في رواية -حادث مؤسف للغاية -للكبير دوتويفسكي لا تندثر
نزلت فكرة تقسيم قراءتي العاشقة المزمع تقديمها لقصة ” حادث مؤسف للغاية ” للكبير دوتسويفسكي إلى بضع حلقات صدفة ،وكنت قد أنهيت قراءة هذا المنجز الأدبي الفائق الروعة للمرة الثالثة ضمن حيز زمني قصير. لا غرو، فالأدب الرفيع يفرض إيقاعا وموسيقى بنكهة طويلة الأمد . ويرحل بالذات على صهوة اللذة عبر شرفة من الدرجة الممتازة حيث الرؤيا ساطعة والقمرة مخصصة للاستكشاف المريح والاطلاع بأريحية على الحقب السردية الثلاثية الأضلاع للمنجز الأدبي. هناك فقط تنهض الإطلالة على شساعة التأمل وعمق التركيز ونشوة بالغة المتعة والحميمية الشخصية على فضاءاته وشخوصه . ولا تندثر المتعة للتو ،بل تعمر طويلا طويلا في الذاكرة مثل آية قرآنية .
في الحلقة الثالثة من الرواية البديعة الذائعة الصيت للكبير دوتويفسكي وعندما تدق الساعة منتصف الثانية عشرة ليلا ،ويهم سعادة الجنرال ايفان إيليتش بالانصراف. سيلف معطفه الثمين المبطن بالفراء حول جسمه ويخرج رفقة سيميون ،لكنه لم يجد عربته الخاصة في انتظاره. كانت هناك فقط عربة سيميون التي يجرها حصان واحد. وصاح غاضبا مزمجرا ” بحق الشيطان أين ذهب تريفون بعربتي؟ لكن قبل ذلك دعونا نجمع شظايا الحادث، ونسيج مسرح الج#ريم*ة ثم نسلط الضوء على الدوافع والأسباب لمعرفة النتائج والمآلات.
في البداية ، سوف نتعرف على قصة ثلاثة مواطنين من رتبة جنرال الأول سيميون ايفانوفيتش. الثاني وايفان ايليتش برالنسكي زميل سابق ومرؤوس له حاليا لم يرق إلى صاحب السعادة – أي جنرال -إلى منذ أربعة أشهر . أما الثالث فهو مضيفهما . وهو بالمناسبة مستشار بالمجلس الخاص. ليس غبيا ولا أحمق لكنه أعزب في 45 من عمره ليس عن أنانية ، يضبط المواعيد ويحترمها بالدقيقة والثانية. هاهم قد شرعوا الثلاثة في احتساء الشامبانيا على أن ينهيا حفلتهما ويعودا إلى بيتهما مع حلول منتصف الليل . وهنا لابد من الإشارة إلى صرامة مضيفهم فيما يتعلق باحترام المواعيد .
سبق أن لمحنا إلى رغبة صاحب الفيلا وهاهو يريد أن يظهر ذكاءه أمام الناس . ونحن نعلم من تفاصيل حياته أنه لم تكن لديه سوى أمنية واحدة ،أن يمتلك بيتا خاصا يليق به كسيد محترم في حي راق . بيت له حديقة واسعة بعيدا عن ضجيج الشوارع العامة . وهذا ما فعله القدر و تحقق له في امتلاك قصره الفاخر الأنيق . وكان هناك على الدوام مظهرا من مظاهر الأبهة لديه، أن يركب عربة بلون الشوكولاته يقودها حوذي اسمه ميخي . وسيكون هذا كله ثمرة 40 سنة من الترشيد في الانفاق الاقتصادي .باختصار فصاحبنا رجل طيب ومتفائل وله قلب شاعر شفيق. ولأن للأحلام مهاويها السحيقة ، فقد تظهر عليه في السنوات الأخيرة نوبات من خيبات الأمل تستولي عليه في فترات متقاربة . وذلك ما يجعله شديد الضيق سريع الهياج . يكاد يعتبر أي معارضة له بمثابة إهانة . ماعلينا . كان أشد الإيمان في مناقشاته بجدوى فكرة النزعة الإنسانية وهي جديرة أن تغدو حجر الزاوية في الإصلاحات المستقبلية والتجديد في روسيا بوجه عام. وضمن هذا الاعتقاد ثمة كوجيطو خاص به ” أنا إنساني إذن أنا مح*بو-ب ،أنا مح*بو-ب إذن أنا موثوق بي. أنا موثوق بي إذن أنا مصدق .أنا مصدق إذن انا مح*بو-ب” .
يصيح غاضبا ” بحق الشيطان، أين ذهب تريفون بعربتي؟ يالهؤلاء الخدم الأوغاد ! لقد ذهب هذا” الكلب” إلى عرس لصديقته أقيم في هذا الجانب من المدينة. وأضاف في اختناق” يحدث هذا رغم تحذيري له بشدة ،عليها اللعنة، ساريك غدا يا وغد” وتابع في غضب ” سأعود ماشيا على قدمي كي أغيظك وأفزعك. فيعود الحوذي لاحقا ، ويكتشف هذا الوغد أن سيده رجع ماشيا “
في طريقه نحو بيت العريس كان راس إيفان يدور وفي حالة انتشاء بعد أن احتسى خمس أو ست كؤوس شامبانيا. بيد أن الليلة كانت كثيرة الصقيع وهادئة ولا رياح فيها. وضوء البدر يغمر الأرض بضياء فضي صامت. وهو ماشيا وجد شيئا من السحر في البيوت الخشبية الصغيرة القائمة على جانبي الشوارع المقفرة. وقال لنفسه” كان خيرا على كل حال أن أعود ماشيا وسيكون هذا درسا لتريفون “خادمه” وأما بالنسبة لي فهي لذة ملتاعة . يجب علي أن أمشي وأنا واثق بأني سأجد عربة أخرى في جادة الطريق. تمثلات وتهيؤات وتماهي مع سيميون .كان ايفان يجادل نفسه في عبارات متكسرة متقطعة . لن أشرب بعد الآن أبدا. فعندما يسكر المرء تتكلم أكثر مما ينبغي، وتصبح في الغد نادما وتتمنى لو لم تتكلم كما تكلمت. وهم جميعا أوغاد على كل حال .
فجأة سمع على مسافة بضع خطوات صوت موسيقى تنبعث من بيت خشبي متهدم جدا. ولمح شرطيا وسأله بعد إبراز الوسام الرفيع على صدره. منزل من هذا أيها الرجل الطيب ؟ فأجاب الشرطي بعد أن شد قامته ونظر إلى علامة المنصب العالي في احترام زائد. إنه الموظف المدني بسلدومينوف إنه يعمل كاتبا. وهذا حفل زفافه. وتابع قائلا ” أجل ياصاحب السعادة ،إنه تزوج من مليكوتاييف الذي كان موظفا في المجلس البلدي والبيت مهر العروس . لقد سألتك عن هذا لأني رئيسه أنا جنرال في الديوان الذي يعمل به بسلدومينوف.
وللقارئ الكريم أن يعرف شيئا قبل أن يتساءل من تراه يكون بسلدومينوف؟ إنه ببساطة موظف متواضع جدا ومرتبه حوالي 10 روبلات في الشهر إنه شخص صغير في السن جدا ، له أنف طويل أقتى وشعر غزير أشبه بالكتان في تلبده نحيل جدا و تبدو عليه آثار سوء التغذية . وله سروال رث بدرجة جارحة للاحتشام . وسحنته لم تكن جذابة أبدا بحيث لا توحي بالتقزز وحسب بل بالغثيان أيضا . كان يريد أن يضيف معلومات أكثر حول مرؤوسه .لكنه شرع على الفور يحجب سلاسل طويلة من التوصيفات الماكرة والأفكار البلهاء التي تومض أحيانا في ذهن ثم تختفي بمثل لمح البرق .أما العريس بسلدومينوف فقد عاد لتوه من الكنيسة مضطربا من فرط الفرح يحذوه الأمل ومتلهفا على تذوق مناعم الزواج والسعادة الزوجية . إنه يوم من أسعد حياة موظف صغير وهو يحتفي بضيوفه ويقيم لهم مأدبة فقيرة متواضعة .لكنها بهيجة مرحة وكلها مودة ووئام لكن ماذاعساه يصنع لو علم أن الجنرال رئيسه يخطو خطوات حثيثة نحو بيته. لعله يصعق؟
أما الجنرال المزهو بنيشانه وانتشائه فقد تراءى له أن ما يقوم به هو البطولة في منزعها الإنساني . وشرع يحدث نفسه بصوت مسموع” انا أذهب في منتصف الليل شخصيا إلى عرس مرؤوس مرتبه عشر روبلات في الشهر ههه لماذا ؟ هذا جنون ،محض خلط في الأفكار؟ أرجح أن هذا العمل لن يفهمه ستيبيان نيكيفوروفيتش إلى آخر يوم في حياته.
لكني أيها المشلولون الرجعيون سأمضي في هذا النهج حتى النهاية .سأحول عملا سيبدو في الظاهر جنونيا إلى عمل سوي أبوي سام وأخلاقي في آن واحد .سأمكث معهم في الحفل حوالي نصف الساعة أو أقل. وسأنصرف طبعا قبل العشاء مإلي وينحنونافعون نحوي ويتوسلون إلي وينحنون إلى الأرض. ولكني لن أقبل سوى احتساء كأس واحدة ثم أهنئهم وأنصرف قبل العشاء وسأقول لهم “عندي عمل هام. ومتى تفوهت بهذه الكلمة ستتغير سحناتهم جميعا ويبدو الاحترام والجد . هكذا أشعرهم بالتلميح اللطيف أن ثمة فارقا كبيرا بيني وبينهم . هذا هو الانطباع الذي يريد الجنرال أن يقدمه لضيوف فرح مرؤوسه بسلديمونيف لهم. فهل يكون صنيعه هذا معروفا في الديوان طولا وعرضا في اليوم الموالي . وهل سيعود في الغد جنرالا كالعهد بيه صرامة ودقة وحزما لا يلين . يتبع
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.