مقالات عامة

التصاميم المعمارية لمعابد وزقورات بلاد النهرين

التصاميم المعمارية لمعابد وزقورات بلاد النهرين

بقلم / وردا إسحاق قلّو

التصاميم المعمارية لمعابد وزقورات بلاد النهرين                                               

         في البدء ظهر المعبد صغير الحجم يتكون من غرفة واحدة فقط وكما اكتشف المنقبون في الطبقة السادسة من تل أريدو ، لكن تلك المعابد التي كانت مبنية من الطين والقير لم تُعمر طويلاً بسبب الظروف الطبيعية ، والمياه الجوفية ، فبدأ الناس ببناء معابد جديدة فوق القديمة ، ومنها نشأ العلو في البناء ونضجت لديهم فكرة بناء الزقورات ،  وسرعان ما تطور بناء المعبد وتعددت مرافقه وتوسعت مهماته حتى صار يضم صنوفاً متعددة من الكهنة والكاهنات ، ويغطي مساحات شاسعة من الأراضي ، فكان له بوابات ، وغرفة للهيكل التي تحتوي على تمثال الإله المعبود ، والتي كانت تعد أقدس رقعة في المعبد . وفي بعضها يوجد مذبح في الحجرة ، وكذلك وجود دكة للقرابين .

  في بلاد وادي الرافدين كانت المعابد الدينية من أبرز المعالم المعمارية في المدينة أو القرية ، وذلك لأعطائها أهمية خاصة مربوطة بالمعتقد الروحي يشترك الجميع في تشييدها وخاصةً عندما كان سبب بنائها بأمر من الآلهة . فكما طلب الله من سليمان الملك لبناء الهيكل المقدس وبمواصفات معمارية وجمالية خاصة كذلك كانت تشيّد المعابد في مختلف حضارات بلاد النهرين بأمر من الآلهة . 

 تطور بناء المعبد في وادي الرافدين فصار يتكون من قسمين رئيسيين : الأول أرضي ، كان مختص للعبادة . والثاني المبني فوقه هو الزقورة أي البرج الذي تعد فكرته الأقدم للبناء المدرج في التاريخ وتعتبر أقدم الأهرامات في حضارة وادي الرافدين .

   كانت واجهة المعبد تزين ببوابات الدخول والخروج ، فمدخل المعبد يؤدي إلى غرفة صغيرة مفتوحة إلى صحن المعبد وهو فناء واسع يجتمع فيه الناس لإقامة الصلوات . وكان المرء يدخل من الساحة إلى غرفة تؤدي هي الأخرى إلى حجرة الهيكل المقدسة التي تحتوي على المحراب وعلى تمثال الإله . ودكة المذبح التي يقدم عليها الأضاحي للإله المعبود . كما كان في المعبد مكاناً مخصصاً لتقديم الطعام والشراب للإله على دكة الإله ، فكان الطعام يرفع إلى مستوى فم التمثال من قبل الكاهن ، ويبدأ بقراءة الصلوات والأدعية إلى إلهه .

  وفي المعابد أجنحة وغرف ومرافق أخرى للكهنة المشرفين على إدارته ، ومخزن للأدوات والآثاث الخاص به . كما كان المعبد يضم مكتبة تحتوي على وثائق لها علاقة بالحياة الدينية كالصلوات والأناشيد والقصص الخاصة بالخليقة والتكوين ، إضافة إلى النصوص اللغوية والأدبية والفلكية .

   تماثيل الأصنام كانت تنحت من الحجر أو الخشب وتزين بالذهب والفضة وبالأحجار الكريمة . كانت التماثيل توضع على المحراب لعبادتها .

   كان الإله يفصح عن رغبته في بناء معبد جديد له من خلال الأحلام التي يراها الملك أو الكاهن في منامه . ومن أكثر تلك الأحلام تفصيلاً في هذا الشأن ، الحلم الذي قص تفاصيله ( كوديا ) ملك سلاسة لكش الثانية سنة ( 2120 ق.م ) قال :

  ( إن الإله ننكرسو ظهر لي في الحلم على هيئة إنسان عملاق كأنه السماء ، ضخم كأنه الأرض ، جزؤه الأعلى يشبه الإله وله جناحاً طائراً ، وجزءهُ الأسفل يشبه الأعصار . كان أسد يربض إلى يمينه وآخر إلى شماله . أمرني أن ابني معبداً ، لكني لم أفهم مقصده تماماً ، وكان هناك عملاقاً آخر حاضراً فمد ذراعه وحمل في كلتا يديه لوحاً من حجر الازورد رسم عليه مخطط المعبد . ثم جاء بطاسة البناء ووضعها أمامي وصنع لي قالب الأجر المقدس . وثبت فيه ( إجرة تقرير المصير ) . فاق كوديا من نومه وذهب مسرعاً إلى معبد الإله نانشة ففسرهُ الحلم ، وشرح له ما يتوجب القيام به لنيل رضا الإله ننكرسو ، فبدأ بالعمل ، ويظهر من تفاصيل حلم كوديا بأن المعبد الجديد يجب أن يبنى على موقع المعبد القديم بعد إزالته جيداً حيث تحفر أساسات القديم ويستخرج منها آجر وكل مواد ابناء الأخرى وصولاً إلى الأرض البكر . وعدم إنجاز هذا العمل بدقة كان مدعاة لغضب الإله . وبعد التنظيف الدقيق يشرع بتطهير الموقع بإشعال النار حول الأسس ورشها بالعطر.  بعد مضي 1500 سنة على كوديا الملك ، يذكر الملك نبونائيد ( 556 _ 539 ق.م ) كيف أنه هو الآخر جاءهُ الوحي الإلهي في الحلم وأمره ببناء معبد سين ( إله القمر) في حران .

    الشروع في بناء المعبد الجديد يبدأ بقطع الملك اللبنة الأولى على طقوس دينية خاصة ، وبعد أن يغتسل يرفع الصلوات ويقدم القرابين إلى الآلهة بأخذ واقية الرأس التي توضع تحت الطاسة البناء ثم يأخذ القالب الخاص بتحضير اللبن ، وبعدها يتناول طاسة البناء ، ويبدأ بتحضير الطين ، ومن ثم يصبه في القالب . بعد الإنتهاء من اللبنة الأولى تعرض تحت الشمس حتى تجف . وبعدها يضعها الملك في الأساس معلناً بداية العمل في بناء المعبد الجديد . وقد كشفت التنقيبات عدد من التماثيل تصور الملك حاملاً على رأسه مواد البناء في طاسة تحتها الواقية المستديرة .

   أما المعبد العالي فهو الزقورة التي تعني بالأكدية ( العلو والسمو ) وتكون ملازمة للمعبد الأرضي . نشأة فكرة الزقورة من إقامة المعابد في أطوارها الأولى فوق دِكاك أو مصاطب إصطناعية مرتفعة عن الأرض المحيطة بها ، وأصبحت الزقورة في العصور التاريخية تتألف أما من ثلاث أو سبع طوابق . وتكون مربعة أو مستطيلة ، وكان يرقى إليها بواسطة السلالم الجانبية تمتد بين طبقة وأخرى ، وقد جرت العادة أن يبنى غلاف الزقورة بالآجر . بينما الهيكل من الطين , ويوجد فوق الزقورة معبد صغير يعرف بالمعبد العلوي والذي ربما كان يوضع فيه تمثال الإله , والمعبد العلوي هو محل إستراحة الإله ، وهو يصعد من المعبد الأرضي إلى السماء .

   أصبحت الزقورة معلماً عمرانياً لمعظم المدن القديمة ، وقد أمكن تشييد ثمانية وعشرون زقورة موزعة على المدن من أقصى جنوب البلاد إلى شماله . وفي بعض الأحيان يوجد زقورتان في مدينة واحدة كما في الوركاء . أو ثلاثة كما في كيش وآشور . ومعنى تعدد الزقورات في المدينة الواحدة هو تعدد المعابد والآلهة . فمعبدي مدينة أوروك التي يطلق عليها أيضاً ( الوركاء ) كان يسمى أحدهما ب ( المعبد الأبيض ) والمخصص لعبادة الإله ( أنو ) إله السماء . والثاني ( معبد السماء ) المخصص لعبادة الإله أنانا ( عشتار ) . ولكل زقورة أسم ، فزقورة بابل كانت تسمى ( المعبد أساس السماء والأرض ) وزقورة لارسة ب ( البرج ) . أما زقورة مدينة سبار ، فقد اطلق عليها أسم ( سلم إلى السماء المقدسة ) . أما برج بابل الذي أسس في منتصف مدينة بابل القديمة  فهو أيضاً زقورة شامخة عالية أكثرمن كل زقورات البلاد ، لها سبع طوابق كان يصل إرتفاعها 91.5 متر ، وكان أعلى بناء في العالم في تلك الفترة ، بينما اليوم برج خليفة في دبي يبلغ إرتفاعه 828 متراً ويتكون من 160 طابق . و قاعدة البرج كان عرضها أيضاً 91.5 متر وكان غلافها من الآجر بسمك 15 متراً . وكانت كل آجرة منها على شكل مربع ضلعه قدماً واحداً . إستخدم في بناء البرج بحسب سفر التكوين طوباً مشوياً بدل الحجارة ، والطين بالزفت ( تك 4:11 ) وقد أكتُشِف لوح مسماري من مدينة الوركاء دوّنَ في عصر سلوقي الثاني في حدود 229 ق.م يذكر قياسات البرج طولاً وعرضاً وإرتفاعاً . حاول اسكندر المقدوني إعادة بنائه من المعالم المثيرة في مدينة بابل ، فامر بنقل أنقاضه أو بقاياه لكنه توفي قبل أن يحقق إعادة تشيده . قال المقدوني مقولته الشهيرة عن بابل ( من لم يرى بابل لم يرى شيئاً في حياته ) وذلك لأن بابل أبهرته بقصورها وحدائقها المعلقة وشوارعها المرصوفة وجدرانها المزينة بالآجر المزجج والملّون .

   يصف هيرودتس ( 480- 425 ق.م ) برج بابل بهذا النص : وعند الحصن الثاني تقع حارة الإله ( جويتر –  بعل ) وهي فناء مربع طول كل ضلع من أضلاعه 12 ميل وذو أبواب من البرونز الصلد . وكانت ما تزال باقية في زمني . ويقع وسط ذلك الفناء أو الساحة برج ذو بناء صلد طوله نصف الميل وعرضه ثُمن الميل ، أقيم فوقه برج ثاني ، وعليه برج ثالث وهكذا إلى البرج الثامن الأعلى . وكان الصعود إلى القمة من الخارج بواسطة سلم يدور حول جميع الأبراج . وعندما يبلغ المرء نصف المسافة في الصعود فأنه يجد موضعاً للإستراحة حيث إعتاد الناس الجلوس بعض الوقت وهم في طريقهم إلى القمة . ويوجد فوق الطبقة العليا معبد فسيح وضع في داخله سرير ذو حجم غير إعتيادي ومُزَين بزينة فاخرة وبجانبهِ منضدة من الذهب . وكان المعبد خالياً من التماثيل . كما لا يشغل الحجرة أثناء الليل سوى إمرأة ، يقول عنها الكهنة أن الإله إصطفاها لنفسه من بين نسوة البلاد . لم يبقى شىء من البرج سوى الأبعاد والأوصاف التي يرد  ذكرها في النصوص المسمارية .

 هناك زقورات قائمة لحد اليوم ولعل أحسن الأمثلة الباقية منها تلك التي بناه الملك أورنمو في مدينة أور سنة 2010 ق.م التي كانت مركزاً للعبادة إله القمر ( سين ) . وبالقرب من الزقورة يقع بيت أبينا إبراهيم . قال العالم الأثاري البريطاني ليوناردو وولي الذي نقب تلك المناطق في عام 1918 أن المجمع المجاور للزقورة هو بيت النبي إبراهيم حيث وجد ختم إسطواني عليه كلمة ( أبراهام ) في نفس المنطقة .

  زار الموقع قداسة البابا فرنسيس في مطلع آذار 2021 فزادت شهرة المكان دينياً وسياحياً ، وسيتم تشييد مدينة سياحية ومتحف في الموقع .

  تقع الزقورة على بعد 40 كم غرب مدينة الناصرية  . قاعدة الزقورة مربعة ، طول ضلعها 42 م وأهم ما يذكر في شأن هذا البرج أن كتلته الهائلة المكونة من ثلاث طبقات ، وثلاث سلالم كل منها مؤلفة من مئة درج  شيدت من اللبن ، وكسيت بالآجر الأحمر المفخور والمثبت بطريقة هندسية لافتة للنظر تسمى ب ( طريقة السبط ) . يميل البناء إلى الداخل كلما ارتفع إلى الأعلى فيكوّن للناظر خدعة بصرية ليبدو البناء أعلى من أرتفاعه الحقيقي . نجد في جوانب الزقورة فتحات لتصريف المياه تسمى ب ( العيون الدامعة ) .

يترك للناظر إلى هذه الزقورة إنطباعاً مدهشاً بجمال هندستها المعمارية ، كما نجد فيه تناسق في الأبعاد بسبب الإنحناءات الطفيفة لخطوطها ، والهدف من تلك الإنحناءات الدقيقة هو تصحيح خداع النظر الذي تبدو فيه الجدران والأعمدة مقعرة لو أنها شيّدَت وهي مستوية السطح ، وفي هذا الإبتكار يكون المعمار السومري قد سبق الأغريق بألفي سنة .

إرتفاعه الحالي 16.5 متر ، بينما القديم عند بنائه الأول 26.5 متر . لم يبقى منه سوى الطبقة الأولى وأجزاء من الثانية بسبب عوامل التعرية .

 الزقورة بطبقاتها المتعددة وسلمها الجانبي الذي يوصل بين تلك الطبقات كانت في نظر بعض الباحثين ،

مثار إعجاب بعض المعماريين العرب ، إذ يرجح تصميم ملوية سامراء يعكس تأثراً واضحاً بالزقورة . كما نلاحظ في العصر الاكدي وجود قرص من حجر الكلس سمي ّ ( أنخيدوانا ) وهو بإسم أبنة سرجون الأكدي والتي كانت كاهنة في معبد إله القمر . فالقرص هو عمل نحتي لمعبد إله القمر . بناءه حلزوني يشبه ملوية سامراء ، وهذا دليل قاطع على أن فكرة تصميم الملوية موجود في التراث القديم . كذلك أهرامات مصر فكرة بنائها مستنبطة من تصميم زقورات ما بين النهرين .

 إختفت زقورات كثيرة بسبب الرمال التي طمرتها ، وكذلك تعرضت بعضها لأعمال التخريب مما أدى في النهاية إلى زوالها . ومن الزقورات الباقية زقورة ( عقرقوف ) الواقعة على بعد 30 كم غرب بغداد . يبلغ إرتفاعها 57 متراً ، يعتقد بأن أرتفاعها في السابق كان 70 متراً . أسست من قبل ملك الكيشيين في القرن الرابع عشر ق.م . في عام 1960 أنشأ متحفاُ صغيراً بقربها لتقديم خدمات لزوار الموقع . وفي عام 2013 قامت المديرية العامة للآثار بعملية صيانة زقورة عقرقوف .

   أما زقورة ( جغازنبيل ) التي تعد واحدة من أضخم المعابد في العالم ، صرح حضاري بديع وعريق وفريد من نوعه ، دخل لائحة يونسكو للتراث العالمي ، يقع بجوار مدينة شوش (عيلام )  في محافظة خوسستان جنوب غرب إيران ، شكله يشبه السلة المقلوبة ، لهذا سمي ( جغا زنبيل ) والأسم يتكون من مقطعين ( جغا ) يعني تلة  و ( زنبيل ) يعني سلة . كانت تحتوي على (11) معبد ،  عثر عليه من قبل الأثاري الفرنسي ( رومان كريشين ) عمل فيه من عام 1951- 1961 م . أسست هذه الزقورة في عام 1250 ق. م . وكان يتكون من خمس طوابق ، وفي الطابق الخامس كان المعبد . يبلغ إرتفاعه 50 متراً . ، تم بنائها من قبل الملك ( أونتاش – نبيريشا ) لتكريم الإله ( إنشو شيناك ) الذي توفي قبل إنجاز العمل فتخلي عن إكماله.

كما يوجد ثلاث زقورات أخرى في إيران ، وزقورة واحدة في سوريا في محافظة حماة .

   يوجد في العراق 20 ألف موقع أثري غير ممسوح أي ما يقارب 93% – 94% من هذه المواقع لم يتم التنقيب عنها ولم يتم معرفة أي من تفاصيل تاريخها . في محافظة الناصرية يوجد 1200 موقع أثري وهو ما يعادل كل آثار فرنسا وإيطاليا . قال ( د.  هنري رايت ) أستاذ آثار الشرق في جامعة شيكاغو عندما زار الناصرية ( إننا نطلق على المحافظة أسم متجف الآثار العالميلما فيها من مواقع أثرية تعود إلى أكثر من 6500 سنة ق. م . ) كل ما كتب عن تاريخ العراق القديم لا يتمثل إلا 6% من ما تم التنقيب عنه من بداية القرن 19 ولحد اليوم . ومع ذلك يصنف العراق بكونه صاحب أول الحضارات في العالم .       

المصادر

  • الكتاب المقدس
  • من سومر إلى التورات / د. فاضل عبد الواحد علي
  • مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / طه باقر
  • المدخل إلى تاريخ العالم القديم / سامي سعيد الأحمد
  • طرق التنقيبات الأثرية / د. تقي الدباغ – د. وليد الجادر – د. أحمد مالك

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!