مقالات عامة

حول مجلة “فكر وفن” عدد ١٠٥

حسيب شحادة

حسيب شحادة

حول مجلّة ”فكر وفن “ عدد ١٠٥
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

وددت أن أعرّف بهذه المجلّة الثقافية الألمانية، التي تصدر مرّتين في السنة بأربع لغات، الألمانية والعربية والإنجليزية والفارسية، والتي ينشرها معهد غوته للحوار مع العالم الإسلامي في ميونخ، لعلّ بعض القرّاء العرب، أو من يقرأ العربية، سيجد اهتمامًا ما بما تُقدِّم المجلة من مقالات، أبحاث، تقارير. لا أذكر متى بدأت هذه المجلّة الورقية في الوصول إلى عُنوان إقامتي، ولكنّي أتصفّحها وأقرأ ما يهمّني ويطيب لي بتمعّن، منذ سنوات كثيرة جدا. بدأت هذه المجلّة في الصدور عام ١٩٦٣ بفضل عميدة الاستشراق الألماني، البروفيسورة آن ماري شيمل (Annemarie Schimmel, 1922-2003) وألبير تيلي. منذ مستهلّ هذا القرن تولّى إدارة المجلّة خبير في الدراسات الإسلامية السيّد ستيفان فيدنر، ويشاركه الصحفي السوري، أحمد حسّو، وفي المراجعة اللغوية أحمد حسّو وأحمد فاروق. يصل عدد النسخ الورقية إلى عشرين ألفا.

المجلّة توزّع مجّانًا على من يطلبها، ولكن يحِقّ لأصحاب المكتبات بيعها بسعر لا يتجاوز ٢،٥ دولار أو يورو، ورقها صقيل والصور ملوّنة بجودة عالية. يمكن قراءة المجلّة على الشابكة www.goethe.de/fikrun وبريدها الإلكتروني هو [email protected]. اعتادت المجلّة في الفترة الأخيرة التركيز على موضوع معيّن في كل عدد مثل: المشاركة والتبادل؛ الكتابة والنشر، والتحديات الرقمية؛ علم النفس، عولمة فرويد؛ التعليم؛ مائة عام على الحرب العالمية الأولى؛ الثقافة والمُناخ؛ مواجهة الماضي الأليم؛ آفاق الديمقراطية؛ الموسيقى لغة العالَم؛ منذ أحداث ١١ سبتمبر لغاية الثورات العربية؛ أدوار الجنسين؛ وسائل الإعلام؛ سقوط السور سنة ١٩٨٩ ونتائجه؛ اللغة؛ الشرعية وحقوق الإنسان؛ المدن؛ الفن والشرق؛ الحبّ؛ العلوم؛ الشباب؛ الإسلام في جنوب آسيا؛ الهجرة، الاستشراق الألماني؛ الترجمة عبر الحضارات. الكتّاب في المجلّة هم عادة من الألمان ومن العرب، والترجمة إلى العربية سليمة، ومن النادر حقًّا العثور على هفوات لغوية، بعكس ما هو موجود في معظم النشرات العربية، لا سيّما الإلكترونية منها. طبيعة هذه الترجمة ومدى تأثّرها بالأصل الألماني، أي التلاقح الثقافي، بحاجة إلى بحث منفرد، مثلًا في إطار أطروحة ماجستير.

موضوع العدد الأخير قيد العرض والمراجعة هو ”الهجرة واللجوء“، وهو موضوع الساعة، الشغل الشاغل في أوروبا بخاصّة، ٨٤ ص. من مقالات هذا العدد: مع الأسف كلنا عنصريون، ص. ٥-٧؛ شجرة ميلاد في جدّة وبامياء في ألمانيا، حين يصبح الخطأ وطنا، ص. ٨-١١؛ المسيرة الطويلة، أوروبا في قلب الهجرة المعولمة، ٢٥-٣٣؛ الرعب الخلاق، في عَلاقة المهاجر بالمكان، ص. ٥٢-٥٥؛ حين يسكنك الخوف من الطاغية، تجربتي من اللجوء إلى ألمانيا، ص. ٥٦-٥٧؛ جدار برلين وحواجز دمشق، أحزم حقيبتي وأهاجر بصمت، ص. ٦٦-٦٧؛ الإصلاح الديني في السياق الإسلامي، محاورة فكرية بين رائد السمهوري السعودي ورشيد بو طيب المغربي، ص. ٦٨-٧٥؛ ما وراء الحدود، جاك مراد والمحبة في سوريا، ص. ٧٦-٨٣.

يتحدّث شتيفن أولي، روائي كولوني مولود عام ١٩٦٥ لأب بنغالي وأم ألمانية، مقيم في ميونيخ ومؤلّف الرواية الشهيرة ”طفل الحظ“ (Glückkind)، عن تجاربه مع العنصرية، مثلا حرصه على التحدّث بلغة ألمانية سليمة ليقنع الآخر بألمانيته؛ لدى نازيين قدامى اضطراب نفسي مشترك، شعور بالغربة، التعامل مع العمالة المهاجرة. حينما أذهب إلى المدينة تمشط حواسّي المنطقة المحيطة باستمرار لاكتشاف أيّة مخاطر، وفقط إذا لمحت رجلا من رجال الشرطة تنتابني لحظات من الارتياح. هذا أمر جديد عليّ“ ص. ٧. ويضيف ”فالشقّ الأيسر من قلبي يرحّب باللاجئين، بينما يخشى شقُّه الأيمن تفاقم العنصرية جراء وجودهم.“ ص. ٧. وعن الاحتكاك بين اللاجئين والمواطنين الألمان يقول ”إلا أنّه حينما يغتصب رجال مسلمون نساءً ألمانيات، فإن أعداد تلك الفئة تنمو وتنمو على نحو متزايد“ ص. ٧.

في مقال آخر يتطرّق الكاتب عن الهوية المضببة والسائلة، نظرات الآخرين التقييمية والحاكمة وأن الاندماج لا يعني الانصهار. والجدير بالذكر ما ورد في المجلّة أيضا وهو أنّ أغلبية المهاجرين ليسوا معوزين، شديدي الحاجة، ص. ١٨، وأنّ لدى ٢٥٪ من اللاجئين شهادات جامعية ومعظمهم من الميسورين. الهروب من سوريا إلى برلين، على سبيل المثال، يكلّف ما بين الألفين والستّة آلاف دولار لكل شخص، ص. ٢٠. هناك الكثيرون الذين لم يصلوا إلى أيّ برّ أمان، بل قُدّموا قرابين للبحر، ص. ٦٣. يبدأ اللاجىء حياته من نقطة الصفر تقريبًا، لغة جديدة، ثقافة جديدة، عقلية مختلفة، ومناخ قاس، ص. ٢١. وقد شُبّه الغريب باليتيم اللطيم، وممّا يقال عن الغُربة: من غادر داره، قلّ مقدارُه؛ أغرب الغرباء من كان غريبًا في وطنه؛ أيُّهما أفضلُ؟ أن يبقى الإنسانُ في وطنه، يتعرَّضُ لكلّ ضُروب الهَوان والتعذيب، وحتى … أم أن يهجُرَه إلى وطنٍ آخرَ، حيث يقتُله الطقسُ والحنينُ الدائم؟ ‬أنا مُستعدّ‮ ‬أن أسكُن في‮ ‬قُنِّ‮ ‬دجاجٍ في الوطن، ولا بقصْرٍ في‮ ‬الغُربة؛ الوطنُ، هو حيثُ يكون المرءُ في خير؛ الغُربة ذِلّة، والذِّلّة قِلّة؛ الوطنُ هو المكان الذي نُحبّه، فهو المكان الذي قد تغادرُه أقدامُنا، لكن قلوبُنا تظلّ فيه؛ وطن أُحبّ أن يأويَني، انتظرتُه أن يحتويني، فإذا به يرفُضني ويرميني. من النواحي المركزية الضاغطة على اللاجىء أو المغترب، وجوده شبه الدائم في حالة تأهّب لإثبات نفسه في كل مجال، فهو لا يمثّل نفسه فقط بل يُعتبر ممثلًا لشعبه وبلده.
تكتب روشاك أحمد، صحافية سورية مقيمة في برلين ”تخيفني فكرة احتواء حقيبة سفر واحدة على كل ما أملك أو ما تبقّى لي بحوزتي في عمر يناهز الثامنة والعشرين والانتقال للعيش في قارّة أجهل شعبها والكثير عنها“ ص. ٦٦. السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه وبشدّة: ماذا يجري بالفعل لهوية الشخص في عملية التكيّف والتأقلم في المجتمع الجديد؟ ماذا يربح الإنسان وماذا يخسر؟ حدود الاندماج وحظوظه وهل من انصهار وما التبعات؟ أيمكن أن يصبح الشرقي، مثلا العربي المسلم، مندمجًا بنحو كامل في المجتمع الغربي ويبقى مسلما؟ أيمكن للتقليد والغيبيات التعايش مع التجديد والمنهج العلمي الصارم؟ حياة فيها النقيضان أيّة حياة تكون؟

من المقالات التي استحوذت على انتباهي وتفكيري ”الإصلاح الديني في السياق الإسلامي، محاورة فكرية“. يتحاور الباحثان، رشيد بو طيّب ورائد السمهوري لمناسبة مرور خمسة قرون على انطلاق حركة الإصلاح الديني المسيحية، التي قادها المصلح الألماني مارتن لوثر سنة ١٥١٧ [يُراجع مثلا الكتيّب: الكتاخيسمُس، أصول التعليم المسيحي. العقيدة المسيحية للكنيسة الإنجيلية اللوثرية في فنلندا، مصدّق في مجمع الكنيسة عام ١٩٩٩، إديتا هلسنكي، ترجمة خضر توفيق سماعنه، ١١٢ ص. قطع صغير]. وممّا ورد في هذه المحاورة: ينبغي تحرير الدين من التقاليد، لا ديمقراطية بدون علمانية، ص. ٦٨؛ يجب إصلاح التديّن لا إصلاح الدين، إن الجمود على النصوص يسبّب الفساد في الدين، ص. ٦٩؛ لكل دولة علماؤها وسلاطينها الذين يتمطّطون ويتقلّصون بحسب زك زاك السياسة؛ إن مشروع لوثر في النهاية هو كفاح ضد التقاليد التي زيّفت روح المسيحية؛ ٧٠؛ التجربة الإنسانية الراقية مبنية على التراكم والتصحيح والتصويب والمراجعة، لا الابتداء دائما من نقطة الصفر، ٧١؛ لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ رشيد بوطيب يعتقد مع محمد إقبال ومحمد عزيز لحبابي وثلة من المفكّرين المسلمين، بأنّ للأمر علاقة واضحة بتعطيل الاجتهاد؛ الخطاب الديني المسيحي واليهودي في الغرب، أكثر عقلانية وانفتاحًا وتصالحًا مع القيم الحديثة من الخطاب الإسلامي، ٧٢؛ لماذا لا يفيد المسلمون اليوم من إنجازات الآخرين كما أفاد آباؤهم؟ الباحث الألماني شتيفان فايدنر في كتابه الهامّ عن الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) في الغرب أجاب عن السؤال قائلا: في الماضي كان المسلمون أقوياء، أسياد، غالبين، تولّوا انتاج الفكر وليس، كما هو الحال الان، فهم تابعون، مستهلكون، مغلوبون على أمرهم، منغلقون، متقوقعون وخائفون على هويّاتهم المهزوزة والمأزومة لئلا يذوبوا في الغالب، العربي يُجابه اضطهادين، على المستوى المحلي وعلى المستوى العالمي، ٧٣.

”ما وراء الحدود“ مقال إنساني مؤثر لنويد كرماني، كاتب ومفكّر ألماني من أصل إيراني يقيم في كولونيا، حائز على جائزة السلام للناشرين الألمان عام ٢٠١٥. يتمحور المقال حول الأب جاك مراد في دير مار إليان (القدّيس والطبيب إليان كنداكيوس الحمصي الذي قُتل عام ٢٨٥م لرفضه التخلي عن المسيحية، عيده في ٦ شباط؛ أحد آباء الكنيسة الجامعة، معلّم مار أفرام السرياني) التابع للكنيسة الكاثوليكية في بلدة القريتين في ريف حمص الجنوبي الشرقي الذي كان أسيرا مدّة عدة أشهر لدى تنظيم د*اع*ش منذ ٢١ أيار ٢٠١٥. يعرف القاصي والداني أنّ هذه البلدة، كانت رمزًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في سوريا بأسرها؛ وصل عدد سكّان بلدة القريتين نحو ثلاثين ألفًا بينهم كان ٩٠٠ مسيحي قبل الحرب، بقي منهم ٢٧٧. تنظيم د*اع*ش هدم الدير التاريخي في السادس من آب عام ٢٠١٥. لم يبق منه سوى الركام وعلى أحد جدرانه الباقية كُتب: أتيناكم بأسود جياع ترى لحم العدا أشهى طعام. (شاهد مثلا: https://www.youtube.com/watch?v=yRLA4Oj9x28” https://www.youtube.com/watch?v=yRLA4Oj9x28). معرفة شخصية بين الكاتب والأب؛ تعايش وحوار مع الإسلام، مسيحيون وقعوا في حبّ الإسلام، ٧٦؛ الراحة ربما لن توجد إلا في الحياة الأخرى، قال الأب جاك ”نحن المسيحيين ننتمي إلى هذا البلد، رغم أن الأصوليين عندنا وفي أوروبا لا يحبون سماع ذلك، الحضارة العربية حضارتنا“، ص. ٦٧؛ نحن لا نعني لهم شيـئا، ص. ٧٨؛ حب الآخر يتطلّب حبّ النفس، ٧٨؛ من يفتقدون الحرية هم أكثر من يعرفون قيمتها، ٧٩؛ المناهج الدراسية في الدولة الإسلامية متطابقة لدرجة تصل إلى ٩٥٪ مع الكتب المدرسية، المناهج الدراسية في السعودية. الكثيرون من المنخرطين في د*اع*ش هم مثقفون، جامعيون ودقيقون في كل ما يقومون به. ”تتحول طاقة القرآن اللغوية إلى ديناميت سياسي”، ٨٠؛ فقدان الذاكرة الثقافية، النساوة الحضارية، ٨٠؛ في مكة دمّر الوهابيون قبور ومساجد الصحابة، بل والبيت الذي شهد مولد النبي. وشيّد مبنى جديد عملاق على أنقاض المسجد التاريخي للنبي في المدينة. وفي الموضع الذي كان يوجد فيه حتّى سنوات قليلة مضت، البيت الذي سكن فيه محمد مع زوجته خديجة، اليوم مرحاض عام. ٨٠. ”لا توجد حضارة إسلامية تقريبا، حضارة يُعتد بها على أيّة حال. ما يتطاير الآن حولنا ويسقط فوق رؤوسنا هو شظايا انفجار فكري داخلي هائل. ص. ٨١.
لعله من المناسب في هذا السياق الإتيان ببعض الأبيات التي نظمها الشاعر داود قسطنطين الخوري ١٨٦٠-١٩٣٩، وهي ترنّم في كلّ قدّاس يقام في كنيسة الدير مار إليان وعنوان الترنيمة: لكِ يا أرضَ الشام
يا مَن استشهدتَ في ثالث قرن للمسيحِ
ذقتَ موتًا رغبةً في دينه الحقّ الصحيحِ
لم يكن يُثنيك في الإيمان عن*فُ الحاكمين
وقبِلتَ الموت موت الشهداء الباسلين
يا شهيدًا قد تجلّى في البرايا نور فضله
كُن لنا خيرَ شفيعٍ عند مَن مُتَّ لأجله
إنّ المحبة للآخر، في مثل هذه الأوضاع المأساوية في بلاد العرب، لأمر خارق، إنّها من لدن الخالق!

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!