الحوار الهاديء

الصرخة ، التجاوب ، المقترحات / بين الواقع والطموح

د. عبدالله مرقس رابي     

 

 

                       الصرخة، التجاوب، المقترحات

                              بين الواقع والطموح

د. عبدالله مرقس رابي

                  أطلق غبطة البطريرك الكاردينال ساكو في 17 حزيران صرخة بعنوان” هل سيهب المسيحيون العراقيون لاجتماع يناقش أوضاعهم ” وفي الثاني من تموز الحالي أصدر أعلام البطريركية الكلدانية كلمة بعنوان “مقترح البطريرك ساكو حول (أجتماع ) لدراسة وضع المسيحيين العراقيين” موجه الى الذين أستجابوا وتفاعلوا أيجابياً مع صرخته.

يوجه غبطته هذه النداءات والتوجيهات والمقترحات منذ تسلمه السدة البطريركية في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية قاسية ومضطربة لفقدان حكم القانون والدولة لظهور حكومات ضعيفة مُسيرة، مما ادى الى انتشار الحروب المحلية والفساد وعكست سلباً على المجتمع العراقي برمته وعلى المسيحيين خصوصاً.

تأتي من حرصه على المجتمع العراقي والمسيحيين كمسؤول روحي منطلقاً من اساسيات اللاهوت الذي يؤكد على رفع الغبن والظلم عن الجماعات البشرية وحرص الكاهن على رعيته. الامر الذي يعدون البعض تدخلا بالسياسة عندما لايرون مصلحتهم تتحقق حينها، او يسكتون او يباركون عندما يرون ان ما يوجه به يتوافق ومصالحهم.

أذا كانت الغاية من الصرخة هي لتاسيس تجمع سياسي، أوتشكيل لجنة، أوتأسيس مرجعية. في كل الاحوال لابد  من  تشخيص واقع المجتمع العراقي عموماً وواقع المسيحيين بوجه خاص لكي يتمكن المرء من تحديد فيما اذا سيكون هناك توافق بين الواقع ومتغيراته والطموح الذي يسعى من أجله غبطته تجاه المسيحيين في العراق. هل يساعد هذا الواقع لتحقيق الطموح؟ هذا ما أحاول تشخيصه من وجهة نظري أستناداً الى المعطيات والمؤشرات المُتاحة.

تتمثل معاناة المسيحيين في العراق بحسب النداءات التي تطلقها البطريركية الكلدانية وبعض من الاحزاب السياسية للأثنيات المسيحية بين حين وآخر منذ عام 2003 بحزمة من المؤشرات وهي:

التمييز على أساس الدين. ليست معاناة المسيحيين على اساس الدين وليدة الظروف الحالية اليوم، وانما ترجع الى  1400 سنة أي جراء خضوع المنطقة برمتها لحكم الشريعة الاسلامية. فالتاريخ يعلمنا على مدى العصور أن دين الدولة الرسمي هو الاسلام وهو مصدر التشريع، ولايجوز تشريع قوانين مخالفة لتعاليمه، وهذا ما تؤكده الدساتير التي تعد قانون الدولة الرسمي ومنه تنبثق القوانين الاخرى التي تُنظم مختلف شؤون الحياة في ظل الحكومات المدنية الجمهورية منها والملكية والحكومات الدينية. وهذا ما ثبته المؤتمر الاسلامي العالمي في مقرراته والزم أعضاءه التنفيذ.

أية حكومة عراقية لايمكنها الخروج عن سياق التشريع الاسلامي، فكيف في ظل حكومات  تستحوذ عليها أحزاب دينية رسخت المفاهيم الدينية والطائفية في السلطة ننتظر منها أستجابة حقيقية لاعادة النظر بمواد الدستور المرتبطة بالدين؟ لا أظن ستتحقق لعدم وجود الامل في ألغاء المادة الدستورية التي تؤكد على أن الدين الاسلامي مصدر التشريعات.

فاذن ستبقى كل المعاناة التي تخص المسيحين جراء قانون الاحوال الشخصية عن ظاهرة أسلمة أحد الوالدين ومصير الابناء القاصرين قائمة. وستبقى المناهج الدراسية تحتوي مواداً تُثير النعرات الطائفية، ويستمرتقييد بعض الانشطة الاقتصادية للمسيحيين.علماً أن هذه المعاناة كانت قائمة قبل عام السقوط، الا ان الشعور بها حينئذ عن قرب معدوم لاختلاف الظروف الامنية وطُغيان مظاهر الحياة المدنية على الدينية.

مصادرة الكوتا المسيحية في الانتخابات البرلمانية: باختصار، السياسة هي فن تحقيق المصالح الشخصية والحزبية الضيقة قبل كل شيء وثم في الاخير بعضهم يفكر بمجتمعه، وهذا طموح المنتمين الى الاحزاب السياسية، ومن يقول غير ذلك فأنه يخدع الاخرين، وهذا السياق الجاري في كل المجتمعات البشرية مع التفاوت النسبي مكانياً وزمانياً ، بأدلة واضحة هي تشبث القياديين السياسيين بالسلطة سواء في تنظيمهم السياسي او الحكومي، والصراعات على المناصب بين منتسبي الحزب الواحد نفسه التي تقود الى الضعف من أداء الحزب وثم فقدان جماهيره. فتراهم يبدلون في قيمهم السياسية ومواقفهم بين فترة وأخرى ويغيرون لغة خطابهم وتاييداتهم، فالخدعة والكذب والتسقيط للأخر والانكار وحتى الشتائم والتهديدات هي من السمات المستفحلة في شخصيتهم وادائهم. وتلاحظهم يتكتلون مع أحزاب أخرى أكثر شعبية ونفوذا في المجتمع من أجل تحقيق المنافع الشخصية.

على ضوء هذا الوصف للسياسيين،لايمكن استبعاده عن الاحزاب السياسية للاثنيات الثلاث المسيحية في العراق، فاذا لم تمارس لعبتها سوف لا يمكنها تحقيق ما يصبو اليه أعضائها فتبقى أحزاباً شكلية أو تنهار كما حصل لبعضها. فأتهام الاحزاب بتبعية ومناشدتها للاستقلالية غير منطقي. فمن حقها أن تتكتل وتبحث عن السبل التي تحقق غاياتها ومنها اتفاقاتها مع الاحزاب الكبيرة في استراتيجيتها للشروع بالانتخابات البرلمانية وما بعدها. وهذه الحالة تُفهم من قبل البعض أنها مصادرة الكوتا المسيحية من قبل الاحزاب المتنفذة في العراق. أنما في رايي هي حالة طبيعية لكل الاحزاب الصغيرة أينما وجدت.

لو أفترضنا أن أحزاب شعبنا تخوض الانتخابات باستقلالية دون اتفاقات مبرمجة مع غيرها، وحصلنا على خمسة نواب يمثلون المسيحيين. يا ترى هل سيتمكن هؤلاء الخمسة من زحزحة الامور المطروحة كمعاناة المسيحيين في البرلمان مقابل أكثر من 300 نائب، وهل بأمكانهم أقناع الاخرين لتأييد ما يبغون تحقيقه عند التصويت لاقرار قانون ما  لصالح المسيحيين في ظل الدستور الذي لا يقر الا ما يحمل الاعضاء الاخرين في أفكارهم وسياق حياتهم؟ بالرغم من تبعيتهم للاخرين حالياً لايمكنهم تحريك ساكناً فكيف في حالة أستقلاليتهم؟ فهؤلاء يرون أن التبعية أفضل على أمل أن يحققوا مقعداً برلمانياً وبعض من المناصب لمؤازريهم أو اعضاء احزابهم من لا شيء لكسب الموضوع سواء باستقلاليتهم او تبعيتهم.

أما الترشيح للوزارة وبعض المناصب الاخرى فهو مرتبط بالكوتا المسيحية، الواقع القانوني حالياً يؤكد أن الاكثرية في الكتلة هم الذين يحق لهم ترشيح أحد الى الوزارة، فلا يجوز لاية مرجعية أخرى التدخل بهذا الشأن بحسب القانون. فمن الطبيعي سيرشحون أحد أو احدى الشخصيات الموالية لافكارهم وتطلعاتهم. وقد حدثت وتحدث اشكالات للترشيح للوزارة ،ولكن في الاخير تُحسم وفقاً لما يقره اعضاء الكوتا.

هناك توهم في أفضلية الترشيح من جهة دون أخرى، ففي كل الاحوال سوى رُشح من قبل الممثلين في البرلمان أو أية مرجعية دينية مسيحية، ما الذي سيتغير؟ الوزارة في كل البلدان أعمالها مرتبطة بقانون الدولة، فلا يمكنه الوزير أو المدير العام أو السفير أن يتجاوز القانون المُناط بوزارته، والا أما يُعاقب أو يبقى أسير الفساد الاداري. هل بأمكان الوزير المسيحي أن ينحاز الى المسيحيين في وزارته؟ بالطبع لايجوز.

حالياً تقلدت مسيحية وزارة الهجرة والمهجرين، هل ستركز على المهجرين المسيحيين وتتعاطى مع مشكلاتهم فقط  أم عليها أن لاتميز بين كل مكونات المهجرين؟ بالطبع وفقاً للقانون ان لاتميز. هل تتمكن أن تجتاز صلاحياتها المالية التي تنفقها للمهجرين؟ كلا ، فلايمكنها أن تعمر القرى المسيحية دون قرى المكونات الاخرى ولها ميزانية مخصصة لا يمكن تجاوزها. فاذن لو كانت وزيرتنا مرشحة من كتلة باب*لي*ون الكلدانية أو البطريركية أو من الهيئة المرتقبة من الصرخة، النتيجة هي نفسها. فهنا وزارتنا هي رمزية معنوية لاغير. وهذا ينطبق على المناصب الاخرى أيضاَ المخصصة للمسيحيين.

التغيير الديمغرافي والاستحواذ على ممتلكات المسيحيين والهجرة: هذه المشاكل ترتبط بالدرجة الاساس في طبيعة النظام السياسي برمته ولا يرتبط بممثلي المسيحيين في البرلمان أو بتشكيل سياسي مسيحي او مرجعية ما. اذا القانون هو السائد والامان متوفروالتناحر بين السياسيين ينعدم من خلال ميليشياتهم العسكرية ويتحكم على الارض الجيش العراقي بهيبة وقوة سيكون كل شيء على مايرام لجميع العراقيين. وعليه مهما قالت مرجعياتنا الدينية واحزابنا السياسية وممثلي المسيحيين في البرلمان لا جدوى منه ما لم يتحقق ما أشرت أليه وهذه هي مطاليب كل العراقيين ذوي المشاعر الوطنية.

الوجهة الثانية للموضوع هو التناقضات التي ستنجم عن ما تحققه الصرخة وهي:

واقع الحال للمسيحيين في العراق يختصر في ثلاث متغيرات:

النقص الديمغرافي الحاد بالنسبة الى عموم سكان العراق وهو في تناقص مستمر بسبب الهجرة.فحجم السكان وفقاً  للدراسات الديمغرافية يضطلع دوراً كبيراً في عملية التنمية والاستقرار، أو  في أمكانية التنافس مع شركائهم في الوطن وبالاخص عند فقدان قوة القانون. فكلما يزيد عدد السكان كلما يكون بمثابة قوة، حيث تزيد فرص وجود المتخصصين في مجالات المعرفة النظرية والعملية، توفر الاموال ، ومنافسة المكونات الاخرى، تزداد فرص وجودهم في مؤسسات الدولة فيكون لهم دوراً متميزاً في صناعة القرار وأثبات الوجود.

التشذرم الطائفي:  لاتحتاج المسالة الى التفصيل، أصبح معلوماً عبر كل المراحل التاريخية أن المذاهب الدينية لا يمكنها التضامن والتوافق على المواقف التي تتعرض عليها لاسباب متعددة تخص العقيدة والادارة والسلطة وترسيخ مفاهيم الغاء وهرطقة الاخر. وهذا هو واقع الحال للمذاهب الدينية المسيحية في العراق، ومن يقول غير ذلك فيخدعنا. وعلينا أن لا نتوهم ببعض الحركات التظاهرية التي تبين تضامنهم ، انما الحقيقة هي في العقل الباطني. ومن يتحدث عن الوحدة بينهم فذلك هو أسير العاطفة والخيال.

المفارقات السياسية: تعاني الاحزاب السياسية للمسيحيين في العراق من الافتراق الحاد سواء بين أحزاب الاثنية الواحدة من جهة أو الاحزاب بشكل عام، وما الصراعات وعدم الاتفاق بينهم في المواقف وعدم توحيد القرار الا مؤشرات تعبر عن واقعهم الحالي.

أذن ماذا أتوقع من نتائج الاستجابة لصرخة غبطة البطريرك ساكو في ضوء المعطيات المشار أليها؟

لست ضد أو مناهض لاي تضامن مسيحي في العراق أو رافضاً لصرخة البطريرك الموقرابداً، لكن من أستقراء الواقع كمهني في البحث الاجتماعي الذي يكون المجتمع برمته مادته الدراسية والعملية – من يقول انتم في بلدان الانتشار لا معرفة لكم بالواقع العراقي لانكم لاتعيشونه فهذا وهم في ظل الثورة المعلوماتية وما يخصني شخصياً كمهني في تشخيص واقع المجتمع، أينما أكون لي طرقي المنهجية لاستقراء المعلومات- أرى:

طالما أكد اعلام البطريركية على أن المستجيبين لنداء البطريرك هم: الرابطة الكلدانية، وهذه لايمكن حسابها ضمن الاستجابات لانها مرتبطة بالكنيسة بحسب نظامها الداخلي الحالي، وجمعية حدياب للكفاءات، وحزب ابناء النهرين وبعض الشخصيات، لم يحدد الاعلام عن ما هيتها ومكانتها وعددها. طالما مؤشر الاستجابات ضعيف، فالمتوقع هو عدم وجود رؤية جماعية تضامنية مستقبلية. وهذا أحد مؤشرات التباين بين الواقع والطموح.

وجود تشكيلة سياسية الى جانب أخرى مهنية أختصاصية ، حزب أبناء النهرين وجمعية حدياب للكفاءات على التوالي، غير موفق لان السياسي ليس مثل صاحب الكفاءة في أختصاص معين لكل منهما نظرة مختلفة للواقع والمواقف. صاحب الكفاءة يبحث علمياً ومنهجياً ويطبق ميدانياً بينما السياسي لا يبحث الا اولا على مصالحه الشخصية والمنافع المتوخاة لحزبه. أما بالنسبة الى الرابطة فموقفها مرتبط  بالكنيسة وفقاً لنظامها الداخلي الحالي كما ذكرت  آنفاً.

لو أفترضنا انبثقت هيئة أو لجنة أو خلية أزمة وما شابه من اللقاء، هل سيكون دورها أكثر قوة من الاحزاب السياسية وممثلي البرلمان الحاليين في التأثير على القرار السياسي العراقي في ظل المعطيات المشار اليها للواقع العراقي اعلاه؟ اذا الجواب نعم، ماهي مقوماتها الدافعة لها للنجاح. لا أظن ستتوفرلانها بحاجة الى:

تضامن كل القوى السياسية المسيحية وهذا سوف لم يحدث، فهل الاحزاب الحالية سينتهي دورها، فهذا تناقض، هل ستنعدم الحاجة الى ممثلين في البرلمان؟ هذا تناقض اخر. فاذن سيزداد التناحر لانه اضفنا على المتناحرين جهة أخرى. علماً وفقا للقانون العراقي اعضاء البرلمان هم الممثلون الشرعيون للمكون المسيحي، وهذا يُزيد من الارباك لدى الحكومة العراقية للتع-اط*ي مع المسيحيين. أما لو كانت الخطة المستقبلية للهيئة المرتقبة هي التي ستقرر من يُدعم في الانتخابات، ومن سترشح للوزارة أو المناصب الاخرى فلا جدوى من ذلك في ظل المعطيات المُشار اليها اعلاه عن الواقع العراقي السياسي.

أهم  عامل لضمان نجاح الهيئة المرتقبة هو المال، يا ترى من هي الجهة الممولة؟ واثق جداً لو عرف السياسيون أن هناك أموالاً ستخصص لها سيركضون كلهم للالتحاق، مثلما ركضوا والتحقوا مع المجلس الشعبي الكلداني السرياني الاشوري عندما كانت باقات الاموال توزع بلا هوادة، وحينها لم يكترثوا لمبادئهم السياسية مقابل تلك الاموال، الا القليل منهم جدا وبجدارة هو الحزب الديمقراطي الكلداني والمنبر الديمقراطي الكلداني الموحد. ولما بدأ الصرف بالانخفاض فأبتعدوا رويداً رويدأ كأنما شيئاً لم يحدث. فضمان المال مهم جداً.

أعتقد ان تشكيل مرجعية موحدة لن ستتحقق بدليل لا استجابة من الاحزاب كافة ولا من الطوائف الدينية للصرخة وان كان هناك شيء ما وراء الكواليس فهذا بحث اخر وسيتبين لاحقاً. بل سنزيد جهة أخرى كما أشرت لتفعيل التناحر. والاهم هو أيجاد مخارج فاعلة لتغيير النظام السياسي وتوجيه المواطن العراقي نحو المفاهيم الوطنية والمدنية وسيادة القانون وتفعيل قوة الجيش، وليكن هذا شعار وموقف مسيحي العراق دائما، لا يكون بتشكيل مرجعية مسيحية أودينية لتعد كمؤشر لترسيخ الطائفية وللتع-اط*ي معهم كمسيحيين بل كمواطنين عراقيين، فهكذا توجهات هي متناقضة من جهة نطلب عراق خالي من الطائفية ومن جهة نطالب بتاسيس مرجعية تدافع عن المسيحيين !!

وضعت مؤشرات ومعطيات عن الواقع العراقي عامة والمسيحيين خاصة امام المهتمين بالموضوع لعله يستفيدون منها وليست الغاية الا لترسيخ مفاهيم التضامن والتساند بين المسيحيين وتوجيه بوصلة الفكر نحو الوطن الواحد. وتشخيص ظاهرة تهم الجميع، بان في ظل الواقع الحالي للمجتمع العراقي السياسي وواقع المسيحيين لا يمكن ان نحقق الطموح.

http://saint-adday.com/?p=38357

http://saint-adday.com/?p=38100

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!