مقالات دينية

بشارة مريم العذراء، كما رأتها ماريا فالتورتا

بشارة مريم العذراء، كما رأتها ماريا فالتورتا:

***********************************
إعداد / جورج حنا شكرو
هذا ما أراه: مريم شابّة صغيرة مراهقة -مظهرها يدلّ على أنّها لم تتجاوز الخامسة عشرة- في غرفة صغيرة مستطيلة، غرفة مناسبة بحقّ لصبيّة.
إلى جانب الجدار الأطول يوجد السرير: مرقد منخفض دون جوانب، مغطّى بحصر أو سجّاد، وكأنّها ممدودة على طاولة أو حصيرة قصب.
 إنّها بالحقيقة متصلّبة ولا تشكّل انحناءات كما يحصل على أسرّتنا. وعلى الجدار الآخر رفّ، عليه مصباح زيت ولفافات رقّ وأعمال خياطة مطويّة بعناية وكأنّها تطريز. وإلى الجانب، من جهة الباب المفتوح على الحديقة والمغطّى بستار يحرّكه هواء خفيف، تجلس العذراء على كرسيّ صغير.
إنّها تغزل كتّاناً ناصع البياض وناعماً كالحرير. ويداها الصغيرتان، الأقلّ بياضاً قليلاً من الكتّان، تديران المغزل برشاقة. والوجه الصغير الفتي جميل جدّاً، بهيّ بانحناءته الخفيفة وابتسامته الرقيقة كما لو كانت تداعب أو تتبع فكرة عذبة.
صمت عميق في البيت الصغير والحديقة.
سلام عميق، على وجه مريم كما في محيطها.
السلام والترتيب.
كلّ شيءٍ نظيف ومُرتّب والمُحيط المتواضع جداً في مظهره وأثاثه، مثل صومعةٍ تقريباً، فيه شيء ما مُتقشِّف ومَلَكيّ في الوقت نفسه بسبب النظافة والعناية التي بها رُتِّبت الأقمشة على السرير، اللفافات، المصباح، الإبريق النحاسي الصغير قرب المصباح، في داخله حزمة أغصانٍ مُزهِرة، أغصان درّاق أو إجاص، لا أدري، لكنّها بالتأكيد  أشجار مثمّرة بزهورٍ وردية قليلاً.
مريم تُنشِد بصوتٍ مُنخفِض، ومن ثمّ ترفع الصوت قليلاً.
 ليس من الإنشاد الفخيم، لكنّه صوت يتموّج في الحجرة الصغيرة ونشعر بتموّج نَفْسها فيه.
 لا أفهم الكلمات، إنها بالتأكيد عبريّة.
 إنما بما أنّها تردّد مرارًا «يهوه» أُدرك أنّ المقصود نشيد مُقدّس ما، ربما مزمور. ربما تستذكر مريم  أناشيد الهيكل، ولا بُدّ أنها ذكرى عذبة، لأنّها تضع على صدرها اليدين اللتين تمسكان بالخيط والمغزل وترفع رأسها وهي تسنده وراءها إلى الجدار؛ وجهها يُشعّ بألوانٍ حادّة، وعيناها المُستغرقتان في فكرةٍ عذبة لستُ أدري ما هي، أحالتهما دموعٌ محبوسة أكثر إلتماعاً،  وتبدوان أكبر.
ومع ذلك، عيناها تضحكان، تبتسمان لفكرة تتبعانها وتنتزعانها مما يحيط بها.
 يبرز وجه مريم من الثوب الأبيض والبسيط جدّاً، ورديّاً ومُحاطاً بالجدائل التي تحملها مثل إكليلٍ حول رأسها. كأنها زهرة جميلة.
 النشيد يستحيل صلاةً:
«أيّها الربّ السامي، لا تتأخّر في إرسال خادمكَ ليحمل السلام إلى الأرض. أظهر الوقت المناسب والعذراء النقيّة والوَلود لمجيء مسيحكَ. أيّها الآب القدّوس، إمنح خادمتكَ أن تَهِب حياتها لهذا الهدف. هبني ألّا أموت قبل أن أرى نوركَ وعدلكَ على الأرض، وأن أرى الخلاص وقد تمّ.
 أيّها الآب القدّوس أرسل إلى الأرض ما تاق إليه الأنبياء. أرسل إلى خادمتكَ الفادي. ليفتح لي مسكنك في الساعة التي سينتهي فيها نهاري، فإنّ أبوابه ستكون قد فُتِحَت بواسطة مسيحكَ لكلّ الذين آمنوا بك.
 تعـال، تعـال، أيا روح الـربّ. تعـال إلى مـؤمنيك الذين ينتظـرونكَ. تعـال، يا أمـير السلام!…» تلبث مريم هكذا مُنتَقِلة…
يتحرّك الستار بقوّة أكبر كما لو أنّ أحداً من الخارج يُحدِث تيّار هواء أو يهزّه ليزيحه. ويَلِج نورٌ أبيض لؤلؤيّ، مُقترن بالفضّي الصافي، يجعل الجدران المائلة إلى الإصفرار أكثر إشراقاً، ألوان الأقمشة أكثر حدّة، ووجه مريم المرفوع أكثر روحانيّة. في النور، ومن دون أن ينزاح الستار عن السرّ الذي يتمّ -حتّى أنه لم يعد يتحرك: إنه يتدلّى صلباً تماماً إلى الدعائم، كأنّه جدار يعزل الداخل عن الخارج- في هذا النور يسجد رئيس الملائكة.
 لا بدّ أنه يتّخذ بالضرورة مظهراً بشريّاً. لكنّ مظهره هذا يتجاوز البشريّ. من أيّ لحمٍ مُكوّن ذلك الوجه البهيّ الساطع؟
 ما جوهر المادّة التي صنعهُ الله منها ليجعل أحاسيس العذراء تدركه؟
 وحده الله يمتلك جواهر المواد هذه ويستخدمها بشكل تامّ.
 إنّه وجه، إنه جسد، إنهما عينان، فم، شعر، ويدان كالتي لنا، لكنّها ليست مادتنا المُعتمة. إنّه نور أتخذ لون اللحم، العينين، الشعر، الشفتين، نور يتحرّك وينظر ويتكلّم.
«السلام عليكِ يا مريم، يا ممتلئة نعمة، السلام عليكِ!»
الصوت تنغيمٌ عذب مثل لآلئ تسقط على معدنٍ ثمّين.
 مريم تختلج وتُخفِض عينيها. وتختلج أكثر حين ترى هذا المخلوق النورانيّ جاثياً على نحو مسافة مترٍ منها، يداه مشبوكتان فوق صدره وهو ينظر إليها باحترامٍ لا متناهٍ.
تنتَصِب مريم واقفة وتلتصق بالجدار.
 تصبح شاحبة، ثمّ حمراء.
 وجهها يُعبِّر عن دهشة وذهول.
 تضمّ يديها بشكل لا شعوريّ إلى صدرها وتخبّئهما في كمّيها الطويلين.
 تنحني تقريباً لتُخفي ما أمكنها من جسدها. وضعُ حياءٍ عذب.
«لا. لا تخافي. الربّ معكِ! مباركة أنت بين كلّ النساء.»
لكن مريم تُواصل الخوف. فمن أين أتى هذا غير العاديّ؟ أهو رسول مِن  الله أم مِن الخدّاع؟
«لا تخافي، يا مريم!» يكرر رئيس الملائكة.
«أنا جبرائيل، ملاك الله. إن الرب أرسلني إليكِ. لا تخافي فقد نلتِ حظوةً عند الله، وها أنتِ تحبلين وتلدين إبناً وتسمّينه يسوع. هذا سيكون عظيماً وابن العلي يدعى، سيكون كذلك بحقّ، وسيعطيه الربّ الإله عرش داوود أبيه وسيملك إلى الأبد على آل يعقوب، ولن يكون لملكه انقضاء. أدرِكي، أيّتها العذراء القدّيسة، يا مح*بو-بة الربّ، يا ابنته المباركة، المدعوّة لتكون أمّ إبنه، أيَّ إبن ٍ ستلدين.»
«كيف يمكن لذلك أن يحدث وأنا لا أعرف رجلاً؟ هل رفض الربّ الإله تقدمة خادمته، ولا يريدني أن أبقى عذراء حُبّاً له؟»
«لا، لن يكون بفعل بشر أن تصبحي أُمّاً يا مريم. فأنتِ العذراء الأزليّة، قدّيسة الله. الروح القدس سيحلّ عليكِ وقوّة العليّ تظلّلكِ. لذلك فالمولود منكِ يدعى القدّوس، قدّوس هو وابن الله. وكلّ شيء مستطاع لدى الربّ إلهنا. وها إنّ أليصابات العاقر قد حَمَلَت في شيخوختها بابنٍ سيكون النبيّ الذي يهيّئ الطريق لابنكِ. فالربّ قد مسح عنها العار، وذِكرها يدوم بين الأمم مرتبطاً باسمكِ مثل ارتباط اسم خليقته بقدّوسكِ، وحتّى نهاية الدهور تطوّبكما جميع الأمم بسبب حلول نعمة الربّ عليكما، وعليكِ أنتِ بشكل خاصّ، وقد حلَّت على الأمم بواسطتكِ.
 أليصابات هي الآن في شهرها السادس، وحَملها يثير فرحها، وسيثيره أكثر عندما تعلم بفرحك الخاص… لا شيء غير مستطاع لدى الله يا مريم، يا ممتلئة نعمة. ماذا ينبغي لي أن أقول لربّي؟ لا تضطربي لأيّة فكرة. الربّ يسهر على مصالحكِ إذا اتكلت عليه. العالم، السماء، الأزليّ ينتظرون كلمتكِ!»
تقول مريم، وقد شبكت بدورها، يديها فوق صدرها وانحنت انحناءةً كبيرة: «ها هي خادمة الربّ. ليصنع بي بحسب كلمته.»
يُشعّ الملاك فَرحاً.
يعبد، لأنّه بالتأكيد يرى روح الله ينزل على العذراء المنحنية تماماً في قبولها.
ثمّ يختفي، من دون أن يحرّك الستار التي يتركه منسدلاً فوق السرّ المقدّس.
  ( الانجيل كما كشف لي-١-فالتورتا)

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!