مقالات دينية

الحلقة الاولى في سلسلة التعليم المسيحي للبطريرك ساكو (مقدمة في اسرار الكنيسة)

الكاتب: المشرف العام
 
كما سبق وتمّ الاعلان عنه من قبل اعلام البطريركية ، فقد بدأ غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو مساء أمس الأربعاء، 5 آذار 2014، سلسلة من حلقات التعليم المسيحي للجميع سيقدّمها كلّ يوم أربعاء في قاعة كاتدرائية مار يوسف الكلدانية في الخربندة عند الساعة الخامسة والنصف عصرًا. واختار غبطته موضوع أسرار الكنيسة وقدّم عنها يوم أمس مقدمات عن معنى السرّ والرموز في حياة المسيحي.

ننقل لكم ما نشره موقع البطريركية  “نصّ تعليم غبطته حول اسرار الكنيسة”.
 
 
الاسرار  السبعة
 
عرض لاهوتي
 
الحلقة الاولى
 
مقدمات
 
 
 
عديدٌ من المسيحيين يُمارس اليوم، أسرار الكنيسة، كالمعمودية والافخارستيا والتوبة والزواج ومسحة المرضى، بشيءٍ من السطحية، مهتمًا بالمظاهر الاجتماعية أكثر منها بالبعد الإيماني والروحي. ويعود السبب، في اعتقادي، إلى عاملين أساسيين هما:  الجهل ورتابة الاحتفال.
 
 معظم مؤمنينا لا يفهمون طبيعة الأسرار وغايتها، ولم تُعدُّهم لها كتب التعليم الديني بشكل عميق كما ان رتب الاحتفال بهذه الأسرار لا تستهويهم لما يعتريها من تكرار ورتابة في الأداء. وان الغالبية لا تفقه اللغة السريانيّة الطقسية. من هذا المنطلق   في سلسلة المحاضرات التعليمية هذه  أحاول تسليط الضوء على معانيها وأبعادها اللاهوتية ورموزها ليغدو الاحتفال بها عيداً والتزامًا وينبوعَ رجاء و نعمة وفرح.
 
قد يفكّر البعض بأن الطقوس والنظم الكنسيّة، جاءت دفعةً واحدةً، متكاملة. هذا تفكيرٌ غير صحيح.  فتكوين طقوس العبادة أستغرق وقتاً طويلاً، ولم تستقر رتبها ويحدد لاهوتها  الا في القرون الوسطى.  في البداية كان المسيحيون الاوائل  يترددون الى الهيكل أو المجمع اليهودي للصلوات الاعتياديّة ويلتقون في أحد البيوت مساء الأحد  للتعليم وكسر الخبز كما جاء في سفر أعمال الرسل.    وبانتشار المسيحية في أوساط وثنية متنوعة وازدياد عدد المنتمين اليها وظهور شخصيات مثقفة بارزة والشعور بالحاجة الى التنظيم، دفع الكنيسة الى التعبير عن ايمانها في طقوس وممارسات  واضحة تلبي حاجات الناس وحساسيتهم ومحيطهم الفكري والنفسي والاجتماعي والثقافي، معتمدين  الاجناس الادبية من مداريش وتراتيل وطلبات وبركات وصلوات وميامر نثراَ وشعراً، رموزا  وحركات.
 
الإنسان والرموز
 
إن إنسان اليوم المنهمك في هموم المعيشة( الإنتاج والاستهلاك)، لم يفقد معنى الرمز والسرّ، وإنما بالعكس، نراه أكثر قدرة على قراءة البلاغ الذي يحمله الكون في ذاته، هذا البلاغ المنقوش في كلّ الأشياء التي يتركب منها، والتي  فضلاً عن كونها أشياء، تصبح علامات حيّة، متحركة.  ففي الشيء العابر يرى الباقي، وفي الزمني يكتشف الأبدي، وينتقل من المادي إلى الروحي، ومن الإنساني إلى الإلهي. ساعتها تبدأ الأشياء تتكلم، ويسمع الإنسان صوتها، ويظهر بناء “الأسرار” على اساس: أن كل ما هو ظاهر هو علامة لحقيقة أخرى هي الله!  انه كالنهر الخفي في جوف الأرض، يغذي الينابيع بالمياه، لا نراه، لكنه موجود، يعمل على تعويم الأشياء وأنستها ويقود إلى الخلاص والسعادة.
 
المسيحية  لا تعدّ نفسها تركيبا بنائيا لحقيقة الخلاص، بل مشاركة فعالة في الحياة الإلهية ضمن الواقع الذي نعيش فيه. من هذا المنطلق تفهم الأشخاص والأشياء كفيض من حب الله، وتنظر أليهم ككائنات مقدسة، وتبلغ هذه القدسية ذروتها في المسيح سر الله الأعظم. وبتمجيده تجتاز كثافة السرّ هذه إلى الكنيسة التي تؤَمِن استمرارية حضوره كبشرى لحياة الناس.  
 
وإذا كانت الكنيسة قد حددت الأسرار “العلامات” بعدد سبعة، إلا إنها لا تعتبرها تستنفد كلّ نعم الله التي من الممكن أن تأتينا بألف طريقة وطريقة. لذا ينبغي ان يربّى المسيحي بشكل يستطيع معه أن يرى السرّ ما وراء حدود الأسرار السبعة، وان يدرك بأن العديد من الأشخاص والأحداث يمكن أن يلتقيَنا الله بواسطتها، وان يمّيز الطقوس والرموز التي تعطي نعمة لحياته، فيغدو شخصًا يدرك ما يؤمن به ويلتزم به، حينها يحمله المسيح في تيار البنّوة الذي عاشه وكرّسه بموته وقيامته.

معنى السر:
 
 تعدّ الرموز احدى  الطرق المألوفة التي تساعد الانسان على استيعاب ما لا يمكن فهمه بسهولة، لذلك  استعمل الادب الديني هذا الاسلوب وعدّه جزءاً من نسيج الحقيقة التي يحتفل بها. فأسرار الكنيسة  في جوهرها نشاط رمزي تعبّر عنه حركات وتعابير وأشكال تلازم حياة المؤمن في كل مراحلها وتدفعه الى التواصل  والولوج الى ما وراء المنظور!
 
كان المسيحيون الأوائل يعرفون جيدًا معنى السرّ، ولم تكن لهم حاجة إلى أن يتعلموا تعريفًا نظرياً له على ظهر القلب كما نفعل اليوم!  لم يكن السّر بالضرورة غرضًا معينًا محدودًا، بل عدّوا كلَّ شيء تتجلى فيه محبة الله وتصميمه مقدسًاَ: الكون، تاريخ البشر، الكتاب المقدس، الهيكل، الأشخاص العظام كالأنبياء والكهنة والآباء. ويأتي المسيح في المقدمة: فهو علامة  منظورة لحضورالله: “من رآني رأى ألآب” (يوحنا 14/9). كما عدّوا الكنيسة “الجماعة”، بما فيها من بعد مكاني وزماني – بقانون إيمانها وطقوسها ونظمها وتقاليدها ومؤسساتها وشهدائها وتاريخها تواصلا لسر المسيح الشامل.
 
ان المسيحيين الاوائل عرفوا معظم الاسرار التي تعيشها الكنيسة اليوم ولو بأشكال مختلفة.  واللفظة المستعملة لغاية القرن الثاني عشر كانت mysteriun” ”  فالسر  علامة لما هو خفي .  ثم أستخدمت لفظة ”  -Sacramentum اي  شيء مقدس”، بدلا من لفظة السر، وهي تعود الى الادب الروماني الوثني حيث كانت تدل على القسم القانوني المقدس للالتزام بالكفالة المتفق عليها.
 
 استعملها اللاهوتيون المسيحيون للدلالة على “العلامات المقدسة” المنظورة التي من خلالها يمنح الله  نعمه  للمؤمن. هذه العلامات تبقى عناصر مادية استهلاكية من “الخارج”، لكنها  تتغير من حيث المضمون من “الداخل”، فمثلا الخبز الذي نصلي عليه في القداس لا يبقى خبزاً اعتياديا، بل جسد المسيح.
 
كل سرٍ هو عمل الكنيسة كلها من خلال شخص المحتفل كما يقول اللاهوتي الروسي بول افدوكيموف: ”  كل سرّ هو حدث في الكنيسة ومن خلال الكنيسة ومن اجل الكنيسة.. ويستبعد كل انفرادية في عزل الفعل ومقتبله عن الكنيسة”.
 
             عدّت كنيسة المشرق، كما كانت الحال في كنيسة الغرب، كلّ شيء سرا – (رازا)، خصوصا ما يمت بصلة العبادة والعلاقة مع الله : الاشخاص والافعال والاواني والمواد المستعملة. انها علامات مادية وحسيّة تعبّر عن سرّ محبة الله للبشر وتدبيره الخلاصيّ. لذلك لكلمة (رازا) بالسريانية  مفهوم كنسي  أشمل، يراد بها كلّ علامة محسوسة لأمور مقدسة خفيّة.  وفضلا عن انها  تطلق على  جميع الاسرار وخصوصا على القربان المقدس، الا انها  تشير الى الخلاص الذي حققه يسوع ولا يزال يحققه عبر الكنيسة.
 
 ان  لفظة (رازا) التي تستخدمها كنيسة المشرق  تحمل معنى المصطلحين الغربيين:mysteriun – sacramentum  ، اي السر والمقدس.  فالسرّ علامة حسية لنعمة خاصة غير منظورة نحصل عليها من خلال طقس خاص.

لغة الأسرار؟
إذا كان مصدر السّر هو الله  في حواره مع  الإنسان والعالم، فمن المنطقي أن يكون تركيب لغته روائيا أي نقل خبرة إيمانية وليس لغة نظرية مدعمة بدلائل برهانية منطقية. فالأسرار بطبيعتها  هي “أسرار الإيمان”، أي  لا تهدف إلى الإقناع، بل تبغي الاحتفال  بخبرة ملاقاة المؤمن  بالله أبيه وجعل المناسبة  عيداً والتزاما. وغني عن القول بأن الشخص هو نقطة الركّز في الاحتفال، وليست العلامات المادية بحد ذاتها. لهذا السبب يجب أن يعبّر   السر بكلمات وجيزة  قويّة عن العيد واللقاء والفرح والنعمة، ولاسيما إذا ارتبط بفعل أو حركة قام بها يسوع. لقد كان هناك دائما “بداية”: في البدء كان إنسان أسمه يسوع المسيح يدعى أبن الله، في البدء كان عشاء احتفل به يسوع مع تلاميذه… وفي البدء كانت حركة غفران قام بها يسوع تجاه الخطأة. هكذا كانت رسالة المسيح تنشئة  وشفاءً و غفرانا وخلاصًا…
 
ان لغة السر تتضمن  تذكيرا وإيحاء بالحقيقة الإلهية المتجلية في  الاحتفال.   فعند تناولنا  القربان المقدس،  نحس  باندماجنا به  ويخلق فينا اندفاعا  لنكون خبزا مكسورا للكثيرين  على غرار المسيح والتضحية بذاتنا الى النهاية.
 
لغة الأسرار، ينبغي أن تكون تربوية (تعليمية)  لكي تغذي الإيمان وتقويه من خلال الرموز والكلمات، وتوجه الإنسان إلى الله وتحمله على الانفتاح والاستقبال والحب والأمل.
 
 ليست الأسرار أمورا نظريّة جاهزة تامة تفعل فعلها آليّاً، بل هي مشروع  ينمو ويكبر بدلالاته الذاتية والتاريخية ويستمر حتى نبلغ الى “ملء قامة المسيح” . من هذا المنظور يقتضي من خادم السر أن يصير هو ذاته جزءا من العلامة في وحدة متماسكة مع المسيح، ليكون أكثر فاعلية، ومن  مستلم السرّ أن يفهم أبعاده  ويعيش ما يرتبه عليه..

العدد سبعة
 
     كان التقليد الكنسي لغاية القرن الثاني عشر يطلق على حقائق الإيمان والعبادة كلها كلمة السّر لان  ما تعنيه الاسرار  يتخطى العدد، وان تحديدها بسبعة يعود عمومًا الى  فريق من اللاهوتيين  اللاتين أمثال هوجو دي سان فيكتور (+ 1149) وبطرس لومباردوس  (+ 1160) ورودولف اردنيس (+ 1200)،  والقديس توما الاكويني (+1274)، الذين  ميّزوا  بين مئات الأسرار (يسرد القديس اوغسطينس 304 ) سبع علامات مقدسة للكنيسة.  وتبنى هذا العدد مجمع ليون (1274) ومجمع فلونسا    ( 1430-1445) ولكن  تم تحديدها على وجه الدقة  رسميا في المجمع التريدنتيني ( 1545-1563) ) في جلسته السابعة بقوله: “سبعة هي أسرار العهد الجديد لا أكثر ولا اقل : المعمودية، التثبيت، القربان المقدس، التوبة، مسحة المرضى، الكهنوت والزواج” (ديتزنكر رقم 1601).
 
  أما كنيسة المشرق فلغاية القرن الرابع عشر لم تكن  ترى فرقاً بين الاسرار وشبه الاسرار، وقد يكون الراهب صوما الذي زار روما ومدنا اوروبية أخرى العام  1288 حملها معه!  ولنا دراسة مفصلة عن الاسرار السبعة في كتاب ” المرجانة” لعبديشوع الصوباوي (ت 1318).
 
ان هذا الاختيار لم يأت اعتباطيا: فالأسرار السبعة تمثل مراحل  الحياة الأساسية، بكونها أزمنة قوية يعيشها الانسان. فكما في الولادة التي تعّد”مفتاح” الحياة،  يحتاج الطفل حتى يعيش،  إلى أهل يقبلونه ويحبونه ويساعدونه، هكذا في المعمودية “ألولادة الجديدة”، التي تمدد ارتباطه بالله ألآب من خلال الابن يسوع وتمدد ارتباطه بالكنيسة، العائلة الجديدة، والتي يحتل مكانه فيها عبر سر التثبيت. ولما كانت الحياة لا تدوم بدون غذاء فجاء القربان المقدس يغذي الحياة الجديدة هذه ويقوّي الشركة والوحدة بين المسيح الرأس والإخوة. أما الزواج فهو زمن قوي آخر لوجود الإنسان، فمن خلال السر يدعم الله ميثاق الحب والأمانة بين الزوجين ويديمه. وعندما يهدد المرض حياة الإنسان ويشعره بمحدوديته، تأتي مسحة المرضى  لتساعده على اختبار ارتباطه بالله واستمداد القوة والرجاء منه. هكذا الأمر بالنسبة إلى التوبة التي تعيد إلى الإنسان المنقسم على ذاته، الوحدة والتناغم وتجعله يختبر رحمة الأب وغفرانه. أما الكهنوت فيشير إلى أشخاص مفروزين لخدمة الجماعة ومتابعة مساعيها لتحقيق الخلاص بسلام وفرح. بهذه العلامات السبع، يتجسد تدبير الخلاص (مْدَبرانوثا) ويؤمن ديمومة البشرى.
 
  على اية حال، فهم الرقم (سبعة)  ينبغي ان  يكون رمزياً للشمولية والكمال، كما يشير الكتاب المقدس والتقليد الكنسي. . . . .
 
من أسس الأسرار ؟
 
          لا يمكن أن يكون هناك كنيسة من دون المسيح. فهو أساس وجودها، وهو رأسها وهي جسده.  فإن كان لها الحياة فهي منه وفيه وبواسطته وهو الشخص المركزي لكلّ نشاطها. لهذا السبب تبقى حياته الأرضية وخدمته لكل الناس وتدريبه الاثني عشر، والصــلب والقيامة واعتراف بطرس والإرسال حاضرة ومتواصلة  في ضمير الكنيسة.
 
تأسيس الأسرار متضمن ومتجذر في تجسّد المسيح “الكلمة” . وبكونه “الكلمة”، نقل حب الله وخلاصه من خلال أقواله وأعماله التي عبّرت عن علاقة الناس بالمطلق: “فيه كانت الحياة… والذين قبلوه مكّنهم من أن يصيروا أبناء الله” (يوحنا 1/12). وبكونه “الكلمة،  أظهر في واقع تاريخ الناس إن كل شيء مرتبط به من حيث هو الألف والياء: “به كان كل شيء ، وبدونه ما كان شيء مما كان” (يوحنا 1/3)، ” كان قبل كل شيء، وبه قوام كل شيء” (كول 1/17) . وبكونه رأس الكنيسة ومؤسسها، فالأسرار مرتبطة به أيضًا. يقول اللاهوتي الدومنيكي الشهير شيلبيكس : “إن تأسيس الكنيسة كسر أولي وأساسي يتضمن في جوهره تأسيس الأسرار السبعة”. بهذا المعنى ينبغي فهم تأسيس أسرار الكنيسة من قبل المسيح وليس بشكل ماديّ، فضلا عن أننا نجد إشارات واضحة في الإنجيل عن تأسيس سر المعمودية والافخارستيا والتوبة.
 
دور الروح القدس في الأسرار
 
 ان الروح القدس هو مكمل ومتمم (شوملايا) الأسرار كلها. هو الفاعل الذي يبارك ويقدس هذه الاشياء – العلامات لتتحول الى ما تشير اليه. فالروح  مثلما ظلّل المياه في بدء الخليقة  وتابوت العهد في مسيرة الشعب نحو ارض الميعاد  والعذراء مريم، يظّلل هذه العلامات لتصير ما تشير اليه. وتستعمل الليترجيا  المشرقية لفظة (روحْبا) : رفرف”  للاشارة الى حلول الروح القدس وحركة وضع الايدي على مياه المعمودية  وعلى رأس  المتقدمين للرسامات الكهنوتية وعلى القرابين في الافخارستيا  علامة لحلوله.
 
ان دور الروح القدس جوهري،  يتجلى من خلال الصلوات والتراتيل والحركات، من دون ان تكون هناك  لحظة واحدة ولا نقطة محددة  للتقديس كما في التقليدين البيزنطي واللاتيني، انما يتواصل هذا  التحول في الاحتفال كله من البداية وحتى النهاية بالرغم  من وجود صلاة أساسية لدعوة الروح القدس: ” ليأتي يا رب روحك القدس ويحل على هذه القرابين ليباركها ويقدسها.. “( عن رتبة القداس الكلداني).
 
 
 ..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!