الحوار الهاديء

الاسقف مار ميلس من الكنيسة الاشورية وقراءة الواقع

د. عبدالله مرقس رابي  

باحث أكاديمي

الاسقف مار ميلس من الكنيسة الاشورية وقراءة الواقع

استخلاص الافكار عن طريق المقابلات الصحفية مهمة جديرة بالاهتمام، فهي شاقة وتحتاج الى امكانية صحفية والمام بالاسس الواجبة اتباعها في المقابلة من حيث أختيار الموضوع والاشخاص المعنيين، وصياغة الاسئلة التي تعبر عن عناصر الموضوع المطروح، وثم الامكانية في مناقشة الاسئلة وتبادل الحديث، فلا بد من ان يكون للصحفي اطلاعات معرفية واسعة ليحقق النجاح للتوصل لما يحمل ضيفه من مواقف ومعرفة تجاه موضوع المقابلة. والمقابلات الصحفية تُجرى لمختلف الاشخاص وفي مختلف المجالات الفكرية ومع مختلف المسؤولين والقياديين في المؤسسات المجتمعية، ولعل أبرز تلك المقابلات أهمية هي مع الشخصيات القيادية لمكانتها وتأثيرها في شؤون المجتمع، ولانها أكثر درايةً من غيرها لواقع ومجريات الاحداث. ومثلُ هذه المقابلات تكشف المواقف الشخصية من المواضيع المطروحة ويكون لها وقعة في تغيير الاتجاهات النفسية للقارىء المهتم المتلقي لما يدور من الافكار.

وهكذا يضيف الاب الصحفي (نوئيل فرمان السناطي) في صحافته المُبدعة البناءة درساً مهما نستقي منه الكثير في ضوء التبادل الفكري الذي جرى بينه وبين أحدى الشخصيات الدينية القيادية المعروفة في تطلعاتها الفكرية واهتمامتها الثقافية وحرصها على الاداء المتميز في الكنيسة الشرقية الاشورية( الاسقف مار ميلس زيا ميطرابوليط أستراليا ونيوزلندا ولبنان). وذلك في مدينة سدني الاسترالية بتاريخ 23/8/2017 والمنشورة في 14/9/2017 . وفي المقابلة ثمة محاور فكرية عميقة ومؤثرة لها اهميتها القصوى تخصنا جميعاً. تناولها الاب نوئيل مع سيادة الاسقف الموقر مار ميلس، وتاتي هذه الاهمية من أنها تُشخص ظواهر اجتماعية تعكس واقع عالمنا وشعبنا اليوم مرتبطة بالفكر الديني المسيحي، مما يوحي للقارىء والمتبع أن كنيستنا الشرقية أينما تُزاول رسالتها فهي في تفاعل وديناميكية مع المجتمع وأحداثه. ومن أبرز ما جاء في المقابلة من المواضيع هي:

مكانة الكنيسة في المجتمع الحديث اليوم، فهو من المواضيع المهمة للغاية ومتداولة قانونياً وصحفياً ورسمياً وهي الشغل الشاغل للحكومات والباحثين.

يؤكد ويرمي مار ميلس الى بناء مكانة ودورللكنيسة لتمكنها من أن يكون لها صوت مؤثر تجاه ما يجري في ثنايا المجتمع من القضايا الاجتماعية التي قد تكون مخالفة للعقيدة الدينية، وفي قوله(الكنائس والمؤسسات الدينية يكون لها الحق بأن تُدير وتتبع تعاليمها العقائدية وتشريعاتها بحرية)،يسترعي أنتباه الاخرين أن يكون للكنيسة دورها وحريتها في المجتمع المعاصر لتحديد موقفها تجاه ما يجري من أحداث ومستجدات في عالمنا اليوم كما للمؤسسات أو الجهات الاخرى لها حرياتها في بث ما تراه مناسباً مع مواقفها وفلسفتها في

تشريع القوانين وفقاً لمبادىء حقوق الانسان، اراد سيادته أن تحمي الكنيسة أبنائها فيما لو كانت تلك التشريعات مخالفة للعقائد الدينية ومفروضة قانونياً وتربوياً، وجاء بمثال قيم هو التناقض فيما يتعلمه الابناء في المدرسة منذ الصغر وما يتلقون من تنشئة في الاسرة والكنيسة، وأخص بالذكر العائلة الشرقية المهاجرة الى البلدان الغربية التي تتميز بطابع أجتماعي وديني مختلف عن المجتمعات الاصلية، وعليه يقترح سيادته أنشاء مدارس خاصة من قبل كنائسنا لتحمي الابناء من الانزلاقات التي تُسبب في البناء السلبي لشخصيتهم ويؤكد على شمولية الكنائس جميعها وتعاونها بغض النظر عن تسمياتها .

أستمرار اللقاءات بين الفاتيكان والكنيسة الاشورية الشرقية

وقد اكد سيادته على استمرار اللقاءات بين الكنيستين الكاثوليكية والشرقية الاشورية ومناقشتهم والاعلان قريباً عن الاتفاق بينهما على الاسرار الكنسية السبعة المعروفة. وهكذا يعلمنا مار ميلس أهم مسالة تخص الكنيستين وتهم كل مؤمن فيها وهي ديمومة التفاعل الايجابي واستمراره بين الكنيستين وبخطوات مدروسة فهو يؤكد أن المسالة ليست من يكون الرئيس بل ما يربط الجميع بحب المسيح.

دعوة جديرة بالاهتمام

يدعو مار ميلس الى عقد لقاءات بين الكنيستين الاشورية والكلدانية، وبمشاركة الشعب على ما أُتفق عليه ويتحقق ذلك بتوعية الشعب بما يجمعنا كمسيحي المشرق فكل ما طرحه من أمثلة لتدعم تلاقي الشعبين في الكنيستين مهمة واساسية ولها مردوداتها النفسية والاجتماعية على المؤمنين ومنها : لقاءات مستمرة بين الاكليروس، تجمعات دورية للشبيبة، سفرات مشتركة، فهي وسيلة لتقوية اواصر الشعور التقاربي للشعبين في الكنيستين وستكون طريقة لاذابة السلبيات تدريجيا وبمرور الزمن وثم تتحقق الوحدة تلقائياً، بالطبع عندما لايتحسسون بوجود الفوارق الاجتماعية والدينية واللغوية والقيمية والتقاليد والتراث.

شعب له تاريخ ومصير واحد وثقافة قبول الاخر

يؤكد مار ميلس في حواره اننا شعب واحد وهذا ما يؤكده كل واعٍ وداركٍ للتاريخ ومجرياته، نرجع لجذور واحدة وعرق واحد واختلطت الدماء بالتلاقح البايولوجي والحضاري على مر العهود، ولعوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية وحضارية وسياسية ودينية ظهرت التسميتين، ورُسخت من قبل الاحزاب السياسية كما يقول سيادته بدلاً من المحاولة لمحو كل ما يقسمنا. وعليه تعكس أفكاره الواقعية: النظرة الموضوعية، نبذ الانانية، والرضى بقبول الاخر كما كما هو لا كما يجب مؤكداً ذلك بقوله:

( جاءني مرة ممثلون من مختلف الاحزاب وبدأوا يتكلمون نحن ونحن الاثوريين … قلت لهم :أريد أن أقول شيئأً بسيطاً جدا، شيء مما يسمى بالحقيقة الواقعة، الواقع العملي، يوجد شعب يسمي نفسه بأنه كلداني ومؤمن بذلك، لماذا أنت تأتي وتقول لهذا :لا انت بالرغم منك أشوري.عجيب! والله عجيب، أن أقول للكلداني أنت لست كلدانياً أنت اشوري، هؤلاء عندهم هذا الاتجاه ويؤمنون به، أذن يوجد شعب هنا وشعب هنا،هذا عنده فيما بينه علاقات وروابط وثقافة وتاريخ. سؤالي الوحيد : ماهو الخطأ أو حتى الجرم ، أن يقبل الواحد الثاني، ما الضرر أن يقول لي الموقر عوديشو :أنا كلداني، اقول أهلا أخي الكلداني. لماذا يخرج هذا أو ذاك

في الانترنيت ليقول : لا ليس هناك شعب كلداني، وأخر يجاوب. حالة مزرية عندما الواحد يلغي الاخر، بينما مصيري هو مصير واحد.) ويؤكد في سياق حديثه من يؤيده ويشترك معه في هذا الرأي من الاساقفة، ويقول سيادته: لابد من المدرسة القديمة وهذه مسالة طبيعية في كل المجالات.

أحسنت قولاً وتعبيراً ورأياً سيادة الاسقف مار ميلس، رأي يعكس فكر واعٍ وداركٍ للامور والواقع والتاريخ، فكر ارى فيه نسمات ثقافة قبول الاخر واحترامه ونبذ الوجوب لما يريد الانسان من الاخر، فكر في قمة النضوج والواقعية، وهذا ما توصلتُ اليه سيادة مار ميلس في كتابي الموجود بين يديكم الموقرتين والموسوم ( الكلدان والاشوريون والسريان المعاصرون وصراع التسمية)أننا شعب واحد وذو جذور واحدة نهرينية عاش على ارض النهرين على حِقب تاريخية مختلفة بطبيعة أجتماعية واقتصادية ودينية وتسميات تخص تلك الحقب ولتعدد الحضارات النهرينية الداخلية والى جانب الحضارات التي غزتها تداخلت الحضارات وتمازجت تحت تأثير قانون الاقتباس والانتشار الحضاري، وثم وحدتها المسيحية، وما رأينا مؤخراً ولعوامل سياسية ومذهبية دينية سلطوية وجغرافية واجتماعية وديمغرافية ظهرت التسميات الى الوجود ثانية وبمرور الزمن أصبحت واقعاً لا محال منها. وما علينا الا قبول بعضنا للبعض كما نحن عليه على أثر التنشئة الاجتماعية والتلاقح الحضاري وكما تفضلتم.

نظرته الواقعية عن الهوية الثقافية لشعبنا

ويعرج سيادته في حديثه المتبادل مع الاب نوئيل نحو مسالة الحفاظ على الهوية الثقافية، فيدركها بواقعية متناهية في النضج الفكري، فيؤكد أنها نحو الزوال وجاء بامثلة عن ذلك في سياق الحديث من أهمها، ذوبان شعبنا في المجتع الجديد وهنا المقصود به علمياً(الانصهار الاجتماعي)، ويأتي بمثال عن اللغة ويقول: لا أحد يفهم لغتنا، وما فائدة الكتب المطبوعة بلغتنا طالما تُتلف أغلبها والاخص في بلدان المهجر؟وأستشهد بمقارنته بين الجيل القديم والحديث الناشيء والمولود في بلدان الانتشار، فالكنائس مليئة بحضور القادمون الجدد وكبار السن، بينما جيل بلدان الانتشار قد يفضل كنسية أخرى تتناسب أفكاره غير الكلدانية والاشورية ولحريته المفرطة يذهب أليها. وثم يعطي أهمية للارض لكي تبقى ثقافة المجتمع قائمة ومستمرة. ولكن أين الارض؟

باختصارنستنتج من هذه المقابلة القيمة والشيقة :

الاماكنية المتميزة للاب الصحفي نوئيل فرمان السناطي في الصحافة لاختياره الشخصية المناسبة للحوار. وثم وضعه لاسئلة دقيقة ومثيرة تخص واقع شعبنا في المهجر واخرى تخص الاحداث والمواقف الحالية. والتي يفكر بها المهتمون بشؤون شعبنا مثل المشتركات بيننا والتسمية، وطبيعة العلاقة بين الكنيستين الاشورية والكلدانية وأهمها الحوار الفاتيكاني والكنيسة الاشورية.

التأكيد على أهمية التنشئة الاجتماعية للأبناء

تقوية دور الكنيسة في المجتمع المعاصر

تسليط الضوء على العلاقة بين الكنيستين الاشورية والكلدانية من جهة ومدى استمرارية الحوار بين الفاتيكان والكنيسة الاشورية من جهة اخرى.

تميزت افكار مار ميلس التي طرحها أثناء الحوار بواقعية ونظرة موضوعية للأحداث .

التأكيد على ثقافة قبول الاخر بأقراره قبول من يسمي نفسه كلداني ونبذ سياسة الفرض .

وضع سيادته محددات مهمة لاجل تقارب الشعبين الاشوري والكلداني الى بعضهما تدريجياً وبمرور الزمن تتلاشى السلبيات.

تحية لهكذا اسقف يحمل بشائر التفاؤل والواقعية وثقافة تتميز بالنضج الفكري والموضوعية، ونتمنى من كل اساقفتنا في الكنيستين أن يخطو هكذا خطوات وذلك للتأثير الكبير لما يصرح به رجل الدين في مجتمعنا الشرقي على أذهان وفكر المؤمنين، وان لا يكونوا عثرة في تصريحاتهم لترسيخ التفرقة ورفض الاخر.

مع تمنياتي للاسقف الجليل مار ميلس بالموفقية في خدمته الاسقفية، وتمنيات للاب نوئيل بالنجاح في اعماله الصحفية الهامة والبناءة وخدمته الكهنوتية.وشكرا

رابط المقابلة

http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=853456.0

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!