الحوار الهاديء

أحزابُنا وإشكاليتُها

لويس إقليمس      

 

 

أحزابُنا وإشكاليتُها

لويس إقليمس

بغداد، في 20 حزيران 2019

في بانوراما سريعة حول طبيعة الأحزاب القائمة هذه الأيام في عراقنا وما تسعى إليه زعاماتُها والمنتمون إليها في ضوء ما يحصل من تراجع في نضج الفكر السياسي والأداء الوطني، أرى من الضرورة بمكان أن يُصار للتنبيه لإيجاد صيغة منطيقة وواقعية لقاعدة وطنية تحدّد هذه الطبيعة وتوضّح نطاق العمل وما تستنفرُه هذه من موجبات العمل الحزبي. فالغرابة كلّ الغرابة أن تتسع أعدادها بطريقة جنونية لتنتشر كالأميبا بعد الغزو الماكر للبلاد في 2003 من دون قيود أو لوائح.

إنَّ أيّ حزب سياسيّ ضمن تكوينه ووصولاً لتهيئة الطريق له للعمل في الخضمّ السياسيّ، لا بدّ ان تكون له رؤية عن الوضع السياسيّ في البلد وعن تطلعات الشعب وطبيعة المتنافسين وتوجهاتهم. فهذا يسهّل عمله وسط الجمهور ويمنحه قوّة وزخمًا لكسب التأييد والأتباع. أي بمعنى آخر، يسجّل ضمن أهدافه ما يطمح الوصول إليه وتحقيقه في مشواره السياسي مهما طال أو قصر. وبالتأكيد هي السلطة والنفوذ والجاه والمال والمناصب هي ما تسعى إليه معظم الأحزاب هذه الأيام إنْ لم يكن هدف جميعها من دون استثناء. فيما الصورة مغايرة في بلدان تجاوزت أزماتها ووصلت إلى النضج السياسي والوعي الفكري في تقييم أوضاع بلدانها وحاجات شعوبها، ليس في وضع استراتيجيات في قيادة البلاد سياسيًا، بل وعسكريًا واقتصاديًا وعلميًا وفنّيًا وتربويا، وباختصار في سائر دروب الحياة ومضامينها وقطّاعاتها ومجالاتها.

هناك أحزاب تصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وهذا هو الأمر الطبيعي لمسار الديمقراطية وتداول السلطة. وبغير هذه، هناك أحزاب أخرى تفضّل السير عكس هذا التيار الحضاري مستخدمة أساليب الترهيب والترعيب والقوة من أجل بلوغ الهدف. لكنّ مثل هذا الأسلوب من التوق غير النظيف والشهوة الجامحة للسلطة، لا بدّ أن يطيح به الزمن ولو بعد حين. وهذا ما أثبتته الوقائع في العديد من المناطق والدول التي شهدت مثل هذا السلوك غير الحضاري للوصول إلى السلطة. وخير شاهد على هذه الأمثلة، ما شهده العراق ودول عربية وإسلامية وأفريقية من انقلابات عسكرية فرضَ فيها أزلامُها سطوتهم وجبروتهم وطغيانَهم لفترات ثمّ آنَ لهم أن يسقطوا بفعل ضربات الشعب حين يصحو أو بغيرها من الوسائل، وما أكثرها. وهذا ما تنتظرُه البلاد من صحوة شعب غارق في سبات منذ الغزو الأمريكي أيضًا.

من المفروض بأي حزب سياسيّ يتم تشكيله أن تكون رؤيته مبنية على ركائز وطنية أساسية يعمل بموجبها على كسب ودّ الناخب من خلال إقناعه ببرنامج وطني واضح وغير ضبابيّ يخدم شرائح معينة من الشعب، إن يكن كلّ فئات الشعب. والحزب الناجح هو الذي يفكر بشمول كافة شرائح المجتمع ويستفيد من آراء وتطلعات مؤيديه ورافضيه على السواء، ويعمل على دمجها مع برنامجه وتوظيفها من أجل تحقيق نجاح على الصعيد الوطني وتطوير المجتمع ونقله من حالة ركود وفساد وتراجع إلى حالة أفضل في الخدمات وترسيخ اللحمة المجتمعية وإبراز دور البلاد بين جيرانها وفي المنطقة وعلى صعيد الدول قاطبة. وهذا لن يكون في المنال، إلا إذا وضع هذا التنظيم مصلحة الشعب والبلاد في أولويات عمله التنظيمي كي يكسب ودّ الجمهور وتزداد فرص تقبّله من قبل الشعب وشرائحه المتنوعة في الفكر والاتنية والتوجّه دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وخدميًا. وهذا التوصيف قلّما نجده في الأحزاب العاملة في منطقتنا، وبالذات في بلادنا. كما أنّ أيَّ حزب لا يعمل ضمن إطار القانون والدستور والتشريعات، لن يُكتبَ له النجاح في مسيرته وأهدافه، حتى لو استطاع لفترة فرض سطوته بأدوات مشبوهة وغير حضارية.

معظم أحزابنا السياسية العاملة على الساحة اليوم أو بالأحرى تلك التي تدّعي المعرفة والعمل بالسياسة، خارجة عن الإطار الصحيح لتشكيل تنظيم سياسيّ يهدف لخدمة البلاد والشعب. وهذان هما العنصران الأساسيان اللذان ينبغي أن يهدف لهما تشكيل أي حزب سياسيّ ذات أهداف نبيلة وواضحة. فمنذ بداية تشكيل الأحزاب في العراق، هناك تنظيمات لم تستطع الوقوف على قدميها لفترات طويلة بسبب إشكالية أهدافها وعدم قربها من الجمهور وابتعادها عن تطلعات هذا الأخير وانعزالها في بوتقة مصالح خاصة او ضمن أهداف دينية ضيقة الأفق أو نتيجة حتمية لالتصاقها بشخص زعيم الحزب وشلّته حصرًا، ما شكّل في عملها غير المتزن فجوات وثغرات كبيرة لم تسعفها في إكمال المشوار، فسقطت وتلاشت أو إنها في طريقها إلى الزوال والتلاشي.  

يقابلها أحزاب سلكت سلوكًا ضيقًا في تنظيماتها بالاعتماد على متحسسات عرقية أو دينية أو طائفية أو قومية أو مذهبية أو عشائرية أو شعبوية متزمتة أو راقصة تارة بين اليمين واليسار وفق طبيعة المصالح التي تحكم البلد. وهذه أيضًا، لم يُكتب لها النجاح. ومن هذه الأصناف من الأحزاب ما هو قائم اليوم بعد الغزو وسقوط نظام الحزب الشموليّ الذي كان تسلّط هو الاخر وجثم على صدور العراقيين فترة من الزمن، وكاد أن يكون حزبًا عشائريًا وعائليًا ما أوصله إلى نهايته المهلكة بالطريقة التي رأيناها وخبرناها. والسبب تحوّل حزب البعث من تنظيم عقائدي في بداياته، إلى شكل تجمّع أو شرذمة من أشخاص يدينون بالولاء لشخص القائد الأوحد ومَن حولَه بعيدًا عن سلوكيات الديمقراطية والعقائدية الحقيقية التي نشأ عليها التنظيم في بداياته.

أحزابٌ دخيلة وأخرى غير ناضجة

اليوم، تكاد ذات الصفات تتكرّر، وذات السلوكيات تعود إلى المشهد بعد الغزو. فقد وصلت أحزاب ضيقة الأفق إلى الحكم وهي لم تكن صاحبة خبرة سياسية، بل جاءت بها إرادة الغازي الأمريكي أو بدعم من دول إقليمية لها أجنداتها، لا لشيء بل لكونها ستساهم أو ساهمت فعلاً في إسقاط النظام السابق وفي الاستحواذ على مقدّرات الدولة وتوجيهها وفق سياساتها ومصالحها الضيقة. وهذا ما سعت إليه الإدارة الأمريكية بعيدًا عن المصالح الحقيقية للشعب والبلاد عندما تركت الساحة مفتوحة لكلّ مَن هبَّ ودبَّ كي يأخذ قسطه من الكعكة سياسيًا واقتصاديًا وماديًا. فما كان من هذه الأحزاب إلاّ تنامت وبلغت أعدادًا فاقت مئتي حزب أو ربما أكثر من ذلك. وهذا هو الغريب في الأمر، بل الكارثة في جهل تبنّي فكرة أين تكمن مصالح البلاد برصّ الصفوف وليس بالتشرذم على حساب المصلحة العليا للوطن والشعب.

من هذه الأحزاب الغريبة والدخيلة، نذكر الإسلامية منها، التي فشلت فشلاً ذريعًا في إثبات صحة برنامجها الإيديولوجي ونزاهتها وصدقيتها في خدمة البلاد والعباد مستغلّة تعاطف فئات بائسة من الشعب في كسب ودّها وتأييدها لجانب إسلامها السياسي مستخدمة ومستفيدة من الوازع الدينيّ ليس إلاّ. ومازال الدق على الوتر الدّيني من قبلها من صفات المرحلة بالرغم من كشف المستور فيها وعند القائمين والمدافعين عنها. وهناك الأحزاب المذهبية التي كرّست الطائفية وأزاحت كلّ مَن يقف في طريقها حين تولّت السلطة لفترة طويلة. وهذه الأخرى فشلت أيضًا ولم تستطع ترميم البيت العراقي، بل تركت جروحًا بليغة في قلوب العراقيين وخيّبت آمال الوطنيين الصادقين وهمّشت مكوّنات أصيلة وتسببتْ بأكبر كارثة وطنية نجم عنها تسليمُ أكثر من ثلث أراضي البلاد بأيدي شرذمة خرقاء أرادت العودة بالحياة إلى غياهب العصور المظلمة والجاهلية. ومازالت مدن وقصبات كثيرة تعاني من جسامة الدمار والخراب والتهجير والنزوح والسبي والاغ*تصا*ب من دون محاسبة حزب السلطة الحاكم آنذاك.  

وهنا لا بدّ من تمييز تيارات دينية تدعمها مرجعيات محلية وأخرى من خارج الحدود. وهذه أخذت مع مرور الأيام بانتهاج سبل الترهيب والترعيب في المجتمع عبر تشكيلات مسلحة وأزلام جاهزين لفرض إرادة القيادة والمرجعية التي يتبعونها. وبالرغم من تحولها لاحقًا إلى تنظيمات سياسية، إلاّ أنها مارست الهيمنة القسرية على الساحة السياسية وفرضت أجنداتها ورموزها بتولي مراكز مهمة في الحكومات المتعاقبة بعدما حوصرت فكريًا وسياسيًا ووطنيًا بخيارين لا ثالث لهما. والأنكى من هذا كلّه، أنها تحوّلت مع توالي الأيام والأحداث إلى غول في التنافس على المكاسب، وأصبحت تشكّل مراكز قوى خطيرة على الحكومات المتعاقبة. أي أنها بالمختصر، أصبحت تشكل حكومات عميقة داخل حكومة المركز وتهدّد كيانها وتفرض ما تريده على أرض الواقع، ولا حسيب ولا رقيب ولا سلطة للدولة عليها وعلى أفعالها وسلوكياتها.

فيما نجد هناك أحزابًا تقليدية اتخذت طابع الفكر والفلسفة والثقافة في نهجها اليساري مستفيدة من تجارب الأحزاب الاشتراكية في المنطقة والعالم مثل الحزب الشيوعي عبر نضاله الطويل. وهذه بالرغم من عدم حصولها على موطئ قدم عميق في العملية السياسية منذ إنشائها ولغاية الساعة، إلاّ أنها تستحق أن يقالَ عنها أنها تحمل قسطًا من الوطنية في تاريخها النضالي لما تتمتع به من رؤية بانورامية واسعة وثقافة متقدمة حول الأحداث وموجبات الحياة ومستلزمات الولائية للوطن والالتصاق بالشعب أكثر من أحزاب الإسلام السياسي الذي استغلّ طابع الدّين والمذهب لكسب التأييد والبقاء في السلطة. يقابلها أحزاب عشائرية اتخذت من شخوص العائلة منهاجًا لعملها مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي مازال يتداول السلطة بين أفراد العائلة الواحدة بعيدًا عن معايير الديمقراطية التي يتسمّى باسمها. تقابلُها أحزاب أخرى اتخذت من الليبرالية والنضال من أجل الحرية وتقرير المصير والوطنية سندًا وشعارًا. وهذه تمثل بقية الأحزاب التي لا تتطابق وجهات نظرها مع الحزب الحاكم، بالرغم من مشاركة بعضها في الحكومات المتعاقبة وفق مبدأ المحاصصة.

أمّا بقية الأحزاب القومية، العروبية منها والكردية والمدّعية بتمثيلها لمكوّنات أخرى ناشطة كالتركمانية، فهي في أغلبها رهن بأيدي زعاماتها التي تفرض شيئًا من العبادة والتبعية لشخوصهم والولاء لهم قبل أن تكون للحزب الذي ينتمون إليه. أي بمعنى آخر، تم اختزالُها بشخص زعيم الحزب والولاء له أكثر من الاهتمام بالمبادئ التي أتى بها أو تلك التي رسمها في بداية مشواره. وهذه السمة أي عبادة الأشخاص تكاد ايضُا ترسم مسيرة العديد من الأحزاب المتواجدة والعاملة على الساحة العراقية بعيدًا عن المعايير الديمقراطية وذلك بتأثير الدّين والمذهب والطائفة في الكثير من الأحيان. كما يؤخذ عليها تأثرها بشعارات تقليدية لا تنمّ عن تطوّر في الفكر والطرح والعمل. وهذه من ضمن الأسباب التي خلقت خيبةً وسدودًا بينها وبين أوساط العامة ومنهم الطبقة المثقفة التي فقدت ثقتها بما تطرحه من شعارات فارغة جامدة وبما تعطيه من وعود عرقوبية للناخبين حيث يزداد نشاطُها إبان فترة الانتخابات ثمّ تختفي وتنحسر في كواليس المكاسب والمصالح. كما يُؤخذ على الكثير من الأحزاب المتواجدة على الساحة العراقية ارتباطُها بدول إقليمية أو خارجية في تبعيتها السياسية والاقتصادية والمذهبية، ما يبعدها عن الاستقلالية في تنفيذ برامجها واستراتيجياتها، هذا في حالة كان لها برامج واضحة واستراتيجيات أصلاً. ولا حاجة بنا للتطرق إلى الأحزاب المكوّناتية التي تدّعي تمثيل المكونات الأصيلة المتبقية القليلة العدد مثل الأحزاب المسيحية والإيزيدية والصابئية وغيرها إنْ وُجدت. فهذه لا تأثير لها لكونها خاضعة أو تابعة بطريقة أو بأخرى لأحزاب أو زعامات كبيرة في البلاد، وقد فقدت مصداقيتها وأهميتها في كلّ الأحوال.

من هنا، لا بدّ للشعب العراقي أن يعي حجم الكارثة التي أوقعته فيها خارطة هذه الأحزاب غير النظامية وضيقة الأفق ومحدودة الفكر، وخاصة تلك اللاّهثة وراء مصالحها الضيقة والعابثة بمصير البلاد والعباد والمتصارعة على المناصب والمنافع من دون كلل ولا ملل. فالدرس بليغ ومازال القرار بيد الشعب ومثقفيه وما تبقى من الوطنيين في البد.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!