فن الرسم في العراق

الكاتب: وردااسحاق
فن الرسم في العراق
فن الرسم في العراق ، كيف كان وكيف تطور وما هو مستقبله ؟
علينا أن نعلم أولاً بأن في فن الرسم هناك تدخل الحاسة والفكرة والخبرة والمهارة والأبداع ، لكي تنتج موضوعاً جميلاً ومتكاملاً فيه معنى وغاية . فحواس الفنان تعمل من أجل أيصال الشعور المباشر الى فكرة وبدوره سيدرك المضمون والهدف الذي سيطرحه من خلال اللوحة على شكل موضوع ناضج ومفيد . أما الألهام في الرسم فمجاله محدوداً قياساً مع الغناء والشعر والموسيقى والتمثيل .
لنتناول أولاً الفترة التاريخية والثقافية للرسم والتي بدأت عند الأنسان القديم في الكهوف أي قبل التاريخ ، حيث أستخدم الأنسان في تلك الفترة أصباغ متكونة من سحق الحجارة التباشيرية الملونة فحاول خلطها مع الماء لكنه أكتشف أن الماء بعد جفافه يبدأ اللون بالتساقط لذا بدأ بخلطها بدهون الحيوانات فألتمس النجاح ، ومن هنا بدأت فكرة الألوان الزيتية . التلوين عند الأنسان القديم لا يعني لأجل التزيين فحسب بل كان يعني به غاية خاصة لوجوده ومن خلال تلك النشاطات الفنية أعطى للأجيال مدى مستواه الثقافي ، ومن هذا نجد بأن الأنسان بدأ يتطور في أستخدام الطين الأحمر والأبيض وأكاسيد الحديد البركانية والعظام المحروقة والفحم الحجري . فاللون الأزرق نراه مستعملاً لديه ، والذي أستخرجه من الصخور المتكونة من ثاني أوكسيد المنغنيز وأكتشف بعض الألوان النباتية التي تصبغ يديه عند قطفها أو أكلها . تطور الألوان يشير الى تطور الحضارة ، فلكل حضارة ألوانها المفضلة ، كما نجد في بعض الحضارات أن للألوان المستخدمة رموز لونية . فالأسود يرمز الى الليل أو الغموض ، والأحمر الى الفرح والأعياد والمناسبات والى الحروب ، وأن اله الحرب ( مارس ) أو المريخ هو اللون الأحمر . أما الأزرق فيرمز الى الشرق والأحمر الى الجنوب . والأبيض للغرب . والأسود للشمال …الخ .
أستمر فن الرسم في الحضارات العراقية القديمة الى وقت دخول المسيحية التي أستخدمت الفن لخدمة العبادة . لكن بعد دخول الأسلام حدد الفن بأكمله في مجالين فقط وهي الخط العربي والزخرفة الأسلامية . والسبب هو الحديث القائل ( المصورون هم أكثر الناس عذاباً في النار لأنهم يضاهون الله بخلقه ) أي بأعمالهم الفننية كالرسم والنحت يضاهون بخلق الله وكما وضحها البخاري في ( 5954) ومسلم ( 2107) فيقولون بأن كل مصور في القيامة مصيره نار جهنم . لحد هذا اليوم هذا الشرع جاري في بلدان عربية وأسلامية كثيرة كدول الخليج التي تفتقر لحد اليوم الى معهد أو كلية للفنون . أستمرت الحالى في العراق في الفترة الأسلامية بأستثناء فترة الواسطي التي رأى فيها الرسم النور لفترة قصيرة . أما بعد دخول الأستعمار العثماني البغيض ، فحرم المنطقة من كل شيء حتى من الدراسة . فالسلطة العثمانية لم تبني مدرسة أبتدائية واحدة في كل مستعمراته ، هكذا بقي الفن في سبات عميق الى سقوط الدولة العثمانية .
أول فنان عراقي درس الفن خارج العراق كان الفنان عبدالقادر الرسام ( 1882-1952) الذي يعتبر البكر في الحركة التشكيلية العراقية والذي لعب دوراً كبيراً في أبراز هذا الفن بعد عودته من الدراسة في أسطنبول فنقل هذه المهمة بكل أمانة الى بلده ليرسم سواحل الأنهر وغابات النخيل وكوكبة الخيالة والآثار القديمة الشاخصة . كما رسم جداريات كبيرة على جدران ومقصورات سينما رويال والتي ظلت الى منتصف الخمسين من القرن الماضي .
ومن الفنانين القدامى رشاد حاتم الذي أسس أول مرسم كبير في متوسطة الكرخ في أواسط الثلاثينات . ثم فنانون آخرون تعلموا الفن في المدرسة الحربية في أسطنبول . ومن جيل الفنان عبدالقادر الفنان محمد صالح زكي ، والحاج سليم الموصلي ، وأمين زكي ، وعاصم حافظ . ومحمد سليم الموصلي والد الفنانين العظام جواد سليم وسعاد ونزيهة ونزار . أما الأشخاص الذين لم يحظوا بأنتباه مؤرخي الفن العراقي الحديث فنذكر الأديب الكردي أمين زكي الذي تقلد مناصب وزارية عديدة فقد كان رساماً بارعاً .
بقي فن الرسم بدون أهتمام من الدولة بعد تأسيس الدولة العراقية الى الثلاثينات حيث بدأت بأرسال بعثات طلابية الى الخارج لدراسة الفنون التشكيلية لأجل الدخول الى مرحلة جديدة لحركة فنية عراقية معاصرة . أقترح الملك فيصل الأول عام 1933 على وزارة المعارف لأرسال التلميذ فائق حسن بمنحة دراسية الى باريس . مات الملك قبل الذهاب فألتزم الملك غازي بأيفاده وفائق ما يزال في الصف السادس الأبتدائي . أتت تلك البعثة بثمارها ، فخلق فائق جيلاً من الفنانين ، أما هو فصار رسام العراق الأول . لديه جدارية كبيرة من الفسيفساء في ساحة الطيران في بغداد .
جواد سليم أرسل في زمالة دراسية الى باريس عام 1938 وكان في الثامنة عشر من عمره . في عام 1939 تلبدت غيوم الحرب فأجتاحت الجيوش الألمانية بولندة ، ومن ثم تحشدت على الحدود الفرنسية لأجتياحها فشد جواد سليم الرحال الى روما ليكمل دراسته في أكاديمية الفنون بأشراف زينيللي . من أهم أعماله نصب الحرية الشهير في ساحة التحرير في بغداد الذي خلد أسمه. التقى جواد في روما مع الفنان عطا صبري الذي درس هناك أيضاً من 1937 – 1939 . حصل على دبلوم من كلية سليد في لندن 1950 .  ومن الفنانين الرواد عيسى حنا الذي غادر العراق في مطلع التسعينات الى أميركا ومات هناك عام 2011 عن عمر ناهز التسعين . أما الفنان حافظ الدروبي فكان فناناً نشيطاً وكثير الأنتاج ، درس في أكاديمية الفنون في روما عام 1939 وعاد الى بغداد لدى أندلاع الحرب العالمية الثانية ثم اكمل دراسته في لندن علم 1946 . أبتدأ أسلوبه برسوم أكاديمية ثم أتجه نحو الحداثة . فتح أول مرسم حر لجميع الفنانين في الباب الشرقي . كما أسس جماعة الأنطباعيين عام 1954 . عمل رئيساً لجمعية الفنانين التشكيليين ، وعميداً لكلية الفنون . توفي في مطلع عام 1991 وكانت حرب الخليج الثانية ما زالت مشتعلة فطغت أصوات الحرب على نبأ وفاته .
أول دفعة من خريجي معهد الفنون الجميلة بعد تأسيسها فرع الرسم كان في عام 1945 . ومن الفنانين الرواد فرج عبو الذي درس في القاهرة وروما . رسم لكل مدارس الرسم وألف كتاب علم عناصر الفن بجزئين كبيرين . عمل أستاذ مساعد في كلية الفنون ، ورئيس قسم الفنون التشكيلية . الدكتور خالد الرحال من الفنانين الرواد . خريج كلية الحقوق – بغداد . درَس في معهد الفنون في نفس الفترة . نال الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة ليل في فرنسا . دَرَّسَ في جامعة بغداد ن ولعل لخلفياته الحقوقية والفنية أثراً في مبادرته لتشكيل جمعية الفنانين التشكيلية 1956 ، وتأسيس أكاديمية الفنون الجميلة 1962 . ومن الفنانين الرواد د. خالد القصاب الذي رافق الرواد في رحلات الرسم وأشترك معهم في معارض كثيرة بلوحاته .
المعرض السنوي الأول لجماعة الرواد كان في 1950 حضره جموع المدعوين والنقاد وأعضاء الهيئات الدبلوماسية ومحبي الفن . وكان للمعرض وقع كبير على مشاهديه علماً بأن كان هناك وقبل أربع سنوات معارض أخرى صغيرة . ضم هذا المعرض 150 لوحة لكل من فائق حسن ، جواد سليم ، وخالد القصاب ، ومحمد صبري وزيد صالح . كان للرسام يوسف عبدالقادر عدد من الرسوم الكاريكاتورية . كذلك شارك ناصر وفاروق عبدالعزيز ، وهما من طلاب الدورة الأولى لفرع الرسم في معهد الفنون . ثمنَ النُقاد المعرض وأصبح نقطة تحول في تاريخ الفنون التشكيلية العراقية. نجاح المعرض شُجُعُ جماعة الرواد لأقامة أربعة وعشرين معرضاً سنوياً على مدى السنوات التالية . تطور الفن كثيراً في السبعينات وما بعده وفتحت معاهد وكليات للفنون في كل أرجاء العراق الى أن وصل الى 15 معهد للفنون وخمسة كليات  . أملنا أن يستمر الفن في عراق الديمقراطية ويكون حراً طليقاً وبدون قيود ، وأن لا تتأثر سياسة دول الجوار على أفكار القادة السياسيين لكي لا تنعكس سلباً على مستقبل الفن التشكيلي والمسرحي ، بل نطلب للفن المزيد من الدعم والحرية لكي يستمر ويضاهي فنون العالم المعاصر ويعطي للعراق صورة مشرقة ووجه جميل ، وكما كان في عصر حضارات أجدادنا القديمة التي نتباهى بها وبالكنوز التي تركوها لنا من أعمالهم الفنية  ولعراقنا الجديد التطور والحرية والعدل والسلام .

المقال منشور في جريدة أكد الكندية يوم الأربعاء11 تموز 2012
www.mangish.com
بقلم
الفنان التشكيلي
وردا أسحاق عيسى
ونزرد – كندا..