الحوار الهاديء

غبطة البطريرك (ساكو) عملتَ حسناً وسوف يلاحق المسببون الشعور بالذنب

غبطة البطريرك (ساكو) عملتَ حسناً

وسوف يلاحق المسببون الشعور بالذنب

د. عبدالله مرقس رابي

 

اطلعت على الرسالة التاريخية التي بعثها غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو اليوم الى رئاسة جمهورية العراق، ورئيس الوزراء والمسيحيين والشعب العراقي قاطبة، موضحاً فيها أسباب انسحابه من مقر بطريركيته في بغداد العاصمة والإقامة في أحد الاديرة في إقليم كوردستان العراق حيث الأمان والعلمانية والتحضر والاستقرار السائد.

انكشفت اللعبة وكانت معروفة للجميع منذ افتعالها من الجهات المذكورة في الرسالة والمساندين لهم في الإدارة الفاسدة في العراق اليوم ولكن – دون تعميم فهناك الخيرين جداً وواقعيين ومتحضرين- تلك اللعبة التي أسبابها هي لأجل الاستحواذ على الممتلكات والأموال والمناصب. لعبة أُحيكت ضده من قبل اعلى المستويات الحكومية في الدولة العراقية وأصغرها وبل اشخاص نكرة في وجودهم ضمن المجتمع العراقي. لعبة لأجل طمس المواقف والروح الوطنية وترسيخ ضعف القانون وفقدان الأمان والطائفية والمحاصصة المتخلفة في نظام وآليات الحكم ونحن في عصر التقدم وحقوق الانسان والتحضر، تلك الأفعال التي انتجت الفساد في مختلف جوانبه وعدم الاستقرار فتحولت العراق بأفعالهم الى أكثر الدول المتخلفة في العالم وبل على قمتها بحسب المعايير الدولية.

تلك الظواهر التي يدعو غبطته الى عدم ترسيخها في عقل الانسان العراقي بل همه ان يشعر العراقي بالانتماء الوطني وقوة القانون والجيش وحل الميليشيات، وحصر السلاح بيد الجيش ولا للطائفية. هذه هي دعوات غبطته وانتقاده للواقع، حاله حال أي مواطن عراقي او مؤسسة عراقية يشعر بالغبن ومأساة شعبه. فدبرت المؤامرة لان مواقفه ودعواته لا تصب في مصلحتهم ولا تروق لهم لتحقيق طموحاتهم المريضة والاستمرار في مشوارهم الفاسد، وفي هذه المحاولة تبين جلياً ان الفساد هو في القمة، أي هم قادة الفساد والمخططين له ليستمر، وليس في الوسط والقاعدة في أجهزة الدولة، إذ لا نجد احد منهم قُدّم للمحاكمة، بل يبقى المتورطون من بعض المدراء العامين او الموظفين البسطاء لقمة سائغة لهم، مما يدل ايضاً فقدان القضاء العراقي لهيبته وانتشار الفساد فيه لانهم يعملون من اجل كتلهم واحزابهم وليس من اجل القانون وفرض العدالة.

هناك العديد من مسؤولي الكتل والاحزاب التي تتراشق وتنتقد الحكومة اعلامياً، ولكن لا يتجرأ احد من المساس بهم، كم من المرات نعتت المرجعيات الدينية الإسلامية الأجهزة الادارية بالفاسدين واحدثهم بيان هيئة علماء المسلمين في العراق/ قسم الاعلام الأخير مشكورين لدعم البطريرك ساكو، الذي جاء فيه عبارات مؤثرة وواقعية وحقيقية لتصرف وأداء الحكومة، اذ ذكر (وقد جاء هذا القرار بعد الخلافات بين البطريرك (لويس ساكو) و (ريان الكلداني) زعيم ميليشيا باب*لي*ون المسيحي المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في مناطق سهل نينوى، وهي احدى المليشيات المنضوية في الحشد الشعبي، وجاء فيه أيضا (ندعو هو والمقصود (رئيس الجمهورية) وغيره ممن تسلط على رقاب العراقيين ويعرف القاصي والداني مشاريعها الخطيرة والمضرة بالعراق وشعبه والتوجه لمعالجة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها البلاد من الفساد المستشري وانهيار البنية التحتية وارتكاب المجازر بحق العراقيين وتشريد المواطنين وانتشار الفوضى وسرقة ثروات العراقيين والتلاعب بالقوانين ونسبها لصالح دول عدوة للعراق وشعبه) أ ليست هذه عبارات قوية ومؤثرة ومباشرة لنقد أداء الحكومة، فهم نطقوا الحقيقة والواقع كما ينطقها كل محبي الخير والاستقرار للبلد، ليتجرأ احدهم ان يرد الهيئة الموقرة وغيرها ممن يكشفون يومياً فسادهم في الاعلام.

نعم غبطة البطريرك قررت الأفضل وعملت حسناً في الانسحاب من مقر البطريركية في بغداد، انه موقف بطولي وتاريخي، وليس انهزامي كما يحلو لبعض فاقدي البصيرة وأصحاب الأفق الضيقة تسميته، انها محاولة حكيمة وعقلانية للاستمرار في إدارة الكنيسة في منطقة آمنة في إقليم كوردستان العراق المتحضر، وهي خطوة لتجنب المساس بشخصكم دون سبب واقعي وعادل، بل الوقاية من انياب الأشرار ومن يساندهم لحين ان ترجع الأمور الى طبيعتها وبل لحين ان تتحسن. انها خطوة لمحو أحلام الذين أرادوا منك التقاعد، كأنما وجودك هو بيدهم، وتوهموا ان لا سلطة لاحد عليك ان يلزمك الى التقاعد الا فيما إذا تقرر غبطتكم بنفسك، فذهبت احلامهم في مهب الريح والسراب.

اقتبس قول الأخ (لوسيان) في احدى تعليقاته (غبطة البطريرك يسجل الان بطولة تاريخية). نعم انها بطولة تاريخية الحقت بالبطولات التي سجلها اسلافه من بطاركة كنيسة المشرق الذين تحولوا من مكان الي آخر لحكمتهم ودرايتهم وعقلانيتهم جراء الاضطهادات من بعض السلاطين والحكام التعسفيين. فالمتابع لتاريخ كنيسة المشرق يلاحظ ان كورسي البطريركية تحول ابان تعرض المسيحيين ورئاسة الكنيسة بقوة الى الاضطهادات من بعض الحكام والسلاطين على مر العهود، بعد تأسيسه في قطيسفون (المدائن حالياً شرق بغداد)، انتقل الى بغداد عاصمة الدولة العباسية حيث الاستقرار والأمان بالقرب من الخليفة ومُنح للبطريرك البراءة والدعم من الخليفة بأمر رسمي وسار مفعوله عند كل الخلفاء، ليس وفقاً لنظام اهل الذمة كما فسر بعضهم، بل كان دعم للبطريرك واعتراف رسمي به وديانته ولتسنح الفرصة له لإدارة الكنيسة وممتلكاتها في انحاء البلاد الشاسعة، ومنحه الامكانية للتشريع وتنظيم شؤون المؤمنين دون تدخل الدولة، فكان بمثابة حماية المسيحيين وليس لأجل جمع الأموال، لو كان لأجل ذلك لم يكن الخليفة بحاجة الى البطريرك، بل ممكن لجهازه المالي جمع ما هو في ذمة المسيحيين او يشرع كما شرعت د*اع*ش حديثاً، فهو الحاكم الوحيد الذي يحكم بأمر من الله، فالدعم كان لأجل التنظيم والحماية، وهنا استثني فترات متقطعة من بعض الحكام في تعصبهم واضطهادهم للمسيحيين، ولكن نحن بصدد البراءة الرسمية، فاصبح من ذلك الحين تقليداً للحكومات المتوالية.

وبعد سقوط الدولة العباسية واضطهاد الالخانيين تحول كورسي البطريركية الى كرمليس وثم الى دير الربان هرمزد بالقرب من القوش وتارة الى الموصل، وحتى في سنا ومراغا في إيران، وفي ديار بكر لسلسلة أخرى من البطاركة واستقر في الموصل وثم رجع الى بغداد، واستقر في قوجانس بطاركة الشق الاخر من الكنيسة وثم في العراق وبعدها في المنفى في كاليفورنيا والان في أربيل، كل هذه التنقلات جاءت للبحث عن الأمان من جراء الاضطهادات المتوالية لبعض الحكام.

والان يعيد التاريخ نفسه، وظهر لنا في التاريخ المعاصر في عالم حقوق الانسان والتحضر حكام متسلطون طائفيون، يتصارعون على السلطة وكسب الأموال بشتى الطرق، وفاجأنا ومع الأسف نقول حامل شهادة الدكتوراه رئيس جمهورية العراق عبداللطيف رشيد الذي يتوقع منه ان يكون اكثر تحضراً ووعياً ومحايداً واقلهم تأثيرا يايديولوجيات احزابهم وضغوط الاخرين الأقل شاناً منه ليصحو ويصدر مرسومه الجمهوري المشؤوم الذي الغى فيه مرسوم سلفه ورئيسه الأسبق ادارياً وسياسياً بخصوص الاعتراف الحكومي بسلطة البطريرك رسمياً وتوليته لممتلكات الكنيسة تنازلاً لرغبات الاخرين المشاركين في اللعبة القذرة.

علماً هكذا مرسوم كما اشرت مُنح للبطريرك منذ نشوء الدولة العباسية ومروراً بالحكومات الأخرى التي حكمت بغداد والدولة العثمانية والحكومات المتعاقبة بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وان تغير المضمون وتسميته من عهد الى آخر بحسب الثقافة السائدة في كل مرحلة تاريخية فالهدف واحد. والان للأسباب المذكورة آنفاً يلغى المرسوم، ليبقى البطريرك دون درع وحماية من الأشرار الذي يخططون المكايد كما شاهد العالم والشعب العراقي للإيقاع به واهانته واهانة الكنيسة الكلدانية والمسيحيين قاطبة في العراق، أ لم يفكر رئيس الجمهورية بان المرسوم والتقليد السابق المستمر من الدولة يكون بمثابة رسالة موجهة لاطمئنان المسيحيين واثبات استقرارهم وحمايتهم ودعم مسؤوليهم الروحانيين وتكريماً لمقامهم، ورسالة الى العالم توحي بان العراق اليوم هو بلد متحضر مسالم، لا كما يظن البعض، لكن يبدو وقع في ورطة، وجراء عمله قد يؤنبه ضميره ومعه الاخرين المشاركين معه ويظلون يشعرون بالندم والقلق طوال حياتهم لأقدامه الغاء تقليد مر عليه الاف السنين.

هكذا محاولة كانت ضربة موجعة لكل المسيحيين وفرصة أخرى ومن حقهم للتفكير لمغادرة البلاد، فهل هذا جزء من مخطط ومرسوم وتم تنفيذه الان؟ أ لم يكن من طريقة أخرى أكثر حضارية التعامل مع البطريرك ساكو؟ لكن بعد يومين انكشفت اللعبة ولم يؤيد المرسوم الا كتلة باب*لي*ون وممثليهم الأربعة في البرلمان العراقي، ومن ثم اصدار مذكرة لاستقدام غبطته للمثول امام القضاء.

قرارك صائب جدا غبطة البطريرك وكنت أتمنى طوال هذه الأيام مع نفسي ان يخطو غبطتكم هذه الخطوة، ليتسنى كما اشرتُ الى التمكن من إدارة الكنيسة الكلدانية من موقع آمن ومستقر في كوردستان العراق المتحضر، فالكل يدرك تماماً لا دولة في العراق اليوم بمعنى الكلمة، بل دويلات تحكمها ميليشيات ومعها السلاح المنفلت. فامكث هناك لحين توفر فرصة الاستقرار في بغداد، فالمسببون زائلون عاجلاً ام آجلا. ومرسوم الدعم والاعتراف والحصانة يرجع بعد انتكاستهم، والرب يوفقك في مسعاك لخدمة الكنيسة وبلدنا العراق وشعبه بكل اطيافه.

ومن واجبنا ان نشكر في هذه المناسبة الأليمة التي تحسسها كل الخيرين العراقيين من الذين تضامنوا مع غبطته وكنيستنا الكلدانية والمسيحيين وفي مقدمتهم الاخوة المسلمين قبل غيرهم منذ بداية الازمة ولا سيما هيئة علماء المسلمين في العراق، واليوم مكتب المرجع الديني الشيعي الأعلى من مكتب الامام السيستاني والشخصيات الرسمية في الدولة العراقية وإقليم كوردستان العراق والإعلاميين. ومن أبناء شعبنا الكلداني والاشوري والسرياني من الكتبة والإعلاميين والمتابعين وعامة الشعب في كل مكان.

 

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!