مقالات دينية

تحويل تجارب وسائل التواصل الإجتماعي الى اختبارات روحية

الكاتب: المطران حبيب النوفلي
تحويل تجارب وسائل التواصل الإجتماعي الى اختبارات روحية

بقلم المطران حبيب هرمز
البصرة
28 كانون الثاني 2015

اكتب هذه الفقرات لألفت الانتباه الى اهمية التأمل في التجارب التي حصلت ليسوع المسيح وربطها بالتجربة التي نتعرض لها عبر وسائل التواصل الإجتماعي. في البداية لنطالع ما ذكره إنجيل متى الفصل الرابع بهذا الخصوص:

اقوال المجرب

اقوال المسيح

إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة

مكتوبٌ: ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله

إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب:(يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ)

مَكتوبٌ أَيضاً: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ

أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً

اِذهَبْ، يا شَيطان! لأَنَّه مَكتوب: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد

 
نصلي ونقول “لا تدخلنا في التجربة”. إن التجارب التي تعرض لها الرب في البرية تمثل ذات التجارب التي نتعرض لها نحن كل يوم عبر الإنترنت. تجربة الشهوة والكبرياء والسلطة. ولكن يسوع المسيح حوّل تلك التجارب الى اختبارات روحية عندما علمنا ان الحياة اعمق من مجرد اشباع للحواس. وحاليا حواسنا الموجهة لخدمة التواصل عبر الإنترنت هما حاستي النظر والسمع، اما اللسان فهو في خدمة ما تراه العين وتسمعه الاذن.
 
التجربة الأولى
إن تجربة تحويل الحجر الى خبز بسبب الجوع هي رمز لللهاث خلف الحواس وارضائها عبر الإنترنت وهذه خرافة لأنه لا يمكن اشباع الشهوات الحسية. وكلما استهلكنا من وقت، نحتاج الى وقت آخر.
صحيح الجسد مهم كبعد واحد من ابعاد شخصية الإنسان ولكن لوحده يشوه معنى كون الشخص انسانا ذو بعد روحي متألق. فالجسد والروح معجونان معا ولا يمكن الفصل بينهما. والمجرب لم يهتم بجوع المسيح الى امور اخرى محطمة في الإنسان وجاء لأجلها وصام تحضيرا لها. يسوع المسيح كان ايضا يجوع الى ان يرى ويلمس ويسمع كم ان الناس يحبون بعضهم بعضا وان يروا الله ابا حنونا لهم.
هذه الشهوات الجسدية التي تستغل وسائل التواصل لن تنتهي الا عندما يدفن الجسد في التراب. الرب اراد ان نحيا ونبدع على اساس كوننا مخلوقين على صورة الله الثالوث ومثاله. اراد ان نهتم بالمتطلبات الحسية والروحية معاً. وكما نعلم، البعد الجسدي والبعد الروحي يؤثران ويتأثران كل لحظة. لذلك من الممكن ان يصبح الشخص شريرأ اذا لم يوازن الشخص بين حاجاته الحسية والروحية، والعكس بالعكس.
 
 التجربة الثانية
إن تجربة السقوط من فوق سور الهيكل هو رمز لتجربة إرضاء كبرياء الذات؛ الذات المستفيدة من وعد الله للتمجيد الشخصي. فمثلما ان الرب يستعين بآيات كتابية كذلك المجرب ايضا، نلاحظ ان إبليس يشير الى سفر المزامير (91: 11) ولكن الرب اكثر من مرة اكد على التواضع هو حل للإصابة بداء الكبرياء – كما في لوقا 14: 11 مثلا – وذلك كعلاج لهذا المرض النفسي.
التواضع من فعل وضع اي الواقعية في الرؤية للأشياء وكون الشخص موضوعي لا ذاتي النظرة. إن الآراء عبر وسائل التواصل الإجتماعي كثيرا ما تكون ذاتية النظرة بعيدة عن الواقع عندما يكون الإتصال الكترونيا خداعاً بعيد عن مجريات الأمور والعوامل المؤثرة والمتأثرة به وعلى بعد مئات او الاف الكيلومترات.
وهنا كثيرا ما نقع ايضا في فخ الإستعانة بآيات من الكتاب المقدس. اننا بإستعانتنا بالآيات الكتابية انما نقيدها، وليس من حقنا فعل ذلك دائما لأن افكار الله ليست كافكارنا، ويفترض ان نترك التأييد الكتابي للحوادث اليومية للكنيسة الجامعة او المحلية او للمخولين من قبلها. فيسوع المسيح ليس اداة بيد كل من يكتب ويتحدث في الإنترنت. انه اعظم من ان يتم استغلال كلماته الإلهية لتبرير القول والفعل الشخصي دون صلاة وتأمل عميق فعلينا الحذر.
 
التجربة الثالثة
إن تجربة التسلط على ممالك العالم هي رمز لتجاوز الإنسان على اخيه وتسلطه عليه كي يستعبده.
بتسلطنا على الآخرين عبر وسائل التواصل نساهم في تقييدهم وجعلهم اسرى لنا ولأحكامنا الظالمة. التسلط ليس فقط من خلال قوة السلاح الحربي مثلا، فهناك من يتسلط بلسانه السليط وقلمه الجارح. ولكن السؤال هو: كيف يثبت الشخص بطروحاته ما يدعيه؟ فنحن نواجه خطر التجربة يتم عندما يشوه الشخص سمعة الآخرين ويشهر بهم عبر وسائل الإعلام (كالمواقع الألكترونية ووسائل التواصل كالفيسبوك) بحجة اعلان حقيقة ما. إن هذا مناف للأخلاق المسيحية وآدابها كما اكدت وتؤكد الكنيسة دائما، واخر ذلك التنبيه كان ما ذكره البابا فرنسيس في زيارته الى الفليبين. هذه التجارب هي ممارسات تدخل ضمن ثقافة الموت. ولكن نحن مدعوون الى عيش ثقافة الحياة. فالرب حوّل تجربة السلطة الى خبرة روحية من خلال تأكيده على الخدمة كضمانة لسلامة السلطة المحبة والحنونة ويكفي ان نتذكر كيف غسل ارجل التلاميذ.
 
التجارب وعلاقاتنا عبر وسائل التواصل
يسوع المسيح علمنا اهمية الصوم والصلاة للتغلب على التجربة. ولعل اروع وصف للصوم لدى الأنبياء هو ما قاله النبي اشعيا: ان الصوم يعني “حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟”(أش 58: 6)
إن شهوة الكتّاب للكتابة عبر وسائل الإتصال الإجتماعي والمواقع الألكترونية هي في رأيي غالبا ما تكون متأثرة بعواطفهم دون تعقل ما يكتب (وارجو ان تكون هناك اسباب اخرى). انها تؤذي الكثيرين من القراء. انها تعتبر خطيئة خصوصا ان الشخص المشار اليه غائب، والكتاب المقدس يقول ان المغتاب يق*ت*ل اخيه بالخفاء.
يتعرض الكاتب الى ارتكاب خطيئة الكبرياء والدينونة غيبيا عندما لا يبال بالتساؤل كم له معرفة بأصول وآداب واخلاقية الكتابة ويقيد اخوته ظلما. فالإنترنت مثلما من جهة يشجع على البحث وتعقب آثار الحقيقة وابراز الجمال، فإنه من جهة اخرى يشجع النرجسية والكآبة والحسد والقبح، وهذا خطر على الفرد والمجتمع والكنيسة. انها تجربة توقع الكتّاب في تجربة اقسى عندما يصابون بتأنيب الضمير والحزن واليأس بعد فوات الأوان.
إن كانت الحرية تسمح للكاتب ان يجعل نفسه ديّانا على الآخرين الا يكشف بنفس الوقت انه صار عبد لتلك الوسيلة الإعلامية؟ اليس الكاتب عبد لحرية زائفة لا تعترف بالسعي الى الحقيقة ونشر روح المحبة والجمال وعمل الخير. وهل يعلم الكاتب المسيء خصوصا في دول المهجر ان في الغرب قوانين للصحافة تحاسب الشخص ناشر الأكاذيب. فلماذا يتم استغلال عدم وجود قوانين تحاسب من يسيء في الغرب لأشخاص في العراق. اننا كثيرا ما نتابع كتابات الكتاب وتعليقاتهم عبر وسائل التواصل ونبحث عن مصادر معلوماتهم فلا نجد.
 
القلق والخوف
نعلم من الناحية النفسية ان العديد من الكتّاب يعبرون عن معاناتهم الشخصية. مرة قال اللاهوتي الألماني الشهيد ايام الحرب العالمية الثانية بول تللخ ان مشكلة الإنسان المعاصر هي القلق. واللاهوتي الألماني كارل راهنر (ت 1984) قال ان مشكلة الإنسان في القرن العشرين هو انه خائف. لذلك اعتقد ان بعض ما ينشر يعبر عن قلق وخوف المهاجرين من كنائسنا لأنهم مقلوعون عن جذورهم وليس لديهم مراكز ثقافية تنمي ثقافتهم في بلاد المهجر فيشعرون بالإحباط. كما ان لضعف روح الصلاة والسمة الروحية للحياة اليومية سبب كبير لديمومة الأخطاء المرتكبة. اما من في داخل العراق فربما له بعض العذر بسبب حالنا مع الار*ها*ب الذي يضرب الكنيسة والمجتمع.
إن اعمال الكتّاب تذكرنا بمشهد الطفل عندما لا تلبي امه طلباته (لفائدته) فيقوم بضربها على بطنها، ولكن الجميل ان الأم تحتضن الطفل وهو يبكي في حضنها. لذلك كنيستنا دائما تحتضن تجاوزات الكتّاب وتعليقاتهم كالأم.
 
(إن من لا يحب قريبه يكره الله) القديس يوحنا الصليبي
 
دعوات لتحويل التجربة الى اختبار روحي
هذه دعوة لنا الى الصوم والصلاة والمثاقفة، الى التأمل في حالنا ان كنّا مسؤولين في الكنيسة او ارباب عائلات او مربين او معلمين في الكنائس او كتّاب عبر الإنترنت. نحن نجتاز سنوات محنة كبيرة حيث اعتقد اننا لسنا نقرأ علامات الأزمنة بصورة جيدة. فنرى التخبط هنا وهناك للأسف على مختلف المستويات في كنائسنا ونوادينا ومواقعنا خصوصا لدى المهاجرين.
علينا اولا: ان نهضم ما لدينا من كنوز في الكتاب المقدس بكل تواضع واصغاء. الكتاب المقدس مهمل في العديد من بيوتنا وكنائسنا ولدى كتابنا للأسف. هو فيه خبرة الف سنة من الحكمة والعقل والفهم. رسالتنا ان نسعى الى التأمل في تفسيره وسبل وتأوينه لنقدمه للجيل الجديد لأنه مثل الحنطة بحاجة الى ان يحول الى خبز؛ هو مثل العنب بحاجة الى عصر كي يشرب.
ثانيا: نحن مدعوون كي نحاسب انفسنا: كم نعلم من الحقيقة قبل ان ننشر كتاباتنا وتعليقاتنا هنا وهناك. هل نسعى الى الجمال والمعرفة المحبة للحقيقة؟ هل نبني الكنيسة والمجتمع بهذه الأمور؟ كان المرحوم الأب يوسف حبي يقول ان الحقيقة عارية، ونحن البشر لا نستطيع رؤية الشيء عاري لذلك نقوم بتلبيس الحقيقة بملابس كي نقدر ان نقدمها للآخرين. ثم ما موقفي عندما اكتشف بعد ايام ان الخبر المنشور هو كاذب؟ الا اكون شريكا مع من وصفه الرب بأنه كذاب وابو الكذب.
ثالثا: مثلما كان الرب – عندما يتواصل مع الناس – يميز بين روح المجرب عن روح الشخص الطيب. فعلينا ان نملك روح التمييز، وروح التمييز تعني الحكمة. اي ان لا نقبل كل ما نسمعه. علينا معرفة من هو الكاتب ومتى كتب النص واين كتبه وكيف كتبه ولماذا كتبه. وهذا يتطلب الإتصال الهاتفي بالشخص المستهدف او بالمؤسسة المعنية واستخدام البريد الإلكتروني الخاص مثلا وغيرها من السبل.
ان يسوع المسيح هو الكرمة ونحن الأغصان (يو 15) فلدينا دعوة  للتجذر في ثقافتنا الإيمانية والوعي بها وعيشها. ولو حصل ذلك لما نقرأ ما يحبط ابناء الكنيسة ويشككهم من كلمات القدح والذم والتشكي والتخويف واليأس والإحباط.
الرب قال ” بمعزل عني لا تستطيعون ان تعملوا شيئا” (يو 15: 5). اننا مدعوون الى ان نغمر قلوبنا بالحب وعمل الخير ورؤية الجمال في كل شيء من حولنا والتثقف بصورة متواصلة. ان ندرك كيف قرأ آباؤنا علامات الأزمنة. هذا كي نستطيع حل اي مشكلة، وحينذاك لن تستطيع اعظم تجربة ان تغلبنا بل تزيدنا روحية.
 
اذا لدينا دعوة لمراجعة الذات. ان نسعى في عيش ثقافة الحياة والمساهمة في بناء الملكوت وهذا يتم عندما نزرع بذوره في كل وسيلة من وسائل التواصل الإجتماعي وفي اللحظة الحاضرة وبرجاء عظيم، ساهرين ومنتظرين الرب…

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!