مقالات

صادق جلال العظم: المادية والتاريخ

ولد صادق جلال العظم في دمشق عام 1934، وأنهى المرحلة الجامعيةالأولى من تعليمه في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1957، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ييل Yale، في أمريكا عام 1961. عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة دمشق، ورأس قسم الفلسفة فيها، كما عمل أستاذاً زائراً في عدة جامعات عربية وأجنبية، ومن ضمنها الجامعة الأردنية، وجامعة برنستون الأمريكية.
يُعد صادق جلال العظم مفكرا ماركسيا مستقلا؛ فهو لم ينتم إلى حزب سياسي ماركسي، الأمر الذي رأى فيه البعض تحررا من أي مرجعية فكرية مغلقة. وقد تميّز بأفكاره الجريئة، وتناول الواقع العربي بما في ذلك ثوابته السياسية والدّينيّة بالنقد المنهجي. كما خاض سجالات فكرية في دمشق وبيروت دفاعاً عن المادية، والتاريخ، والعقل، والحرية. ووقف ضد التعصب، والخرافة، والانغلاق بصلابة نادرة.
تشير موسوعة ” أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر ” لمؤلفها الدكتور أيوب أبو دية الى الكتب التي ألفها صادق جلال العظم، ابتداء من كتابه الشهير “نقد الفكر الديني”، الذي نشره بعد هزيمة حزيران 1967، وكان له وقعاً سياسياً وفكرياً مدوياً في الأوساط الفكرية والشعبية، وقُدّم العظم للمحاكمة على أثره، في واقعة تحاكي معارك العقل، والحرية، والتجديد، التي خاضها طه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم. أما كتابه المعنون “دفاعاً عن المادية والتاريخ” عام 1990 فيُعَد من أهم الكتابات النقدية العربية للفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة.
وظل فكرصادق جلال العظم منفتحاً على الواقع العربي، فعمل على استقراء محتواه بمنهجية مادية جدلية؛ حيث تمسك بالماركسية كفلسفة نقدية ثورية تتمثل وظيفتها الأساسية في التغيير، وبقي بمنآى عن ماركسية الأحزاب الشيوعية العربية، والاتجاهات الماركسية في الغرب، فمارس النقد بلا هوادة،. كما شدد على أهمية العلم واعتبره من أهم ركائز هذه الفلسفة النقدية الثورية، وجعله العامل الأهم في إنجاح أي مشروع لتحسين أو تغيير الواقع القائم، وتحقيق مشروع التقدّم كما تحقق في الغرب. واعتبر الماركسية فلسفة العصر، وأداة التحرر التاريخيّة، ووريثة عصر التنوير والعقل النقدي.
استعاد العظم في نقده للفكر والواقع تراث التنوير في الشرق والغرب، وشدد على ماركسية حديثة قادرة على دمج العقلانية، والعلمانية، والتنوير، والحرية، في مشروعها النقدي التحرري، ولم يقيد نفسه بالواقع المادي كما كانت الحال في الماركسية التقليدية، كالصراع الطبقي، والتنظيم الثوري، وأسباب التخلف الفكري، والهزائم السياسية والحضارية، وغياب الفكر العقلاني والعلمي، وانتشار الفكرالغيبي والخرافة.
أولى جلال صادق العظم أهمية بالغة للمجتمع المدني، والعدالة الاجتماعية، والبنى الفوقية الفكرية وإصلاحها، وراهن على دور الثقافة والمثقف في معركة التجديد والتقدّم. واتخذ موقفاً نقدياً من المقولات الرائجة حول الأصالة والخصوصية، فاعتبر قيم الحداثة الإنسانية قيماً عالمية كونية.
وتُعد كتاباته امتداداً للفكر المادي العلماني في عصر النهضة العربية الحديثة، الذي كان ممثلاً بشبلي الشميّـل وفرح أنطون وسلامة موسى وغيرهم. واختط العظم لنفسه منهجاً نقدياً للفكر والواقع المؤسِّس له. وتبدو تلك الكتب النقدية المتتابعة متكاملة من حيث المنهج والرؤية الماركسية، فقد وقف من حيث المبدأ، كغيره من المثقفين والمفكرين العرب، وِقفة نقدية لكشف الأسباب الجوهرية والعميقة لهزيمة العرب في سنة 1967، فأصدر كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، فكان سجالاً نقدياً حاداً غلبت عليه المعرفة العلمية على الأيديولوجيا، وتوقف عند الممارسات الظاهرة (اجتماعياً ودينياً وسياسياً وحضارياً)، الفردية والجماعية، وكيفية مواجهة العرب للأزمات والهزائم.
وأصدر بعده “نقد الفكر الديني”، وكان كسابقه مبسطاً في لغته يخاطب المثقفين وأنصاف المثقفين، وركز فيه على الظواهر الاجتماعية ذات الخلفية الدّينيّة، ولم يتطرق إلى مقولات ومفاهيم الدين والإسلام، واكتفى بنقد وتحليل بعض الإشكاليات الظاهرة، مثل إشكالية إبليس في النص الديني، وظهور العذراء في إحدى الكنائس المصرية، وعمليات التوفيق العقيمة بين المسيحية والإسلام، أو محاولات الحوار الإسلامي المسيحي.
كما نقد محاولات التوفيق بين العلم والإيمان واعتبر العملية مناقضة أصلاً – من حيث المبدأ – للعلم الذي يقوم على النقد والدحض المتواصل، على عكس الدين الذي يقوم على التسليم والإيمان. ورغم بساطة الكتاب بمعايير العلم المعاصرة، إلا أنه أدى دوره المهم في ظروف العرب بعد هزيمة حزيران 1967، وزرع نواة نقد السلفية والدين والتراث التي توالت في الكتابات العربية فيما بعد.
وتضمن كتابه الموسوعي “دفاعاً عن المادية والتاريخ” عام 1990 ثلاثة محاورات فلسفية بين العظم وحنا قيصر، حول الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ناقش فيه معظم الإشكاليات الكبرى منذ انبثاق عصر الفلسفة الأوروبية الحديثة، مع الشك الديكارتي، مروراً بالفلسفة المادية الميكانيكية وترقيها تدرجياً إلى الفلسفات الوضعية، والماركسية والوجودية وتيارات ما بعد الحداثة، التي تعود في جذورها الفلسفية إلى الفلسفات القديمة، وربطها بتطور المجتمعات ورقيها في علائقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واعتبر النقد الذي طبع دراسات ماركس امتدادا لمنظور منهج الشك الديكارتي، وأن أهميته التاريخيّة والإبستمولوجية هي هدم ما لم يعد قادراً على الحياة من المعارف، والتمهيد لتحصيل معرفة علمية أكثر تقدّماً ودقة وموضوعية بالموضوع قيد البحث والتحليل. وعليه، فلا شيء يميز الماركسية إلا علميتها لأنها تتكئ على إنجاز علمي سبقها ومهّد لها. وهي ثورية لأنها تتويج لما سبقها من المعارف، وهي تحررية لأنها تعطي العقل أدوات يقارب بها واقعه، وهي تمثل في مجملها العلم التحرري الأكثر تقدّماً في الحقبة الراهنة.
وفي سنة 1992 أصدر كتابه السجالي “ذهنية التحريم” ناقش فيه عدة قضايا خلافية ساخنة؛ منها دفاعه عن سلمان رشدي، ونقد استشراق إدوارد سعيد. وتمثل جوهر نقده لإدوارد سعيد بأنه يقوم بشكل أو بآخر على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة التي أراد إدوارد سعيد القضاء عليها، وبأنه يعطي ميتافيزيقا الاستشراق التي تحوّل التسميات الجغرافية النسبية إلى مقولات ضرورية مطلقة، نوعاً من المصداقية والجدارة يرتبط عادة بالاستمرارية الطويلة والتواصل التاريخي والجذور السحيقة، علماً بأن الهدف الأساسي لسعيد كان القضاء على مقولتي الشرق والغرب بالمعنى الميتافيزيقي، وتجاوز هذه التقسيمات المشحونة بالمواقف العنصرية إلى مستوى إنساني أرقى.
ختاما، فقد كشف صادق العظم عن محاولات تفريغ بعض الفلسفات المعاصرة للمعرفة العلمية من مضمونها التقدّمي والتحرري، إلى حد إنكار وجودها تماماً، كما في حال العدمية المعرفية وبعض فلسفات العلم المعاصرة، وبالتالي فهي تسعى صوب نشر أيديولوجيا روحانية مبتذلة، وفلسفات متصوفة وعدمية، ترمي إلى نفي الطبيعة بإحلال اللغة والنص وإرادة القوة مكانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!