الحوار الهاديء

أعياد الميلاد ورأس السنة 2019-2020: نحتفل؟ نعم، لا. لا نحتفل

لويس إقليمس

لويس إقليمس      

أعياد الميلاد ورأس السنة 2019-2020: نحتفل؟ نعم، لا. لا نحتفل

لويس إقليمس

بغداد، في 23 كانون أول 2019

مع عيشنا الأيام الأخيرة من السنة القائمة 2019 بكلّ تجلياتها الحلوة والمرّة، وتحدياتها الكثيرة وآلامها الفظيعة وخيباتها العديدة وخسائرها الجسيمة وإشكالياتها العقائدية والوطنية والاجتماعية، يقع المسيحيون مرة أخرى ضحية أخطاء ساسة البلاد وسراق المال العام ولصوص الليل والنهار وأدوات الق*ت*ل على أيدي جماعات مسلحة منفلتة غير منظبطة تأبى إلاّ فرض أجنداتها على واقع الشارع العراقي الوطنيّ الثائر الذي يغلي على صفيح من نار وفكر يرفض المكر والتسويف والمماطلة بفعل الشرّ والشنار. لكنّ العقل والمنطق والإرادة المستقلّة لا يمكنها الرضوخ لهذه جميعًا بإلغاء طقوس رمزية كنسية شرقية عريقة لا تتضمن سوى صلوات وابتهالات وتراتيل تمجّد رب السماء والأرض وتبتهج بميلاد مخلّص الأكوان بحسب العقيدة المسيحية التي ترفع نشيد الملائكة المسالم “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة الصالحة لبني البشر”.

من هنا فإنّ الارتجال غير المبرّر من جانب غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو هذه السنة بإلغاء التقاليد الكنسية الشرقية بمناسبة أعياد الميلاد وراس السنة من قداديس وصلوات ورموز طقوسية باسم كنائس العراق من دون تفويض واضح من باقي رؤساء الكنائس الشقيقة ليس مقبولاً، وإنْ جاء بحجة مسايرة الظرف والتعاطف مع محنة العراق والعراقيين. ومع تقديري بكون الإعلان غير الموفّق هذا جاء بناء على استشارة أو تدخّل أو نصيحة من جهات أمنية داخلية غير رصينة بالغت في تحذيراتها، إلاّ أنّ الرضوخ بهذه البساطة لمثل هذه التحذيرات الهزيلة لم يكن متوقعًا من غبطة بطريكنا المح*بو-ب المعروف بكارزميته المجتمعية وفكره المستنير ووطنيته العالية بالتعاطف مع شعبه العراقي وليس المسيحي حصرًا. فهو أبٌ للجميع وقدوة للمرجعيات المسيحية وغير المسيحية وعلامة وطنية بارزة في سماء الوطن لا يخشى في الحق لومة لائم حين يقتضي الظرف بقول كلمة الحق والعدل والإنصاف. لقد كان الأجدر بغبطته أن يوصي بنصب خيمة ميلاد متميزة وسط ساحة الشموخ والتحدّي والكرامة، يعلوها شعار السلام وترتيلة الملائكة إيمانًا بسلمية الاحتجاجات، وتأكيدًا لشعار العدالة والمساواة الذي ينشده الجميع ومنهم المسيحيون وسائر المكوّنات الأصيلة في البلاد الصغيرة منها والكبيرة، ومناصرةً لحقوق المحتجين والمنتفضين والثوار ضدّ الظلم والفساد.

عتبي اليوم كما بالأمس القريب، على رئاسة الكنيسة الكلدانية بالدرجة الأولى التي تتولى زمام تقديم تنازلات غير مقبولة للواقع المتأزم الذي يحاصر المسيحيين منذ عقود مظلمة ليكونوا دومًا ضحية ما يجري بسبب الأحداث السلبية التي شهدتها وما تزال تشهدها البلاد من دون إنصاف ولا هوادة. فمطابخ السياسة النتنة وغير النزيهة تواصل اليوم كما بالأمس القريب إبراز رائحة الفساد بكلّ اشكاله، مزيدًا عليه حرمانَ أهل البلاد الأصليين المتجذرين بعمر التاريخ لأكثر من سبعة آلاف سنة من الاحتفال بتقاليدهم التي اعتادوا عليها منذ ميلاد طفل المغارة في بيت لحم. ومن المؤسف أن يعتاد المسيحيون صاغرين على مثل هذه التنازلات خاصة في عراق ما بعد الغزو الأحمق في 2003، كما حصل فيما قبلها حينما كانت قيادات كنسية هزيلة “تتبرمك” وتعلن عن مبادرات خائبة بإلغاء مناسبات دينية “طقوسية” متجذرة في تقاليد الكنائس الشرقية الرسولية العريقة، تمامًا كما يحصل اليوم بإلغاء قداديس ليلة العيد ومثلها حفلة شعلة الميلاد المعروفة. فهل شهدنا اتخاذ أديان أو مذاهب أخرى في المجتمع العراقي مبادرات من هذا النوع بإلغاء طقوس عيدية أو صلوات أو ابتهالات في ظروفٍ مشابهة؟ إنّ احتفالات المسيحيين بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة لا تخرج عن كونها طقوسًا محض دينية وتقاليد كنسية بعمر الكنائس الرسولية الشرقية وليست احتفالية ترفيهية زائدة وخارجة عن المعتاد. والأمرّ من هذا أنّ الكنيسة الكلدانية قد اعتادت النطق باسم مسيحيّي العراق بالرغم من كونها جزءًا من هذه الأخيرة وليست سيّدتَها ووصية عليها وذلك بحجة تشكيل أتباعها غالبية الشعب المسيحي. في حين أنّ مسيحيّي شمال العراق الذين يشكلون قاعدة الكنيسة الكلدانية يُؤثرون تعدادَهم ضمن عِرق الشعب الكردي قبل أن يرفعوا راية الصليب والمسيحية ثم الكلدانية. في الأقلّ هذا ما رشح من أفواه قادة هذه الكنيسة وأتباعها في مناسبات عديدة. وذات الشيء ليس غريبًا في هذه الأيام العصيبة.

تحيتي ومحبتي وتهانيّ الصادقة لرئيس الكنيسة الكلدانية بمناسبة عيد ميلاد سيّد البشر ومخلّص الأكوان بحسب العقيدة المسيحية، الطفل المولود في مذود بسيط قبل أكثر من ألفي عام علامة مضيئة على تواضعه وبساطته وأخذه صورة طبيعة البشر. ولغبطته منّي مواطنًا أمينًا وأخًا صغيرًا وصديقًا وفيًّا وزميلاً سابقًا، كلّ كلمة طيبة ومؤازرة ميدانية وكنسية. وهذه دعوة ملحة كما في سابقاتها، لغبطته باستشارة رؤساء باقي كنائس الوطن مستقبلاً لحين تفويضه رسميًا النطق باسمها جميعًا، وهذا ما دعونا إليه مرارًا وتكرارًا حين توفر الظروف وتصافي النيات وعقد الإرادات. فما سبّبه إعلان غبطته من لغطٍ في أوساط الشعب العراقي عامة والمسيحيين بصورة خاصة ومَن يعني لأمرهم في الداخل والخارج، بإلغاء احتفالات أعياد الميلاد هذه السنة ومنها إقامة القداديس والصلوات الطقسية بحجج وتبريرات وتحذيرات صادرة من جهات غير رصينة أو مقربين أمنيين بتحديد تنقلاته وزياراته، لم يكن موفقًا من وجهة نظري. ولو استشار أهل العلم والدراية والحرص، لكنتُ من المشيرين إليه بالاحتفال مح المنتفضين والمحتجين في ساحة الكرامة والشموخ، هو أو وكيلُه أو مَن ينسّبُه لهذه المهمة المسيحية الوطنية. وإنّي مُزيدٌ عليه محبتي واحترامي لما فيه من قوّة كارزماتية شعبية ومن حب وتقدير وسط المجتمع العراقي نتيجة مواقفه المؤازرة لحقوق الشعب كلّ الشعب وجرأته الشخصية في تبيان التحرير والتحرّر والتأوين في العقيدة اللاهوتية وإبراز الفكر الوطني والاجتماعي المستنير بمناسبة وبدون مناسبة.

تهاني القلبية لكلّ شعب العراق الطيب المظلوم بهذه المناسبة، ونحن نشهد صدق مشاعره وتعاطفه مع مسيحيّي البلاد من المرابضين الصامدين أو المهاجرين أو المهجّرين الذين عرفوهم شعلة متقدة في الوطنية والح*ما*سة والجدّية والإخلاص في العمل. فذكريات الأمس الطيبة لشعب متكافل متآزر محبّ لا تنتهي ولن تنتهي، بل ستبقى مدى الأزمان في ذاكرة كلّ الطيبين المحبين للوطن ولأهله. وما النصر القادم والفرَج الموعود إلاّ من عند الله بجهود الغيارى وحسن النوايا.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!