الحوار الهاديء

إحياء الأعياد الغابرة بدعة سياسية أم مشاعر صادقة / عيد أكيتو نموذجاً

الكاتب: الدكتور صباح قيا
د. صباح قيا: إحياء الأعياد الغابرة بدعة سياسية أم مشاعر صادقة / عيد أكيتو نموذجاً

رن جرس الهاتف وأنا في مكتبي في مستشفى الناصرية صباح  يوم من  أيام النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي . كان محدثي على الخط زميلاً وصديقاً لي يشغل منصب مدير مركز التأهيل الطبي في بغداد . أخبرني أن الكادر التدريبي الدانماركي في مركزه بطريقه لزيارة الزقورة والمناطق الأثرية الأخرى , وهل بالإمكان تكليف أحد العاملين معي  بمرافقتهم حال وصولهم ولحين مغادرتهم  . كان له ما اراد …. إلتقيت مساءً مع من رافقهم والذي بدأ ينقل لي ساخراً مشاهداته وملاحظاته عنهم , وعن اهتمامهم  العجيب بما منقوش على الصخر وما منثور هنا وهنالك من أحجار وأكوام ترابية , ودهشته من جديتهم في النقاش فيما بينهم ومقارنة ما يرونه مع ما مدون في الكتب التي بحوزتهم … وختم استهزاءه بجملة : دكتور هذوله بطرانين … نعم يصر على كونهم ”  بطرانين ” , حيث لم يسبق لأحد منا , نحن الغرباء عن المدينة , حتى بمجرد التفكير بالقيام بمثل هذه الزيارة والإطلاع على المكنونات الثمينة لحضارة وادي الرافدين والتي يتمتع بها الغريب ولا يابه لها القريب ….. ألحقيقة لا بد وأن تذكر : ألشخصية العراقية بطبيعتها غير ميّالة لتفقد الآثار القديمة , ولن يثيرها بجد ما موجود في قاعات المتاحف سواءً الوطنية منها  أوالعالمية . ألسؤال الآن : من الذي اصطحب عائلته أو دخل بنفسه أو مع أصدقائه متحفاً ما في بغداد ؟ .. فمن دار في أروقته لم يكن غالباً بخياره  , وإنما مع الرحلة المدرسية أو بمهمة رسمية أو شبه رسمية … أقولها بصراحة , حتى زيارتي مع زملائي أو عائلتي المتحف البريطاني في لندن او متحف اللوفر في باريس لم يكن جدياً بل هامشياً ولمجرد التباهي بذلك  ” أي حشر مع الناس عيد ” , وكنا نمر على ما معروض مرّ الكرام كما يقال ’ ونقف قليلاً أمام مسلة حمورابي والثور المجنح وقوفاً تفتقد عظمتهما التاريخية ما تستحقه من مشاعر صادقة  وتقدير عميق … وكذلك الحال خلال حضوري المؤتمرات الطبية خارج الوطن عندما تكون زيارة المتاحف ضمن منهاجها الإجتماعي … هذه هي التربية والثقافة التي جبل عليها الإنسان العراقي والتي لا يمكن إنكارها بل لا بد من الإقرار بها وإيجاد السبل الكفيلة بغرس وتنمية غريزة تذوق الأطلال وإبداعات الأجداد منذ الصغر …
 وعلى النقيض من ذلك , يتميز الفرد العراقي بغض النظر عن دينه أو مذهبه بتمسكه الفطري ورغبته الجامحة بزيارة المراقد الدينية , ودور العبادة القديمة والمهجورة , ومثوى الرموز والشخصيات التي نذرت نفسها لخدمة المعتقد  ,  وهذا ما يظهر بوضوح في تسابق أبناء شعبنا المسيحي  للسفر إلى الأراضي المقدسة وإلى كافة الأماكن , أينما وجدت في أرجاء المعمورة , والتي تزخر بذكرى قديس , أو تنفرد بحدوث أعجوبة , أو تتميز ببناء يعانق فيه الفن المعماري أوالتشكيلي الإيمان بعظمة الخالق ورحمته … يتبادر الآن السؤال : لم هذا التناقض ؟ وهل إزدواجية السلوك العراقي تنعكس حتى على ما يستهويه من الماضي وما لا يستهويه ؟ ألجواب بكل بساطة : إنه تأثير الدين الجديد الذي نقله من عابد للأوثان إلى مؤمن بخالق السماء والارض وكل ما يرى وما لا يرى , وبذلك تنتفي الحاجة للتعلق بما مضى , ويبدأ العمل لنشر كلمة الرب . هذا الذي حصل ,  وعلى دربه سقط الأخيار وسقت دماؤهم الزكية تربة بين النهرين …. وما حصل بالأمس ما يزال اليوم .
كم من مرة يقال : ألتاريخ يعيد نفسه . فهل حقاً التاريخ يعيد نفسه ؟ أم ان هنالك من يعمل وقد يستميت لعودته كما يحلو له  ؟ … عاتبني احد الأصدقاء : لماذا لم أهنئ بعيد ” أكيتو ” والذي يعتبر ” عيد السنة البابلية ” من وجهة نظره . أعترف بجهلي بهذا العيد الذي لم يسبق لي سماعه  إلا بعد ان اصبحت أحد رواد مواقع شعبنا وبالتحديد خلال السنوات الثلاث الأخيرة . أثارت المعاتبة فضولي فرحت أبحث بين الشبكات العنكبوتية عن هذا العيد الجديد الذي حلّ عليّ من حيث أدري ولا أدري . تأكد لي حقاً بأنه من أصلٍ بابلي ’ ورغم ذلك احتفل به الآشوريون والفرس أيضاً … أختفى هذا العيد مع المظاهر الوثنية الأخرى بعد أعتناق الأقوام الرافدينية المسيحية كما أسلفت أعلاه ’ ليظهر مجدداً مدعوماً بالتنظيمات السياسية المرحلية , وترفرف عليه رايات دولة منقرضة , وتتنافس لكسب وده قيادات همّها ” ألأنا ” …. ألملفت للنظر أن الإحتفال به يطغي عليه الطابع الآشوري رغم اصله البابلي حتى في قرانا ومدننا الكلدانبة , وذلك بسبب النشاط السياسي الأشوري المتنفذ في تلك المناطق على حساب الإنحسار الكلداني الناتج عن شرذمتهم رغم تفوقهم عددياً بأضعاف … وهذا ما جعل المسؤولين في الدول يشيرون له عند الإحتفال بذكراه وكأنه عيد آشوري رغم كونه خلاف ذلك … صحيح أن ألآشوريين كالفرس إحتفلو به أيام زمان , ولكنه مقتبس من حضارة سومر وبابل …من البديهي أن موقف الدول ينبثق مما موجود على الساحة , ويجب الإعتراف بأن الساحة السياسية العراقية يشغلها الآشوريون رغم قلة عددهم , وإن الرايات الآشورية هي السائدة  في الأجواء في الأول من نيسان وعليه يشار لهم بالتهنئة . أما الساحة الدينية فيطغي عليها الثقل الكلداني , فلذلك دعي غبطة البطريريك لويس ساكو ليمثل مسيحيي العراق في مجلس الأمن ولم توجه الدعوة لسواه  … هذه الحقائق يجب أن يعيها المهتمون بالجانب القومي من الكلدان ويتعاملون معها بهدوء ….
يبرز الآن تساؤلي : هل الإحتفال بذكرى ” عيد أكيتو ” بدعة اخترعها ويروج لها ساسة هذا العصر  ؟ أم أنه حقاً مشاعر نابعة ممن يرقص له ً بصدق وليس للدعاية والإعلان ؟ … أعود بذاكرتي إلى الناصرية التي عملت فيها حوالي أربع سنوات … إعتاد أهلها أن يخرجوا في ربيع كل عام إلى الحدائق والساحات والمتنزهات مرتدين ملابس براقة , وتبدو عليهم مباهج الفرح والسرور , منهم من يرقص , وأخر يغني , وثالثة تأكل , ورابعة تستمع بمظاهر المرح … ظن زملائي أن الأهالي  يحتفلون مع الفرس  , ولكنهم استبعدوا الفكرة بعد أن تيقنوا بأن ما من أحد في الناصرية يتجرأ بمجاملة  الفرس والحرب مع العراق على أشدها . وأيضاً لم يكن الإحتفال مناسبة شيعية ’ وإلا احتفلت المحافظات الأخرى ذات الغالبية الشيعية به في نفس الوقت . إستفسرت من بعض مرضاي عن المناسبة … أخبروني أنها دورة السنة وقد تعودوا الإحتفال بها منذ القدم , وبصراحة لم يحدد لي  أي واحد منهم مصدرها … أستطيع حالياً ان أربط ما رأيته في أرض ”  اور الكلدان ” بما يحصل الآن … ” اور الكلدان ”  تحتفل بعيد ”  أكيتو ” بكل جوانحها من غير أن تعلم عنه … نعم في الناصرية فندق من الدرجة الأولى باسم فندق ” شبعاد ” , وفيها محلات تحمل إسم ” اريدو ” و ” أكد ” . كلها أسماء سومرية … في الناصرية اليوم من يجاهر بفخر أنه كلداني  , ومن يحيي معارفه بكتابة ” تحية سومرية ” . لو قدّر للمسيحية أن تكون هنالك لأعلنت استقلالها كدولة مسيحية كلدانية … في الناصرية احتفال عفوي بعيد ” أكيتو ” بمشاعر قلبية عميقة وصادقة , سيستمر وسيتمدد  . حقاً يستحق أن يسمىّ  ” عيد حضارات وادي الرافدين ” . فهل من يزايد عليه اليوم يحمل هذه المشاعر أم نتاج  بدعة سياسية مرحلية ؟ . ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!