مقالات

حقائب الذاكرة؛ شربل قطان

حقائب الذاكرة رواية لشربل قطان تقع على متن 230 صفحة من القطع الكبير، وهي من اصدارات نوفل دمغة الناشر هاشيت انطوان بطبعتها الاولى 2010 والثانية 2013.

تدور احداث الرواية حول خمس من الحقائب الضائعة في مطار بيروت، هذه الحقائب يسميها الموظفون المختصون في المطار بالحقائب اليتيمة؛ وهي الحقائب المحفوظة في غرفة خاصة في جمارك المطار منذ ازمنة متعددة ولم يتم التعرف او العثور على اصحابها.

في هذه الرواية تظهر لنا الصورة القبيحة للحرب على لبنان وتأثيرها بوجه خاص على حيوات الناس ابتداء من حكاية ايهاب بطل الرواية؛ ذلك الفتى الصغير الذي تربى يتيما في ملجأ للاطفال يشرف عليه الدير، وصولا لاصحاب تلك الحقائب ومصائرهم وحكاياتهم ومسار حياتهم الذي حددته الحرب، فمنهم الكاتب الذي فقد كتابه، ومنهم رجل الأعمال الذي اختطف بسبب إصراره على إسعاد ابنته، ومنهم المحامي الذي قُتل بعد حصوله على دلائل براءة متهم، وآخر فلسطيني لاجيء كان ينوي الهجرة تحقيقا لرغبة والدته رغبة بحفظ نسل العائلة التي استشهد جميع افرادها، لكنه قرر البقاء في لبنان والانضمام إلى المقاومة بدلًا من الهجرة، وتقضى والدته حياتها وهي على وهم هجرته الى السويد، بينما هو لم يكن يئلو جهدا في التواصل مع امه التي كان يراسلها من زنزانته في السجون الاس*رائ*يلية على اثر اعتقاله في عملية فدائية ، والمأساة الكبرى ان الرسائل الباغ عددها ستماية رسالة لم تكن تصل للام وبقيت حبيسة صندوق الصليب الاحمر؛ كون الام قد غيرت مكان سكنها من مخيم الى مخبم، وبسبب تغيير اسم عائلتها حيث عادت الى اسم عائلتها القديم قبل الزواج، فعلت ذلك لتقطع السبل في وجهها وكي تحصل على معونات من الوكالة [المؤن] اكثر.

وتبقى المفاجأة الاكبر في معرفة من هو صاحب الحقيقة الخامسة والتي تبوح بها سطور الرواية في النهاية…

بطل الرواية ايهاب علام يعمل موظفا في المطار في قسم التفتيش، يتم نقله الى قسم الجمارك حيث الحقائب الضائعة ، وهناك يعمل تحت امرة مديره متري الذي يطلعه على تفاصيل عمله وعلى موضوع الخمس حقائب اليتيمة او الضائعة ويحفزه لمعرفة اصحابها والعثور عليهم بغية ايصال الحقائب والامانات اليهم رغم مرور عشرات السنيين على وجود البعض منها.

لم يسعد ايهاب بداية في نقله من عمله في قسم التفتيش في المطار؛ اذ ان هذا العمل على رتابته وتواضعه إلاّ انه كان يوفر فرصة له للاطلاع على كشوفات القادمين والمغادرين من والى المطار، بالاضافة الى قدرته على الولوج الى سجلات المطار القديمة لمعرفة كل القادمين والخارجين وكان لايهاب سببه الوجيه في ذلك، فقد كان يبحث عن اباه الذي سافر وانقطعت اخباره خارج لبنان.

يبدا ايهاب بالاقتناع بعمله الجديد ويبدا الدخول الى عوالمه بتشجيع من متري ورغبة دفينة وكامنة في نفسه سرعان ما تتضح لها ابعادها واسبابها عبر مضي صفحات الرواية.

فايهاب هذا الموظّف المسالم والّذي فقد أباه وهو طفل صغير في ظروف غامضة في بداية الحرب الاهلية اللبنانية، كرّس حياته للبحث عنه، وكأن عزلته ومرباه يتيما بدون اصدقاء دفعت به للتمسك بشعاع امل في معرفة اصله ونسبه وعائلته، فكونه تربى يتيما في دار رعاية للاطفال في الدير تركت اثارها جلية على ايهاب، ولكن الاهم انها تركت بداخله ذلك الامل الذي لا يموت في بلد دمرته الحرب الطاحنة وسلبت من ابنائه امالهم واحلامهم واستقرارهم وطفولتهم وقذفت بها نحو الجحيم او ذهبت بهم نحو المجهول.

يقرر بطل الرواية [ايهاب] المواظبة على عمله في المطار ولاجل ذلك يقرر اثناء عمله السير بخطين متوازيين، ان يتابع رحلة البحث عن ابيه المفقود مستفيدا من الامكانيات والخطوط التي يوفرها عمله في المطار قريبا من قاعدة البيانات والسجلات، وفي نفس الوقت يقرر أن يحلّ لغز الحقائب الخمس في المطار “حقائب اليتامى” .

وفي سبيل حل لغز الحقائب الخمس لابد من الامساك باول الخيوط الحقائب نفسها من خلال فتحها وفك الطلاسم ويربط الرموز ويحللها ويتابع اشاراتها ومعانيها بغية الوصول الى صاحب كل حقيبة وهنا بالذات تتجلى روعة الرواية؛ فداخل كلّ حقيبة حكاية، ترويها الأشياء والمقتنيات الموجودة بداخلها، واثناء فك طلاسم المقتنيات وتتبع الخيوط التي تبوح بها الاشياء تنسج خيوط الرواية وتتشكل الاحداث حتى تكتمل الحبكة وتبدا بعدها خيوط الرواية واسئلتها بالبوح باسرارها وهنا بالذات يكمن التشويق في الرواية..

ومع إكتشاف صاحب كلّ حقيبة، تكتمل قصّة مختلفة، عُلِّق مصيرُها في فصل من فصول الحرب، اذ يتبين كم من مصير او لقاء محتوم ذهبت به الحرب الاهلية في لبنان الى الجحيم او المجهول او الغياب او التغييب او الهجرة او اليتم او حتى الموت .

يجد ايهاب مصائر الحقائب ويعيدها لاصحابها وفي كل حقيبة قصة وحكاية تروي سطورها صفحات الرواية؛ وليس هذا وحسب؛ بل يجد “إيهاب” ذاته، وينجح في إستعادة طفولته المسلوبة وتتشابك الاقدار في تجميع خيوط الحكايات وربطها في وصوله لمعرفة مصير اباه وتلك قثة اخرى تبوح بها فصول الرواية.. فخلال تتبعه لارقام واحرف منقوشة على مقص شعر تقوده الخيوط وتسير به الاقدار الى قرية زحلة في محاولة منه للوصول الى دالة هذا المقص، وهنا بالذات تحضر الحكاية والمفاجأة الكبرى ..وتكتمل أيضّاً قصّة ايهاب مع الحقائب وابيه.

رواية مشوّقة وماتعة تتحلى بحس بوليسي الفناه كثيرا في حكايا شارلك هولمز والغاز موزة وتختخ والشياطين 13 …

الرواية كتبت بلغة سلسة وحبكة جيدة متصاعدة لكن اضعفتها الصدف المتكاثرة والاقدار المتكرة والغير مقنعة، إلا أن تنوع القصص وسهولة السرد وانسيابه جعل هذه الرواية سهلة ممتعة.

قصص الحقائب الخمسة اغنت مسارات الرواية واضفت عليها تنوعا وجمالا اضافيا، فهذا التنوع الذي شكلته قصص الحقائب الخمس حاول محاصرة الحرب التي حاصرت حيوات الناس وشكلت مصائرهم ، لكنها من ناحية اخرى اضعفت الحبكة والتشويق؛ اذ ان الحكايات الخمسة كانت بحاجة لسرديات وحوارات واسئلة واجوبة اكثر لبلوغ غايتها، لكن ربما رغبة الكاتب في عدم اطالة عدد صفحات الرواية او انقطاع نفسه الروائي لم تسعفه لبلوغ هذا المراد، فاستعاض عن اعطاء الحكاية حقها في السرد والاسهاب والتشويق والتصعيد الى استحضار القدر والصدف بغية التعجيل في احداث الرواية او التقليل من عدد صفحاتها واحداثها مما اثر على البناء الفني للحكايا الخمس وبالتالي للرواية اجمعها.

حقائب الذاكرة عنوان لرواية شكل عتبة النص فيها اول مزاياها، والذي من خلاله امكن الولوج الى عوالمها سريعا، خصوصا شخصية ايهاب والذي تقاطعت سيرته وتشابهت مع تلك السيرة التي القت بظلالها على جيل كامل مّمن دهمتهم الحرب في طفولتهم، فطبعت مصيرهم إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!