بصورة عامّة في عهد حُكم صدّام حسين.

مدخل عام

الصابئة/المندائيون هم من أهل حرّان الذين نسَبوا حِكمتهم إلى ’هرمس‘ و ’عاذيمون‘، وكان الطبيب الصابئي المعروف، ثابت بن قرّة (ت. ٩٠١م) قد نقل إلى العربية مؤلَّفا بعُنوان ’’أنظمة هرمس‘‘، وهرمس في المانوية هو أحد الرُّسل الخمسة الّذين كانوا قبل ماني. وماني هذا، وُلد بين المندائيين ولم يتعلّم أصول الديانة المندائية فحسب، بل ودواوينهم السرية ذات المحتوى الباطني أيضًا، ولكنه انشقّ عنهم لاحقًا. تُنسَب أصول هذا الدين المندائي التوحيدي إلى النبي الأول، آدم العاقل، ومن تلاه من أنبياء مثل شيتل ونوح وسام ويهيا يوهنا.

تُعتبر هذه الديانة المندائية، التي لا ذكرَ لاسم مؤسِّسها، واحدة من الديانات القديمة في بلاد ما بين النهرين، ولا توجد أية دلالات تاريخية أو مادّية بشأن تحديد مكان نشوئها، وزمان ظهورها. ويظهر أن المندائيين لم يخلّفوا مؤلفاتٍ تُعنى بتاريخهم، شأنهم في هذا الصدد، شأن أقليات إثنية أخرى في الشرق الأوسط. قد تكون هذه الطائفة، قدِ ٱنبثقت من إحدى الطوائف اليهودية في القرن الثالث للميلاد، مثل الفرّيسيين الإسينيين، وهنالك من يدّعي أنّهم من سبط لاوي. يبلغ تعداد أتباع هذه الطائفة حوالي الثلاثين ألف نسمة، كما نوّهنا، وتعيش الأكثريّة، قُرابة الثلث، في جنوب العراق بالقرب من نهري دجلة والفرات، وفي أصقاع مختلفة مثل، منطقة الأحواز في إيران وفي بعض مدن آسيا الصغرى، والباقي قرابة الخمسة عشر ألفا في المهجر، جاليات في أمريكا وأوروپا وأستراليا.

تعرضّت هذه الطائفة، كغيرها من الأقليات الكثيرة الأخرى في الشرق الأوسط، إلى العديد من ألوان الاضطهاد والملاحقة والمعاناة، دينيًا ومادّيًا وثقافيًا في تاريخها الطويل القديم، من قبل اليهود والزرادشتيين والمانويين. كما وتشهد على ذلك الحِقبة الزمنية الممتدّة من مستهلّ القرن السابع عشر، على سبيل المثال، وحتّى يوم الناس هذا. ويذكر أن مندائيي منطقة الجزيرة قد تعرّضوا في القرن الرابع عشر إلى مجزرة طالت الجميع، رجالًا ونساء وأطفالا، وبقيت الطائفة بلا كهنة لعدة سنوات. وفي العشرينيّات من القرن السابع عشر، حاول جنود برتغاليون ومنظّمات كاثوليكية تبشيرية مختلفة، بالقوة تارة، وبالإغراء تارة أخرى، تنصير العديد من المندائيين في البصرة، حيث أقاموا كنيسة. وفي العام ١٨٣١ تعرّض المندائيون لخطر الانقراض جرّاء وباء شديد، ضرب أماكن سكناهم، وفي العام ١٨٧٠ ارتكبت في شمال الأهواز، جنوب غرب إيران، مجزرةٌ بحقّ الطائفة أتت على جميع أفرادها تقريبًا في شُشْتار، وكثيرًا ما يصفهم جيرانهم بالكُفر والنجاسة. ويُروى أنّ عدد المندائيين الذين قُتلوا منذ سقوط بغداد في شهر نيسان عام ٢٠٠٣ قد بلغ الثمانين شخصا.

أما في العصور الغابرة، فقد عاش هذا الشعب على ٱمتداد رقعة جغرافية واسعة، في ما يسمّى حديثًا بالشرق الأوسط، ولكنّهم لم يعرفوا طعم الحكم الذاتيّ في تاريخهم. ولهذه الطائفة ملامح وخصائص مشابهة للعقيدة الغنوسطية، أي المعرفية. والمعرفة هذه، لا تتأتّى عبر الدرس والتعليم فقط، بل وبالأساس، تتكىء على الفيض الالهي الروحاني، ولا بدّ من طُهر جسدي وروحي كامل يصل الذروة، ليتسنّى للمندائي (المنداعي، العارف) التواصل بقِوى النور، والاطّلاع على الأسرار المقدّسة. وفي العقيدة المندائية ثنائية غنوسطية، أمّ وأب عالمين، عالم النور وعالم الظلام، الخير والشرّ، والعداء بينهما محتدمٌ بشكل دائم.

المندائيون ليسوا بمجوس أو عَبَدة النيران، كما يصفهمُ البعض (مثلاً: محمد على الصابوني، صفوة التفاسير، تفسير للقرآن الكريم. القاهرة، ط. ١، ١٩٩٧، ج. ٢، ص. ٢٦٠) ولا نصارى، إلا أنّهم من أهل الكتاب. ويبدو أن الحِقبة الزمنية الواقعة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأوّل للميلاد، كانت حاسمة في تبلور سلسلة من الأفكار والمبادىء المندائية، في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس، لدى المندائيين الشرقيين، وفي بلاد الشام لدى المندائيين الغربيين، الّذين مرّوا بفترات منافسة وخصومة مع أديان أخرى كاليهودية. وقد جاء في چنزا يمينا ١٣: ٢٢ وما يليه ”لا تكونوا مع اليهود، أولئك الذين لم يثبتوا على قول واحد، أحدهم يسيء للآخر، وملك ينقص من الآخر، ونبي يكذب الآخر“. وقد سكن بعض هؤلاء الغربيين في حرّان وجبال ميديا وطور بروان (الجبل الأبيض) وجبل الكرمل والناصرة وضفاف الأردن، ومناطق جبلية في فلسطين. ومن المهن التي ٱشتهر بها المندائيون، صناعة المجوهرات، وقد نقلوها إلى مدينة سيدني مثلًا، والزوارق وطليها بالقار(المشاحيف)، والسكاكين والمناجل والصياغة والحدادة والنجارة، والزراعة وتربية الماشية وصيد السمك، وكتابة التعاويذ وعمل الرقي مقصوران على الكهنة.

وللمندائيين راية يوحنا/يحيى (دْرافْشا اد يهيا يُهنا)، وهي عبارة عن رمز لدينهم، وهي بمثابة غصنين متقاطعين من شجرة مثمرة، على شكل صليب، ملفوفين بوشاح من الحرير الأبيض، وفي أحد جوانبه شراشيب. وهذه الراية (الشعار) ترمز إلى السلام والنور وشجرة الحياة. ويذكر التراث الديني المندائي أنّ الملاك هيبل زيوا (واهب النور، جبرائيل) قد سلّم هذه الراية لآدم الخفيّ (ادم كسيا)، وآدم سلّمها إلى المندائيين. وتُدعى العشائر المتعدّدة التي تقطن الأهوار باسم ’المعدان‘، والمندائيون محافظون جدّا، متشبّثون بعاداتهم وطقوسهم الميثولوجية القديمة ذات المسحة القدسية، إلا أنّ عصر العولمة الذي يجتاح العالم بأسره، ’يُخلخل‘ بعض تلك العادات والطقوس القديمة، إذ أنّ الصراع بين التراث والحداثة قائم ومستمرّ، وهناك بعض الطقوس التي يُسّرت وبُسّطت لمواكبة عجلة الزمن المتسارعة، إذ مثلًا، لا توجد أنهار بالقرب من أماكن سكن الكثيرين من المندائيين اليوم.

الاسم والمعمودية

في الوقت الراهن، يُطلِق أتباع هذه العقيدة الدينية على أنفسهم، العامّة ورجال الدين، على حدّ سواء، اسم ’المندائيين‘ أو ’’المعمدانيين الأصليين‘‘ فيما بينهم، أمّا في الماضي فكان الاسم ’ناصورائي‘ هو الشائع، وأصبح الآن خاصًّا برجل الدين الضليع في العقيدة، وشافي الجسم والروح. وهناك أيضًا ’تَرْميدا‘، وهو الكاهن العادي ’وچَنْزِبْرا‘ وهو رئيس الكهنة. ويبدو أنّ أصل الاسم ’صابي‘ هو الفعل الآرامي المندائي ’صبا‘ ومعناه ’’اصطبغ، تعمّد‘‘ وكلمة ’المندائيين‘ مستمدّة من ’مندا‘، التي أصلها ’مندع‘ وتعني ’’العلم والمعرفة‘‘ وعليه، فاسم هذه الطائفة معناه بالعربية ’’المتعمّدون، المعمدانيون (نسبة ليوحنا المعمدان واسمه عندهم: يهيا يوهنا، نبي منذ سن الـ ٢٢ عاما)، المغتسلة، العارفون‘‘.

ممّا يجدُر ذكره أن لفظة ’مندا‘ تتحدّر من ’’بيت المندا‘‘، ومن ثمّ ’البيمندا‘ أو ’مشكنا‘ أي ’’بيت المعرفة أو مسكن العبادة‘‘، ويدعوه المندائيون ’المندي‘، وفيه ’الدْرافْشا‘ المذكورة آنفًا. والمعرفة المذكورة تتركّز في معرفة الخالق وتعاليمه. وهناك مواصفات معيّنة لإقامة هذا البيت، عليه أن يكون مثلًا مستطيل الشكل، والداخل يكون وجهه نحو الشمال، جهة عالم النور؛ وموقعه يكون على الضفّة اليمنى من أي نهر. لا قِباب فيه ولا منابر ولا محراب. يُغسل المندا مرّة سنويا، وذلك في آخر يوم من أيّام البنجا/عيد الخليقة. جميع الطقوس الدينية تكون خارج المندا. وتعرف هذه الطائفة الدينية باسم الصابئة المندائيين أيضًا، كما وسمّاها بعض المبشّرين المسيحيين باسم ’’مسيحيي القدّيس يوحنّا، وربّما كان مهدها بلاد الرافدين. أما الاسم ’صُبّة‘ أو ’صُبّي‘ فلا ذكر له في النصوص الدينية المندائية بتاتا وتسميتهم بـ’الصابئين‘ أو ’الصابئة‘، قد صدرت عن أقوام أخرى، كما ورد مثلا في القرآن، البقرة ٦٢، الحج ١٧، المائدة ٦٩؛ أمّا في العهد القديم في سفر التكوين ١٤: ٢ فقد ورد الاسم צביים/צבויים ’صَبُوييم‘.

ويدّعي أبو الفتح الشهرستاني (١٠٨٦-١١٥٣) في كتابه ’’المِلل والنِحل‘‘ أن أصل اللفظة ’’الصابئة/الصابئية‘‘ مشتقّ من الفعل ’صبأ‘، بمعني ’’مال وزاغ وخرج عن دينه‘‘. وقال عن المندائيين في موضع آخر ”إنّما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين“. كما وذكر أن الصابئة والحنفاء هما الفرقتان اللتان كانتا في عهد إبراهيم الخليل وأسهب في الحديث عنهما. أما ابن النديم (ت. ٩٩٠) في ’الفهرست‘ فيذكر انّهم ’المغتسلة‘ أو ’’صابئة البطائح‘‘، في حين أن الطبري (٨٣٨-٩٢٣) استخرج الاسم من جدّهم المدعو ’’صابىء بن متوشلح‘‘.
وفي عصرنا الحديث، ذكر عباس محمود العقاد (١٨٨٣-١٩٦٤) أن الاسم مُحوّر من الفعل ’سبح‘ أو ’غطس‘ في الماء، وهذا بعيد عن الصحّة تأثيليًا. وتشير بعض التفاسير، دون سند يعوّل عليه، إلى أنّهم قوم عدلوا عن اليهودية والمسيحية وعبدوا الملائكة، إنّهم عبدة الكواكب والنجوم (أنظر: محمد على الصابوني، صفوة التفاسير، تفسير للقرآن الكريم. القاهرة، ط. ١، ١٩٩٧، ج. ١ ص. ٥٤، ٣٢٩، ج. ٢، ص. ٢٥٩) أمّا تفسير الجلالين فيقول عنهم مرّة إنّهم من اليهود والنصارى، وفي المرّتين الأخريين انّهم فرقة يهودية. أهل هذه الديانة، يشتقّون اسمهم من الجذر الآرامي ’صبا‘، الذي يعني ’’انغمس في الماء‘‘، كما ذُكر، ومنه المصدر ’مصبتا‘ بمعنى ’’الصباغة، التعميد‘‘. والكلمة ’منداعيون‘ تحوّلت إلى ’مندائيين‘ بانقلاب الصوت الحلقي عين همزة، كما حدث في العديد من اللغات السامية منذ القِدم، كالبابلية والأشورية، ومن ثمّ اللهجات الآرامية والعبربة الحديثة، ومعنى هذا الاسم ’’العلم والمعرفة‘‘، والمندائيون من أصل آرامي، ولغتهم لهجة آرامية شرقية. ويُطلق على رجل الدين عندهم بالناصورائية باسم ’ناصورايي‘، الذي كان يعني في الماضي، كما نوّهنا سابقا، أي ’مندائي‘ ويُرسم الكاهن بزيت السمسم المقدّس، ويمنح الخاتم والتاج والصولجان. ولكل مندائي اسمان، الواحد فلكي/ديني (ملواشه) والآخر دنيوي كما هي الحال عند المسيحيين المشرقيين وغيرهم من الشعوب.

المعمودية تطهير الجسد والروح على حدّ سَواء. إنّها رمز الخلاص والصفاء، ومن الممكن مقارنتها بالمناولة لدى المسيحيين، وبالصلاة عند المسلمين. زِد إلى ذلك، تقديس يوم الأحد والصباغة (مِصْبَتّا وأصلها مِصْبَعْتا)، أي التعميد. والمعمودية في أيّام عيد البنجة/البرونايا، أيّام الخلق الخمسة الكبيسة، تساوي سبعين معمودية، والوفاة في خلالها مباركة، إذ تصل روح الميّت إلى ملكوت السماوات. ويقال عند الاغتسال ’مَصْبُتّه‘: صبينا ابمصبه اد بهرام ربه، ومعناه: تعمدت/اصطبغت بعماد (الملاك) بهرام الكبير، أو ”انش صابى بمصبته شلمى“ أي: كل من يتعمّد بالمعمودية يسلم، إذ أنّ الماء وهو أوّل ما خُلق، ليس رمزًا للحياة فحسب، بل ولحدّ ما، الحياة نفسها أو سائل الحياة. والاغتسال لدى المندائيين هامّ جدّا، وهو مكوّن من ثلاث ممارسات: ’الرشامة‘ أي الوضوء قبل شروق الشمس، ’فالطماشة‘ أي غمس المندائي نفسه في الـ’يردنا‘/الأردن (وحارساه هما: شلماي وندباي)، أي الماء الجاري/الحي/السماوي، ثلاث ـ(ة) مرّات/ارتسامات، ولا حاجة لحُضور رجل الدين، ويتِمّ ذلك لأسباب عديدة، منها التخلّص من النجاسة والخطايا مثل بعد الحيض والولادة ولمس جثة الميّت وبعد المضاجعة والاحتلام، ’’فالصباغة/المصبغة/مصبته‘‘ أي ’التعميد‘، وهي واجب ديني يقوم به رجل الدين عند الولادة وعند الزواج.

وفي ٢٥ من آب ولغاية الأول من أيلول ٢٠٠٢ تمّت مراسم صباغة السيد زيد ماجد فندي المباركي بعدد ٣٦٠ صباغة لمدة سبعة أيام متوالية في بغداد والعمارة. المباركي رقّي من مرتبة ’السوادي‘ إلى مرتبة ’الحلالي‘، أي الانتقال من عالم الظلام (قن ملكته وهي أمّ الروهة وجدّة أور) إلى عالم النور. وتجري المعمودية الأولى عادةً بعد ثلاثين يومًا من الولادة، وعندها يدخل المولود عالم النور. ومن رجال الدين الذين شاركوا في الصبغة يمكن التنويه بـ: شيخ كريم سلمان عريبي، شيخ سلام جبار جثير؛ شيخ مثنى مجيد كلاصي، شيخ خلدون ماجد عبد الله، الشيخ غازي خلف جثير، الشيخ سالم شخير شليبز، الشيخ غسان ذاري البنية، الشيخ ماجد داخل ناصر، الشكندا مقبل كريم ناصر. وحياة المندائي تبدأ بالمعمودية وتنتهي بها، إذ أنّهم يُعمّدون الموتى إثر الوفاة رأسًا، لأنّ الروح تفارق الجسد بعد ثلاثة أيّام، تطوف خلالها في البيت، ويغدو الجسد غير طاهر. كما وأنّ هناك معمودية أسبوعية لغفران الخطايا، وهناك تعميد أواني المطبخ. ولا بدّ من ذكر مناسبة ”دهوا اد مانا“ وهو ذكرى تعميد الآباء: شيت وانوش وسام ويحيى، وتحلّ في آخر الشهر العاشر.

احترام الأنهار وتقديسها سِمة مميّزة للمندائي، ولذلك يسعى أبناء هذه الطائفة للعيش على ضفاف الأنهار أو على مقرُبة منها، والتبوّل فيها يعتبر من الآثام العظيمة، كما ورد في كتبهمِ المقدّسة. ومن المحبّذ إلقاء بقايا الطعام، لا سيّما إثر المناسبات الدينية، في النهر لتغذية الأسماك. والطعام الحلال يشمُل لحم الضأن والطيور والأسماك والنبات الذي له بذر، ويحرّم عليهم لحم الخنزير والحصان والجمل والأرنب والبقر والجاموس.

وطنهم الأصلي

هناك بضعة مطبّات في محاولة رصد بدايات المندائيين (وهناك من يذكر ١١ فرعًا في الصابئة)، ومع هذا يمكن القول إنّها ترجع إلى أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للميلاد، أمّا من حيث الموطن الأصليُّ، فهناك أكثر من فرضية منها: شبه الجزيرة العربية وهذا من المحتمل البعيد جدّا لعدم توفّر الماء الجاري فيها، وهو عنصر أساسي في العقيدة المندائية؛ بلاد الرافديْن، فقد قال البيروني (القرن ١١) وأردشير إنّهم من بقايا القبائل اليهودية التي بقيت في بابل، بعد أن غادرت القبائل الأخرى متوجّهة إلى أورشليم في عهد كورش؛ مصر؛ منطقة أورمي في كردستان؛ القدس وحوض الأردن؛ حرّان الواقعة اليوم في جنوب تركيا. مع هذا، تميل بعض الأبحاث الحديثة إلى القول إنّ الموطن الأصلي للمندائيين كان في بلاد الشام، وربّما في فلسطين على وجه التحديد، ومن هناك اُضطرّوا إلى النزوح إلى بلاد الهلال الخصيب، بسبب ما عانوه من اضطهاد في النصف الثاني من القرن الأول للميلاد، في عهد الملك اردبان الثالث، كما تشير إلى ذلك بعض المخطوطات، التي عُثر عليها في نجع حمادي بمصرَ عام ١٩٤٥. وفي العصر الحاضر، يعتقد الكثيرون من المندائيين أنّ موطنهم الأصلي هو بلاد الرافدين، كما تشير إلى ذلك بعض الأبحاث، ولكن، والحقّ يقال، ما زال البحث العلمي الحديث يفتقر إلى الأدلّة الدامغة في هذا الصدد لشحّة المصادر.

عقيدتهم

كما نوّهنا أعلاه، لا ذِكرَ لمؤسِّس هذه العقيدة الغنوصية القريبة جدّا من السريّة، ونظرتها المتشائمة إزاء العالم (مثل طائفة الإسيين/البحر الميّت والتي تشدّد أيضًا على الاغتسال)، والتي تؤمن بأنّ آدم أبا البشر عليه السلام كان العاقل الأوّل والمندائي الأول، الذي تسلّم التعاليم والصحف من الله. ويمكن القول، إنّ الفترة الممتدّة ما بين القرن الثاني ق.م والقرن الأول ميلادي، كانت مرحلة تكوّن أفكار عديدة في المندائية. وحول الخلق، تقول المندائية إنّه قد تمّ على ثلاث مراحل، وفصلت بين الواحدة والأخرى ىستّون مليون سنة، ومن خلق أول ملك ولغاية خلق الأرض والسماوات السبع، سبعة آلاف مليار وسبعمائة مليون سنة. في البداية لم تكن الأرض لا باردة ولا جامدة، ولا أثر للحياة عليها؛ ثم بردت وغطّتها مياه آسنة/ميّا سياوي، فرّخت كائناتٍ ضئيلة لا حصر لها، تولّدت منها آلاف آلاف الأنواع والأجناس، وقد هاجمت آدمَ الذي هبط على الأرض بأمر الخالق فتراجع، إلا أنّ الله أمره بالتقدّم ليمتلك هذه الأرض. وعندها أجاب آدم بأنّه لن يضع الإكليل على رأسه، فأرسل الله ملاكا (ملكا ماري اسوتا الينا) ليقوم بذلك، وذلك الإكليل من الآس، بمثابة الوسيلة لإيصال النور الإلهي إلى العقل. كما قال الله لآدم: اهبط إلى الأرض حيث الخير والشرّ، وليكن سلاحك عقلك وإيمانك. شيت بن آدم سيأتي في عاقبة الأيّام لإقامة العدالة بين البشر من جديد. ويعتقد المندائيون أنّ الجنس البشري قد تكوّن من أربع ذريات هي: آدم وحوّاء، بعد فناء العالم بالأوبئة وبالسيف جاء رام ورود، بعد فناء العالم بالنار جاء شورباي وشرهبيل، وأخيرًا وبعد الطو*فا*ن أتت ذرية سام بن نوح ونهورايتا (كما هو مذكور في الفصل التاسع عشر من الچنزا ربّا، الكنز العظيم، الكتاب المقدّس عند المندائيين، جهة اليسار، ص. ٣٤١-٣٤٣).
وملخّص قصة الطو*فا*ن القصيرة: استغرق بناء الفُلك ٣٠٠ عام، طوله ٣٠٠ ذراع، عرضه ٥٠ وارتفاعه ٣٠. طاف الفُلك فوق الماء أحد عشر شهرًا ورسا أخيرًا على جبل قردون. أولًا أرسل نوح الغراب ليعرف هلِ انتهى الطو*فا*ن أم لا، إلا أنّه لم يعُد، ثمّ أرسل الحمامة، فوجدتِ الغراب ينهَش جثّة على جبل قردون. التقطت الحمامة غصن زيتون وعادت به إلى نوح. من آونتها وإلى يوم القيامة، لعن نوح الغرابَ وبارك الحمامة؛ وحُفظ الدهر لسام بن نوح ولنهوراتيا زوجته، ومنهما تكاثر الجنس البشري.

معرفة الدين مقتصرة على رجال الدين، والقوّة الغيبية تحدّد تصرّفات الإنسان. وهذه التعاليم مدوّنة في كتب دينية لهذه الطائفة، من أهمّها ’’چنزا ربّا‘‘/كتاب آدم، كما سيتّضح لاحقًا. ويرى المندائيون أنّ يحيى بن زكريا، المذكور ثلاث مرّات في القرآن، هو خاتم أنبيائهم، وهو نبيّهم الرئيس ومجدّد الدين، وهو معلّم وشافٍ ومعمِّد، أمّا النبي الأوّل فهو آدم فسام بن نوح. هناك أوجه شبه عديدة بين المندائية والعقيدة العراقية القديمة، السومرية والأشورية -البابلية، منها المعمودية والوضوء بالماء وتقديسه، ارتداء الملابس البيضاء، تقديس الشمس، وجود اسم ديني للشخص غير الاسم العادي لحمايته من الشرور.

هناك أركان خمسة في هذا الدين غير التبشيري (كالأيزديين، أتباع ايزدان = الله، ويظهر أن التبشير لدى المندائيين كان قد توقّف في بداية نشأة المسيحية بعد تعرضّهم لمذابح من قبل اليهود)، على الأقل، في الوقت الراهن (أنظر: چنزا يمينا ١٥: ٢ وما بعده مثلا؛ ١٦: ٥؛ ٢٢: ٢٠ وما بعده)، وهي: (أ) التوحيد (سهدوثا اد يهيا = شهادة الحيّ)؛ (ب) المعمودية/الصباغة أي مصبتا؛ (ت) والصلاة أي براخا (ثلاث مرّات يوميًّا، قديمًا خمس مرّات، ثلاث نهارًا واثنتين ليلًا كما ورد في چنزا ربّا، ص. ٢٢)؛ (ث) الصوم أي صوما (٣٦ يومًا غير متّصلة) ؛ (جـ) الصدقة المباركة أي زدقا. لاحظ غياب ذكر أسماء الأنبياء واسم الكتاب المقدّس في تلك الأركان. وعن الصدقة التي ينبغي أن تقدّم سرًّا، جاء في الچنزا ربّا ما معناه: أعطوا الصدقاتِ للفقراء واشبعوا الجائعين واسقوا العطاش واكسوا العراة، لأنّ من يُعطي يستلم ومن يقرض يرجع له القرض؛ إن وهبتم صدقة أيّها المؤمنون، فلا تُجاهروا، إن وهبتم بيمينكم فلا تخبروا شِمالكم، وإن وهبتم بشمالكم فلا تخبروا يمينكم، كلّ من قدّم صدقة وتحدّث عنها كافر لا ثوابَ له“.

يُطلق المندائيون على الله الأوحد اسم ’’الحيّ العظيم‘‘ أو ’’الحيّ الأزلي‘‘، وهو الحياة العظمى وله دون غيره الحقّ في استرجاع الحياة من بني البشر، فهو مانحها. وورد في چنزا ربّا: ”لا أب لك ولا مولود كائن قبلك ولا أخ يقاسمك الملكوت ولا توأم يشاركك الملكوت، ولا تجزؤ ولا انفصام في موطنك، جميل وقوي العالم الذي تسكنه“. ومن صفات الخالق، وَفق ما ذُكر في چنزا ربا وأسفار دينية أخرى، ننوّه بالتالية: الحيّ القوي الدائم، رب الصدق، النور الأزلي، الكريم، الرحيم، منجّي المؤمنين، سند الطيبين، القادر، العالم، البصير، الخبير، لا شريك له في الملك، مطلق الطهارة، قُدسي نوراني، صامد، عليم، هادٍ، منزّه من الحسد والبغضاء، مبارك. ومن العظات والتعاليم الدينية: نبذ الرذيلة والكذب؛ عدم التمسّك بمال الدنيا فهي فانية؛ الابتعاد عن عَبَدة الشيطان فمصيرهم جهنّم؛ اجتناب تعلّم السحر ومزاولته؛ احترام الوالدين والأخ الأكبر؛ الإيفاء بالوعد، الصمود بوجه الشيطان والباطل؛ التصدّق على الفقراء والعُميان وعدم المجاهرة بذلك؛ إنّ المجاهرة بعمل صالح لا أجر عليه يوم القيامة؛ الصوم هو غضّ البصر عن النظرات البذيئة والابتعاد عن السيّئات كافّة.

الهدف من الصلاة هو التقرّب من الباري، وقِبلة المندائي جهة الشمال، لاعتقاده بأنّ عالم الأنوار أو الجنّة هناك، وعند الوضوء بالمياه الجارية قبيل الصلاة، تُتلى بعض العبارات، فمثلا عند غسل الفم يقولون: ”ليمتلىء فمي بالصلوات والتسبيحات“، وعند غسل الأذنين يردّدون: ”أذناي تصغيان لأقوال الحيّ“. إذن، الصلاة مكوّنة من الوضوء أو الرسم بالماء (رشامه)، ومن التبريكات (براخه). وصوم المندائيين نوعان: الصوم الكبير (صوما ربّا) وهو على مدى الحياة، وهو تجنّب فعل كلّ ما لا يرضاه الله، إنّه ”صوم القلب والعقل والضمير، لتصمّ عيونكم وأفواهكم وأيديكم، لا تغمز ولا تلمز“ (چنزا ربّا ص. ٢٦) عن السيئات والشرور. أمّا الصوم الصغير، فهو عدم تناول اللحوم في غضون ٣٦ يومًا محدّدا. وعلى الصدقة أن تكون سرّية كما نوّهنا، وهي واجبة على المؤمن.

يؤمن المندائيون بالأنبياء مثل آدم، أوّل أنبيائهم ومعلّمهم الأوّل، ثم ’شيتل‘ أي ’شيت‘ المسمّى بـ ”شيتل طابا“ أيّ ”الغرس الطيّب“ ابنه، وبرسالات الرُّسل إدريس (دنانوخت)، نوح، سام بن نوح المتعبد الخاشع، يحيى بن زكريا الحبيب المرتفع، إلا أنّ جوهر العقيدة، في نظرهم، يتمثّل في رسالة الله إلى آدم. ويعتقد المندائيون أنّ سام بن نوح هو جدّهمُ الأعلى، ونبيّهم بعد آدم ونوح. وتعود علاقة المندائيين بالمسيحيين إلى صلة القَرابة بين النبي يوحنا المعمدان ويسوع المسيح/يشو مشيهه، إذ أنّ كلّ واحد ابن خالة الآخر، وكما أنّ النبي يحيى (يهيا يوهانا) ابن زكريا وأليصابات، كان قد عمّد المسيح في نبع الخرار، الواقع على بعد كيلومترين إلى الشرق من نهر الأردن. وتلعب المعمودية دورًا محوريًا في هذه العقيدة كما أسلفنا. وهناك أيضًا تجنّب تناول اللحم في فترات الصوم. إيمانهم بالحياة بعد الموت راسخ، في عاقبة الأيّام، يجيء آدم السريّ إلى الأرض بشخص كالمسيح، ويكوّن آلة تنشر كل الأرواح من جديد إلى أصولها الخفيّة، إنّه يوم البعث (مسيقتا). ويشار إلى أن ’الشجرة‘ رمز شائع في الأدب المندائي للحياة الالهية، وأرواح المندائيين تعود كعصافيرَ، تحطّ على الأشجار للوقاية من العواصف الحياتية.

كما يرى المندائيّ المؤمن، أنّ الحياة على وجه هذه البسيطة، بمثابة سجن أو وعاء مؤقّت للروح الخالدة (نشمثا)، التي ستتحرّر بعد الموت من الجسم، وتحاسَب حسابًا عسيرًا في يوم الدينونة (يوما دينا)، وللجحيم بوّابات سبع. ويعتقد أنّ النشمثا تنزل من ماء السماء، وتحلّ في جسم الوليد وهو في بطن أمّه، في نهاية الشهر الخامس للحمل. الروح الطاهرة تدخل الجنّة/عالم النور (الما دنهورا) والروح الآثمة فإلى المطهر (المطراثه) مصيرها، عالم الظلام (الما دهشوخا)، حيث ألوان شتّى من العذاب إلى أن تتطهّر. بعد الموت تنقل الروح إلى مكان المحاسبة، اوثر مزينا. الروح لدى المندائيين خالدة، أمّا الجسم ففانٍ. ويعتقد المندائيون بلقاء الزوجين بعد الموت في عالم الأنوار (الما دنهورا)، ويعدّون وجبة طعام على روح الميّت، طعام الغفران/اللوفاني، في اليوم الأول، والثالث، والسابع، والثلاثين، والخامس والأربعين. وفي المندائية، كما في ديانات أخرى كثيرة، حدوث الكوارث أمر ضروري لغسل الأرض من شرور البشر. ولاحظ ما قال أبو العلاء المعرى (٩٧٣-١٠٥٧م.):
والأرض للطو*فا*ن مشتاقة لعلّها من درن تٌُغسل
قد كثر الشرُّ على ظهرها واتّهم المرسل والمرسل

وللروح في العقيدة المندائية مستويان، الأعلى الإلهي ’نشمتا‘، والأسفل ’روها‘ أي ’الروح‘ المرتبطة بالحياة الدنيا وبرغباتها ومُغرياتها، وهي إلى الشرّ ميّالة. وعلى المندائي كبح جِماح هذه النزعة الشرّيرة، بالمعرفة والصلوات، وعمل الخير. ويبجّل المندائيون الملائكة النورانيين الذين يأتون في المرتبة الثانية من حيث القوّة، مثل ’’هِبل زيوا‘‘ أي ’’واهب / حامل النور‘‘، و’بثاهيل‘ وهو ملاك شارك في خلق الكون المادّيّ، بأمر من الحيّ القديم، أما المخلّص والشخصية المركزية في هذا الدين، فهو ’’منده دهيه‘‘ أي ’’معرفة أو هبة الحياة أو الحيّ‘‘. عبر أولائك الملائكة يمنح الله الإنسانَ نعمه.

ذكرنا أنّ هذه الديانة المندائية، ذات شريعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي)، لا تمارس التبشير، أي أنّها لا تقبل أعضاء جددًا من ديانات أو معتقدات أخرى، بل إنّها لا تقبل من خرج منها إلا فيما ندر. وعن التحرّر من الاثم والضلال، ورد في كنز يمينا ١٥: ٩-١٦‏:٥ وما بعده ما فحواه:
’’إذا رأيتم أسيرًا مؤمنًا وصادقًا فاعطوا الفدية عنه وحرّروه، ولكن ليس بالذهب والفضّة وحدهما تحرّرون الأنفس (الأشخاص)، بل تحرّرونها بالصدق والإيمان، وبكلام الفم الطاهر تحرّرون الأنفس من الظلام إلى النور، ومن الخطأ إلى الصواب، ومن الضلالة والعِصيان إلى الصلاة والتسبيح، ومن الكفر إلى الإيمان بربكم، من يحرّر نفسه فستكون له حظوة ومنزلة على الدوام … من يحرّر أسيرًا سيخرج رسول الحيّ لملاقاته‘‘. وقد شُبّه الإنسان الصالح بالكرمة الطيّبة والطالح بالسيّئة. وفي السفر ذاته ١٧: ٤ نجد: ’’كلّ من يحبّ الذهب والفضّة ومقتنيات هذا العالم، ويقوم بج#ريم*ة ق*ت*ل يُرمى في النار الحامية‘‘. ويستطرد السِّفر قائلا بأنّه لا ينبغي الوثوق بالملوك والحكّام وسلطانهم إذ أنّ كلَّ ذلك زائل. وقد بلغ الحضُّ على التفاني في عبادة الربّ ومحبّته حدًّا قال فيه چنزا ربّا يمينا ١٦: ١٠:
’’… كلّ مَن يسلّم جسمه للق*ت*ل بسبب محبّته لربّه فسوف يكون طاهرا دون اثم‘‘. تعتبر المندائية ق*ت*ل النفس عمدًا من أعظم الآثام، والقاتل يطرد من هذه الديانة، ولا تطهير له ولو عُمّد ألف مرّة.

يقول المندائيون إنّ الملائكة، وما أكثرهم، مثل هيبل زيوا، ملكا دخيا، ملكا سغيا، ملكي شلماي وندباي، ملكا شامش، تجسّد أوّل مظهر من مظاهر الحياة والخلق، الذي انبثق بأمر الباري ’’هيي ربي‘‘، أي ’’الحي العظيم‘‘، والملائكة كائنات مقدّسة، واجبها تنفيذ مشيئة الرب العظيم. ويعتقد المندائيون أنّ هناك مخلوقات حيّة في الكواكب والنجوم وهي أرواح ثانوية تحت إمرة ملك النور/ملكا دنهورا، وهي صاحبة الحلّ والربط بالنسبة لمصائر البشر. ولتلك الكواكب تأثير على المصير وعلى البشر وإليها تتجمّع الأرواح بعد الموت. ومقابل أرواح الخير هذه، هنالك أخرى شرّيرة؛ هناك شامش الخير، رمز الخصب من جهة، ومعه أدوناي (الشمس) المهلك من ناحية ثانية. ومن الجلي أن الانسان القديم (آدم كسيا) كالمندائي كان قدِ اهتمّ كثيرا بتحرّك النجوم والكواكب، فحياة البداوة تتطلّب ذلك، والكتاب المقدّس لدى المندائيين ’’چنزا ربّا‘‘ يحرّم التنجيم والسحر، ففيه تجد: ’’لا تقصدوا السحرة والمنجّمين والعرّافين والكاذبين والمتلفّعين بالظلام‘‘.

ويُذْكر أنّ المندائي لا يؤمن بأيّة رموز دينية أو صور أو إيقونات، ولكنّه يؤمن بالملائكة ويوم الأحد هو اليوم المقدّس، يوم الراحة لديه. وتُقام المعمودية في هذا اليوم، ومن خلالها يمكن الوصول إلى عالم النور، العالم الآخر. وفي الكهنوت المتاح لكلا الجنسين، ثلاث درجات: الكاهن العادي (ترميدي) والمطران (چنْزبري) ورئيس الشعب (رِشاما). وعلى الكاهن أن يُرخي شَعر رأسه وذقنه. الكهانة وراثية في الغالب الأعمّ، وهي آخذة بالتضاؤل من جرّاء مستجدّات الزمن، وعلى كل كاهن أن تكون والدته عذراء عند زواجها، وأن يحفظ عن ظهر قلب سدره اد نيشمتا أي كتاب الأرواح والقدّاس الكامل للمسخثه. كما وهنالك إحدى وعشرون كلمة سرّية على الكاهن الجديد أن يتلقّنها في خلال أسبوع. وبما أنّ لتلك الكلمات قداسة فائقة، فلا يستحلّ التلفّظ بها بل يخطّها الكنزبرا/الكنزفرا/الچنزاورا على التراب.

الله عند المندائيين هو إله النور، في حين أن الإلهة ’روحا‘ الشرّيرة كانت قد أقامت في القدس، ومنها تحدّر يسوع المسيح الذي خالف يوحنا المعمدان، وابتعد عن تعاليمه كما يدّعون. ومن المحظورات أو المحرّمات في هذه العقيدة: التجديف باسم الخالق، الق*ت*ل، الزنا، السرقة، الكذب، شهادة الزور، عصيان الخالق، الحسد والنميمة، الشهوانية، خيانة الأمانة، الشعوذة والسحر، الختان، المشروبات الروحية، الربا، النحيب على الميّت وارتداء السواد، تناول لحم الحيوان الميّت أو الذي في جوفه جنين، الطلاق إلا في حالة إثبات زنا أو حالة مغادرة العقيدة المندائية، الا*نت*حا*ر، الإجهاض، تلويث الطبيعة والأنهار، الطلاق (إلا في حالات معيّنة)، الرهبنة، الزواج المختلط، تعذيب النفس وإيذاء الجسد. موقف الإسلام، سُنّة وشيعة، إزاء الديانة المندائية غير موحّد، هنالك اختلاف مثلًا بصدد قضية جوهرية: هل المندائيون من أهل الكتاب أم شبه الكتاب، أكثر المتشدّدين ضدهم هم فقهاء الشافعية. لدى المسلمين ترد الرحمة صفة أولى لله، في حين أنّ المندائيين يجعلون الحياة في المرتبة الأولى. وفي السنة المندائية اثنا عشر شهرا، وفي كل منها ثلاثون يومًا، تضاف إليها خمسة أيام كبيسة تسمّى بروانايا أو البنجه قبل الشهر التاسع.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!