فرص دول الاعتدال لتقويض التصعيد في غ*ز*ة
فرص دول الاعتدال لتقويض التصعيد في غ*ز*ة
دول الاعتدال تستطيع أن تضخ الدماء في البيان الثلاثي الحاث على ضرورة التفاوض، أو تتبنى ترتيبات بديلة تؤدي إلى التهدئة.
هل يمتلك محور الاعتدال بدائل
كشف تأييد عدد من الدول العربية المعروفة بالاعتدال في المنطقة لفحوى البيان الثلاثي الذي وقعه زعماء الولايات المتحدة ومصر وقطر أخيرا لوقف إطلاق النار في قطاع غ*ز*ة، عن رغبة كبيرة نحو جلب الأمن والاستقرار ووضع نهاية سريعة للحرب الانتقامية التي تشنها إس*رائي*ل على الفلسطينيين، والتي باتت مفتوحة على سيناريو غامض إذا انخرطت فيها إيران مباشرة، وحثت أذرعها الإقليمية على مشاركتها في توجيه ضربة متزامنة وقوية ضد إس*رائي*ل.
كأن إس*رائي*ل أرادت أن تضاعف حجم صلفها، فقامت السبت، أي بعد يومين من صدور البيان الثلاثي، بعملية عسكرية في مدرسة التابعين التي تؤوي آلاف النازحين، راح ضحيتها العشرات من المواطنين، في تحد سافر لجبهات الممانعة التي تتحداها، وفي مقدمتها إيران التي بدت مرتبكة في خطتها للانتقام من إس*رائي*ل، ردا على قيامها باغتيال رئيس المكتب السياسي لح*ما*س إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو الماضي.
أكدت قوات الاحتلال بقصفها مدرسة التابعين في غ*ز*ة المضي قدما في حلمها بإنهاء دور ح*ما*س والمقاومة عموما، والتمهيد لتصفية القضية ا*لفلس*طينية من مرتكزاتها الرئيسية، في الداخل والخارج، وقبل الوصول إلى هذه المرحلة استغلت بعض دول الاعتدال تعنت إس*رائي*ل لكشف ما تتبناه من مواقف مزدوجة، فهي أكدت استعدادها للعودة إلى استئناف المفاوضات الخميس المقبل، وقامت بعملية تنتهك فيها كل القيم الإنسانية، ما يجعلها تنأى عمليا عن الانخراط في مفاوضات تفضي إلى نتائج ملموسة قريبا وتحرج من يدعمون تل أبيب، حيث تصر على التمسك بشروط تمكنها من تحقيق أهدافها كاملة، أبرزها إنهاء وجود ح*ما*س ودورها العسكري والسياسي في غ*ز*ة.
◙ تراجع ح*ما*س وتقليص قدراتها العسكرية والعجز الفاضح في رد جبهات المقاومة يقود إلى اتساع نطاق الهوة القتالية ويستدعي مبادرة إنقاذ
◙ تراجع ح*ما*س وتقليص قدراتها العسكرية والعجز الفاضح في رد جبهات المقاومة يقود إلى اتساع نطاق الهوة القتالية ويستدعي مبادرة إنقاذ
لم تتحرك دول وقوى الممانعة بالشكل اللائق حيال الغطرسة التي مارستها ولا تزال إس*رائي*ل في غ*ز*ة والضفة الغربية، وخارجهما في لبنان وإيران والعراق واليمن وسوريا، وربما منحتها بعض العمليات الرمزية والهتافات الإعلامية الصاخبة مبررات للمزيد من التقتيل في غ*ز*ة والسعي لإنهاء دور المقاومة المضرة بمصالح إس*رائي*ل في المنطقة، لكن المقاومة بدأت تعاني من ارتباك في التعامل مع الآلة العسكرية التي تعمل بها قوت الاحتلال، والمدعومة من الولايات المتحدة بكثافة.
يشير العجز الفاضح في رد جبهات المقاومة بقوة على إس*رائي*ل إلى اتساع نطاق الهوة القتالية بين الجانبين، ويفرض أن تقوم دول الاعتدال بتبني مقاربة توقف النزيف السياسي الناجم عن الشد والجذب مع قوى الممانعة، وتستقطب قوى إقليمية ودولية مؤيدة لعملية تسوية تقود إلى وضع حد للتدهور الحاصل في القضية ا*لفلس*طينية، حيث تستثمر القوى المتطرفة داخل إس*رائي*ل في الاستنفار المضاد بلا فعل يكبدهم خسائر فادحة، وتحض هذه القوى حكومتها المتشددة على زيادة جرعة الق*ت*ل والهدم واغ*تصا*ب الأراضي في الضفة الغربية.
مطلوب مقاربة سياسية تلتف حولها قوى دولية عديدة من أجل وضع حد للمأساة ا*لفلس*طينية، ولا يعني انتصار إس*رائي*ل عسكريا أنها قادرة على توفير الأمن لشعبها. كما أن تراجع ح*ما*س وتقليص قدراتها العسكرية لن يردع دفاع الفلسطينيين عن حقوقهم المشروعة، ولن يصمت صوت الدول المعتدلة ويجبرها على دعم اتفاقيات إبراهيمية أو غيرها، طالما استمر منغص القضية الأم والحلول المعروضة مبتورة.
تحتاج دول الاعتدال أن تستغل النتائج السلبية التي تمخضت عنها حرب غ*ز*ة لكشف انعدام فعل جبهات التصعيد والمبالغات، وخطورة خطابها المعلن الذي لا يتسق مع مواقفها الحقيقية، ولم تؤد الهتافات الصاخبة والوعود الجوفاء إلى تغيير في مسار القضية ا*لفلس*طينية، بل منحت فرصة لتوظيف تصوراتهم المبالغ فيها والرامية للتخلص من إس*رائي*ل ضد مصالح الشعب الفلسطيني.
زادت على مدى سنوات طويلة دول عدة في مواقفها المتصلبة، مثل إيران وسوريا والجزائر وقطر، وأخيرا تركيا، ولم يقدّم أحد منها مساعدات نوعية تمكن الفلسطينيين من التصدي لصلف المستوطنين وتغول المتشددين، ووقف انتهاكات قوات الاحتلال المنتشرة بكثافة في الضفة الغربية، ثم تركت غ*ز*ة مكشوفة بعد عملية طو*فا*ن الأقصى، ولم تجد مقاومتها عونا يساعدها على الصمود والصبر ومواصلة التصدي.
من الضروري أن تخصص دول الاعتدال حيزا للتذكير بدبلوماسية الهتافات عبر وسائل الإعلام، وتتحمل هذه الدبلوماسية جزءا كبيرا من المأزق الذي دخله قطاع غ*ز*ة والمحنة التي يواجهها سكانه، فقد جرى النفخ في المكونات المادية للمقاومة وتضخيم قدرتها على وقف زحف قوات الاحتلال وتغولها في غ*ز*ة.
◙ رهانات من عوّلوا على محور المقاومةفشلت وعليهم أن يتركوا فرصة لدول الاعتدال لتتحرك بواقعية قبل فوات الأوان
وبعد أكثر من عشرة أشهر تهدمت السرديات ومعها غالبية مناطق القطاع، وبدأت تتلاشى الحياة فيه تماما، وربما تكون عملية طو*فا*ن الأقصى أعادت الزخم السياسي للقضية ا*لفلس*طينية ووضعتها مرة أخرى على طاولة المجتمع الدولي، إلا أن عامل الوقت بدأ يقوض هذه الأهمية الحيوية، إذ تواصل إس*رائي*ل حربها بشراسة، وتعمل على تنفيذ أجندة معدة سلفا، وترفض ح*ما*س تقديم تنازلات لتمهيد الطريق نحو التهدئة.
تستطيع دول الاعتدال أن تضخ الدماء في البيان الثلاثي الذي أصدره زعماء الولايات المتحدة ومصر وقطر، أو تتبنى ترتيبات بديلة تؤدي إلى التهدئة، ومن المهم أن تقوم بتحركات تقوّض التمادي في استمرار التصعيد داخل غ*ز*ة، لأن الخطوة المقبلة التي يمكن أن تقوم بها إس*رائي*ل هي فتح المجال للعودة إلى سيناريو التهجير إلى مصر والأردن، والمعاناة التي يواجهها سكان القطاع والضفة والتقتيل الذي تقوم به قوات الاحتلال لن يترك أمام الكثيرين فرصة للمزيد من التحمل.
فشلت رهانات من عوّلوا على محور المقاومة، وعليهم أن يتركوا فرصة لدول الاعتدال لتتحرك بواقعية قبل فوات الأوان. الخطة التي تتعامل بها إس*رائي*ل وتجد دعما لا محدودا من قبل الولايات المتحدة لن تقود إلى استقرار في منطقة تحيط بها أزمات من جوانب مختلفة، يمكن أن تفجر صراعات أشد ضراوة، ومن الصعوبة أن تعيش دولها الصغرى أو الكبرى في هدوء.
لم يعد البعد الجغرافي عن مركز الصراعات (فلسطين) محددا فاصلا في النجاة، فالصواريخ والمسيّرات التي تطلق من على بعد ألفي كيلومتر من اليمن، والعكس، تؤكد أن الكل في الهم شرق، وهذا لا يعني أن مصالح الغرب بعيدة عن الأذى، ما يدفع الدول المعتدلة إلى الالتفاف حول رؤية واضحة تضع حدا للتصعيد قبل أن ينفجر بركان الغضب على نطاق أوسع، إلا إذا كان هو الغرض من مواصلة تجاوزات إس*رائي*ل، وتحقيق أهداف رئيس حكومتها فقط، والتي يمكن أن تحرقه ورفاقه.
لا تزال دول الاعتدال قادرة على نزع فتيل صراع ساخن، واستخدام حكمتها السياسية لمنع انفجار لغم قاب قوسين أو أدنى من حدوثه، والرهان مفتوح على أمل يمكن توفيره للشعب الفلسطيني، لأن انعدامه والبقاء في خانة اليأس لن يمنح إس*رائي*ل راحة، أو يجعل بنيامين نتنياهو يهنأ بما حققه من محو لكل مظاهر الحياة البسيطة في قطاع غ*ز*ة.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.