مقالات عامة

حساب التقويم الذي ظهرفي الحلم أو الطفل السامري الذي أصبح كاهنًا أكبرفي مرحلة مصيرية

الكاتب: حسيب شحادة

حساب التقويم الذي ظهرفي الحلم

أو

الطفل السامري الذي أصبحكاهنًا أكبرفي مرحلة مصيرية

ترجمة حسيب شحادة

جامعة هلسنكي

 

 

هذه القصّة رواها بالعربية الكاهن فنحاس (خضر) بن إبراهيم بن فنحاس بن إسحق بن سلامة الحفتاوي الحولوني (١٩٢٣-١٩٩٢) على مسامع بنياميم راضي صدقة (١٩٤٤ــ) الحولوني، الذي نقلها بدوره إلى العبرية. كان الكاهن خضر أوّل كاهن انتقل من نابلس، مسقط رأسه، إلى مدينة حولون جنوبي تل أبيب، في أعقاب حرب العام ١٩٦٧. كان  شاعرًا ومعلمًا ومرتّلًا وجزّارا.

فيما يلي ترجمة عربية لما نشر في الدورية السامرية أ. ب. – أخبارالسامرة، العددان ١٢٠٧-١٢٠٨، ١ آذار ٢٠١٦، ص. ١٩-٢٣.

 

تاريخ الكاهن الأكبرغزال:

 

القصّة التي سأقصّها عليك رائعة لحدّ كبير، لأنّها مرتبطة بإمكانية اندثار نهائي لبيت الكهنوت السامري، سواءً من آل فنحاس أو من آل إيتمر، قبل قرنين من الزمان. كما وإنّني ما كنت لأجلس أمامك راويًا لك هذه القصة، لولا ما حدث.

إنّها قصّة كهنوت ولد يافع، سلامة ابن الكاهن الأكبر غزال بن إسحاق. كلّ شيء مدوّن في كتب تاريخنا، ولكن هناك تجد التفاصيل الأساسية فقط، أمّا بخصوص التفاصيل الكاملة، فإنّها محفورة في ذاكرة الآباء والأبناء من ذلك الزمن ولغاية اليوم. تلك الأعجوبة التي صنعها الله لأجل طائفتنا الصغيرة، في أحلك فترات تاريخها، حيث لم تقف ملائكته جانبًا، بل أسبغ الله نعمة من نِعمه، التي لا حصر لها.

في تاريخهم  الطويل واجه السامريون حالاتٍ غير قليلة، كادت تنقرض فيها عائلة الكهنة، التي ترأس الطائفة، إلا أنّ ذلك كان على وشك الحدوث، إثر وفاة الكاهن الأكبر، غزال بن إسحق. كادت سلسلة الكهنوت الأكبر تنفرط به نفسه.

مَن لا يعرف قصّة فشل زواج الكاهن غزال الأّول؟ التي أثارت مرارة شديدة داخل الطائفة في نابلس الصغيرة، لا سيّما لدى أقارب زوجته، ولذلك أُرغم على مغادرة نابلس والسفر إلى يافا، باحثًا عن زوجة أخرى لتنجب له وريثا. لم يوفّق في يافا أيضًا، فسافر إلى غزّة وهناك وجد ضالّته. بعد أن مكث في المنفى أربع سنوات، استجاب لدعوة وفد من نابلس للعودة إلى بلده، واستئناف عمله رئيسًا لطائفته. في العام ١٧٨٤ أنعم الله عليه بمولود ذكر سمّاه سلامة (שלמה) وكأنّه أراد أن يقول: قد تمّت مصائبي وطفح كيل معاناتي.

أيّام سعادة الكاهن الأكبر غزال لم تطل، إذ بعد ولادة ابنه بثلاثة أعوام وافته المنية. بقيت الطائفة مع ابنه سلامة، ابن الثلاث سنوات. نفس واحدة لبيت الكهنوت العظيم الذي خدم الشعب السامري في خلال ١٢٠ جيلًا، منذ إليعزر بن أهرون الكاهن وحتّى غزال آخر ذرّيته.

 

سلامةابن الثلاث سنوات،آخرأبناءعائلةالكهنة:

 

حتّى قبل مائتين وثلاثين عامًا، كان السامريون يأملون أنّه في حالة انقراض الكهنوت الأعظم من نابلس، فمن الممكن إيجاد ابن من عائلة الكهنة من سلالة أهرون في بقايا الطائفة الغزاوية، أو في أواخر الطائفة بمصر. ولكن قبل قرنين من الزمان تقريبًا، علم السامريون بأنّه لا تواجد لهم إلا في نابلس، إذ اندثروا في كل من مصر وسوريا وغ*ز*ة. والآن، وفي العام ١٧٨٧، وبعد عودتهم من المقبرة الصغيرة، الواقعة على سفوح جبل جريزيم الغربية، اتّضح أنّ سلامة، ابن  الثلاث سنين، هو آخر العنقود في سلالة بيت الكهنة.

بعد أن استفاق السامريون من لحظات الحزن والأسى، على وفاة الكاهن الأكبر غزال، اتّضح لهم أمران: الله يجرّبهم، لمعرفة فيما إذا كانوا يحبّونه من كل قلوبهم ونفوسهم من جهة، وعليه فلا بدّ من انتهاج أفضل طريق من أجل الحفاظ على استمرار بيت الكهنوت، تتمثّل بالمحافظة على حياة سليل الكهنوت الأخير.

اتّخذ السامريون قرارًا بأن يبذلوا كلّ ما في وسعهم، من أجل رعاية وتنشئة الطفل، اهتمّوا بتلبية كلّ حاجياته من ملبس ومأكل ومشرب. وبغياب كاهن في ’مذبح‘ الكنيس، عيّن السامريون القلائل الكهلَ صالح بن إسحق الدنفي أن يؤمّهم في الصلاة.

ويروى أنّ صلاته وترتيله منذ السبت الأول، قد لاقا قَبولا عند الله. ودليل على ذلك بزوغ نبات غضّ أخضر فجأة في وسط المذبح، في اتّجاه سجود صالح بن إسحق الدنفي.

أعْين كلّ السامريين، أقلّ من مائتي شخص، رافقت باهتمام وبمحبّة ابن الكهنة الصغير، الذي كان وسيمًا كالملاك، عيناه تفيضان نورًا، وضحكته مرحة. كبُر الطفل واحلوّ، وبجانب نور عينيه سكنت الحكمة. لقد أبدع في قراءة توراة موسى (كرج فيها)، وختمها وهو ابن ستّ سنوات، وكأنّ كلّ فطنة أجيال آبائه قد تجمّعت في رأسه الصغير.

وهكذا مرّت السنون، وأصبح سلامة ابن خمسة عشر ربيعًا، وكان عالمًا في الشعر الديني (פיוט)، وذا صوت عذب. تمكّن من معرفة أسرار التفاسير والشرائع، وأنشد من روائع النظم السامري. تلقّى معظم ما عرفه، من الشيخ الحكيم سلامة ابن أبي السرور بن يوسف ابن أبي السرور بن يوسف بن إسحق الصباحي من سبط منشه.

 

حساب التقويم السنوي:

 

حان في تقدير شيوخ الطائفة، وقت الكاهن الفتى لتقلّد منصب الكاهن الأكبر، إذ رأوا أن بركة الله قد حلّت عليه. أمر واحد فقط تعذّر عليهم منحه إيّاه، وذلك لأنّه سرّ ينتقل بالوراثة من كاهن أكبر لكاهن أكبر.

هكذا كان الوضع في تلك الأيام، وليس كاليوم، حيث تجد كثيرين قد تعلّموا هذا السرّ. ما كان ناقصًا هو معرفة حساب التقويم، الأعياد والمناسبات الدينية. كان الكاهن غزال، والد سلامة الصغير، قد أعدّ قبل وفاته جدولاً حسابيًا يمتدّ لأربعة قرون، وبموجبه احتفل السامريون بأعيادهم، أقاموا صلواتهم في رؤوس الشهور وأجروا قربان الفسح والمناسبات الدينية. ولكن بموت الكاهن غزال، كان عمر ابنه ثلاث سنوات فقط، ولم يكن هناك شخص لتلقّي سرّ حساب التقويم السنوي والسنوات الكبيسة، وعليه كان الارتباك مخيمًّا على الطائفة.

لا بدّ من التنويه بأنّ معرفة حساب التقويم، حساب الحقّ (חשבון קשטה)، هي من مهامّ الكاهن الأكبر السامري الأساسية.

ارتباك شيوخ الطائفة السامرية أخذ بالتفاقم أكثر فأكثر. استولى عليهم اليأس، إذ لم يعرف أحد منهم ذلك السرّ الدفين، لأنّه لو عرفوه لكانوا علّموه لسلامة، مثلما علّموه ּأسس تقاليدهم القديمة. كان سلامة تلميذًا نجيبًا دون أدنى شكّ، ولكنّهم كانوا على يقين أنّه بدون اكتشاف طريقة حساب التقويم، لا يستطيعون تتويجه بتاج الكهنوت الأكبر. رغب الشيوخ في أن يقوم سلامة في الطقوس الدينية على المذبح في الكنيس، ولكنّهم كانوا يعلمون عدم جواز ذلك بدون معرفة صيغة/معادلة الحساب المسماة في اللغة المهنية بزانه [لائحة الجداول الفلكية التي تشمل حركات الشمس والقمر وفق درجات وزوايا، وهذا بمثابة أساس إجراء التقويم]. لو وجد الفتى الكاهن سلامة البزانه، لأنقذ بيت الكهنوت. لم يكن بوسع أي واحد من الشيوخ شرح الطريقة الصحيحة للفتى، كيما يتوصّل إلى المعرفة الواضحة. مع ذلك عرفوا أمرًا واحدًا وهو أنّ السرّ كامن في كتاب الكهنوت الأساسي: كتاب التوليدة، حيث ذكر أنّ الكاهن فنحاس بن إلعزر بن أهرون شقيق موسى، كان قد جرّب الطريقة على طول وعرض جبل جريزيم، وهكذا علم أن طريقة البزانة هي المنطلق والبداية لكل حساب. أحاط الشيوخ الكاهن الفتى سلامة بن غزال علمًا بهذا الدليل.

دعنا نعود إلى معلّم الكاهن، الشيخ سلامة ابن أبي السرور الصباحي، الذي زار ذات يوم تلميذه ووجده منكبًا على دراسة كتاب الزيج [في الأصل: אלג’יז، الجيز]، تابعه برهة من الوقت، ورأى كيف يُجري الفتى حسابات ويسجّل ويسجّل، إلى أن غلبه التعب والإرهاق، فاستسلم للنوم في مقعده، رأسه على أوراق الكتاب الضخم.

كان ذلك وقت الخمسين (ספירת העומר) الواقع بين سبت عيد المصّة وعيد الأسابيع. وفي السبت الخامس رتّل سلامة، نجل الكاهن الأكبر غزال، أمام جماعة المصلّين أشعار السبت، وكذلك فعل في السبت السادس المسمّى بسبت العماليق.

في كلّ الأيّام، من الصباح وحتّى المساء، كان منكبًا على ذلك الكتاب، محاولًا العثور على السرّ الكبير في حساب التقويم، لدرجة أنّ كهنة الطائفة، تساءلوا فيما إذا كانوا سيحظون أخيرَا في الحج القريب، في عيد الأسابيع بسماع البركة الكبرى، بركة كهنة بني أهرون من فم كاهن أكبر، بعدانقطاع دام خمس عشرة سنة.

حدثت الأعجوبة بعد يوم موقف جبل سيناء، الواقع في اليوم السادس والأربعين من عدّ الخمسين. صلاة اليوم أنهكت الكاهن الفتى، كما أنهكت جماعة المصلين كافّة. في ذلك اليوم قال الكاهن الفتى ’سبحوا‘ بينما كان واقفًا في القسم الأمامي من قاعة الصلاة، أمام المذبح تقريبًا. قالها بصوت مرح وبشكل موفّق لدرجة أنّ كل الحضور ذرف دموع السعادة والشفقة، رفعوا أكفّهم عاليًا، متضرّعين متوسّلين: لماذا يؤخّر الله تسلّم الكاهن الفتى مهمّته ممثلًا له على الأرض؟

 

وجدتُها،وجدتُها:

 

غطّ الكاهن الفتى في سبات عميق، كسبات آدم عند خلق الله حواء. حلم الكاهن الفتى، أنّه أُحضر إلى فتحة جنّة عدن. هناك وقف الكاهن الأكبر فنحاس، عليه السلام، وبيده نفس الكتاب الذي ּأشغل بال الكاهن الفتى، كتاب الزيج ֶֻ[في الأصل ثانية: אלג’יז، الجيز].

فنحاس أرشد سلامة في صفحات الكتاب، قاس أعمدة الحسابات طولًا وعرضًا، حتى قلّص ووصل إلى تلك الطريقة التي طالما عمل جاهدًا باحثًا عنها. سطعت أمامه كلّ الحروف والأرقام بآلاف الأنوار، في الصيغة المكتوبة بنار القدسية.

استفاق الكاهن الفتى من نومه وشرع يصرخ ويصرخ: وجدتها، وجدتها!!! استيقظ أبصروا الكاهن الفتى الذي أحبّوه وربّوه، يضحك بصوت عال، ووجهه الملائكي متوهّج. ”وجدتُ البزانة !!!“ صاح نحوهم. قعد أمامهم على نور الفوانيس ورسم لهم نماذج كثيرة وغريبة، لم يفقهوا منها أيّ شيء.

عندها علموا يقينًا أمرًا واحدًا، وهو أن الكاهن الفتى، قد مسّت رأسه حكمة الله، وجد طريقة حساب الحقّ وهكذا عاد الحساب وسكن في فكر بيت الكهنوت الأكبر.

ماذا كنتُ سأعطي لكي أحظى ولو بالنزر اليسير من تلك الفرحة العارمة التي عمّت مساكن السامريين في سبت العشر كلمات (الوصايا العشر)، قبيل عيد الأسابيع.

وهكذا حظيت الطائفة بكاهن أكبر، مع أنّه ابن خمسة عشر عامًا، إلا أنّه كان خبيرًا بجميع الحِكم والأسرار. يا ليت حظيت عيناي بمشاهدة الكاهن الأكبر، يرفع كتاب التوراة المقدّسة عاليًا لمباركة الطائفة؛ وأن أتلحّف بشال (طاليت، ويسميها السامريون اليوم: صاية، صايات؛ أشكر صديقي بنياميم صدقة على هذه المعلومة؛ هذه اللفظة مستعملة في اللهجة العراقية، ولاذكر لها في لهجتي الجليلية، الكفرساوية) الصلاة ناصع البياض الخاصّ به، وبتونية قماش الأطلس للصلاة، التي كان يوسف ابن أبي السرور الصباحي قد خاطها له بسرعة البرق، خلال يومي الخميس والجمعة قبيل سبت الوصايا. كما أنّ إسحق بن عبد حنونه الدنفي الملقّب ”الأسمر“ كان قد أعطاه تونية/قمباز سورلتية من قماش فاخر، تليق بمنصب الكاهن الأكبر، الذي جدّد بحكمته استمرارية فرع بيت الكهنوت الأكبر.

يا ليت شاركتهم يوم عيد الأسابيع المبارك، عندما صعدوا بتؤدة ورفق خلف الكاهن الأكبر، والشمّاس الجديد يحمل كتاب التوراة، من الكنيس في نابلس، حاجّين إلى قمّة جبل جريزيم، في تلاوة ”والآن يا إس*رائي*ل“ [سفر التثنية ٤: ١] وأنوار الكواكب تقبّل أطراف صاية الصلاة  التي تغطّي قلنسوته الصغيرة.

يا ليت كُتب لي، أن أقف بجانب هذا المخيّم المقدّس، مصغيًا لقراءة ”البركة الكبيرة“ من فم الكاهن الأكبر الفتى، الذي نضج دفعة واحدة وغدا كالكهل. ما أجمل وأروع ذلك المشهد!

 

هذا ما قصّه عليّ آبائي، ووجدته مسطّرًا، بحسب شهادة معلّم سلامة بن غزال الكاهن الأكبر، على هامش إحدى ورقات ”كتاب الزيج“ [في الأصل للمرّة الثالثة: الجيز، אלג’יז] الكبيرة، الموجود في خزانة كتبي، التي ورثتها عن آبائي؛ وها أنا الكاهن فنحاس بن أبراهام بن فنحاس بن إسحق بن سلامة الكاهن الفتى، وهو أبو أبي جدّي أيّ جدّ جدي.

 

 

يمكنك مشاهدة المقال على منتدى مانكيش من هنا

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!