آراء متنوعة

كيف يتحوّل النقاش الفكري إلى ساحة حرب كلامية؟

تحسين الشيخلي

اشتركت مؤخراً في مجموعة للحوار الفكري تضم اكاديميين ومتخصصين وباحثين لهم انجازهم العلمي والبحثي ، لكن ما هي الا ايام ولاحظت ان الحديث انحرف عن مساره الفكري الى أختلاف شخصي أخذ المساحة الواسعة من النقاش العقيم ، فما كان مني الا ان الفلف اوراقي وانسحب ( علماً انني لست طرفاً في اي نقاش من هذا النوع ، بل مراقباً له بألم ) فلا الوقت يسمح ولا العمر فيه متسع لسماع المهاترات والاشتراك بها.
لماذا يتحول الحوار العلمي إلى خلاف شخصي؟ وهل ان الخلاف في المجاميع العلمية هو اختلاف بناء ام صراع عقيم. وهل ان منصات الحوار العلمي توفر لنا فرصة للتقارب أم ميدان للخلاف؟
في المجتمعات التي تعاني من غياب ثقافة الحوار البناء، يتحول الاختلاف الطبيعي إلى خلاف عميق يتجاوز حدود الفكر إلى صراعات شخصية تستهدف التقليل من الآخر بدلاً من محاورته. المثقف، بحكم دوره، من المفترض أن يكون نموذجاً لاحترام التعددية الفكرية والاختلاف، لكن واقع الحال يُظهر أن العديد من النزاعات بين المثقفين تُغذَّى برغبة دفينة في إثبات التفوق أو فرض الرؤية الشخصية، بدلاً من العمل على خلق فضاء مشترك للتفاهم.
انها من نعَم الله علينا ان نحظى بعصر يشهد فيه العالم تطوراً مذهلاً في وسائل التواصل الاجتماعي مما لم يتح للأولين والسابقين . هي فرصة للتواصل والحوار والتلاقح الفكري والمعرفي الذي يضيف لنا معرفة أوسع ويتيح مساحة من النقاش الموضوعي. أصبحت المجاميع التطوعية والمنصات الرقمية مساحة مثالية لتبادل الأفكار والنقاشات العلمية. هذه المجاميع تمثل فرصة ذهبية للتقارب الفكري بين الأفراد من مختلف الخلفيات والتخصصات، حيث تسهم في إثراء المعرفة وتعزيز التفكير الموضوعي. في ظل انتشارها، خاصة في العالم العربي، تحمل هذه المجاميع وعداً كبيراً بجمع الجهود العلمية والفكرية لخدمة القضايا المشتركة وتعزيز التواصل الثقافي. لكن، وعلى الرغم من هذه الإمكانات الهائلة، تشهد العديد من هذه المجاميع انزلاقات خطيرة نحو الخلافات الشخصية والتنابز بالألقاب، مما يحولها من منصات للحوار البناء إلى ساحات صراع عقيم يفتقد إلى أي مضمون معرفي. كيف يمكن لهذه المساحات أن تحقق أهدافها الفكرية بعيداً عن هذه النزاعات؟ ولماذا يحدث هذا التحول المؤسف؟ان بروز هذه الظاهرة المقلقة يعرقل تحقيق هذه الأهداف. تنتشر في هذه المجاميع الخلافات الحادة التي تبدأ عادةً باختلافات في وجهات النظر، لكنها سرعان ما تتحول إلى خلافات شخصية وتنابز بالألقاب ومهاترات كلامية، ما يحول تلك المساحات إلى ساحات صراع لفظي تفتقد إلى مضمونها الفكري والمعرفي. هذا المشهد يدفع للتساؤل حول أسباب انتشار هذه الظاهرة، خاصة في أوساط يُفترض أن يكون الحوار البناء سمةً رئيسيةً لها.
أحد الأسباب الرئيسية وراء هذه الظاهرة هو غياب ثقافة الحوار في المجتمعات العربية، حيث يتعامل كثير من الأفراد مع آرائهم باعتبارها الحقيقة المطلقة، ويرون في اختلاف الآخر تهديداً أو رفضاً شخصياً لهم. هذا التصور يؤدي إلى تصعيد النقاش وتحوله إلى جدل عدائي بدلاً من أن يكون نقاشاً مثمراً. ويضاف إلى ذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، حيث توفر هذه المنصات بيئة افتراضية تقل فيها المسؤولية المباشرة عن الأقوال، ما يشجع البعض على استخدام ألفاظ قاسية أو مهينة دون التفكير في أثرها، كما أن غياب التفاعل وجهاً لوجه يزيد من احتمالية سوء التفسير وتصعيد التوترات.
الأنا الفردية والرغبة في فرض السيطرة هي أيضاً عامل مؤثر في انتشار هذه الظاهرة. يسعى بعض المشاركين إلى فرض آرائهم وإثبات تفوقهم الفكري على الآخرين، ما يؤدي إلى نزاعات شخصية تعكس أحياناً انعدام الثقة بالنفس أو محاولة لتعويض مشاعر نقص معينة. وتزداد الأمور تعقيداً مع وجود اختلافات ثقافية وفكرية عميقة بين المشاركين، فالتنوع الذي يمكن أن يكون مصدراً للإثراء يتحول إلى عامل خلاف إذا غابت آليات إدارة هذا التنوع.
ضعف المهارات الاتصالية يمثل مشكلة أخرى، حيث يعجز البعض عن التعبير عن آرائهم بطريقة واضحة ولائقة، ما يؤدي إلى سوء فهم متبادل يزيد من حدة النقاشات. ومن المؤسف أن العديد من هذه النقاشات تتجه نحو التسييس أو التطييف، حيث تتسلل موضوعات سياسية أو دينية حساسة تفتح المجال للمزايدات والانقسامات الحادة. ويضاف إلى ذلك غياب القيادة والإدارة الفعّالة في معظم هذه المجاميع، حيث تحتاج هذه المساحات إلى إدارة حازمة تستطيع وضع قواعد للنقاش والحد من التجاوزات، لكن في كثير من الأحيان تفتقر المجموعات إلى هذا النوع من الإدارة.
مع ذلك، فإن معالجة هذه الظاهرة ليست مستحيلة. يمكن نشر الوعي بأهمية احترام الآخر والتعامل مع الاختلاف كفرصة للتعلم والتطور. كما يمكن وضع قواعد واضحة للسلوك داخل المجموعات، تشمل منع التنابز بالألقاب واحترام جميع المشاركين. تعيين أفراد ذوي خبرة لإدارة النقاشات ومنع تصعيد الخلافات يمكن أن يكون خطوة مفيدة أيضاً، إلى جانب توجيه المشاركين لعدم أخذ النقاشات على المستوى الشخصي والتركيز على الأفكار بدلاً من الأشخاص. استخدام لغة إيجابية في التعبير عن الآراء يمكن أن يخلق بيئة أكثر إيجابية وتفاعلاً. هذه المجاميع، التي تحمل في طياتها إمكانيات هائلة للتطور العلمي والمعرفي، يمكن أن تتحول من ساحات للصراع إلى منصات للتعاون والابتكار إذا تم التعامل مع تحدياتها بعقلانية وحكمة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!