عُمان والعالم.. تجربة جديدة في حاجة إلى المزيد من
عُمان والعالم.. تجربة جديدة في حاجة إلى المزيد من الجرأة والتوسع
العُمانيون يحدوهم أمل في نقلات أخرى تأخذ بلدهم من مربع الحركة الهادئة ذات الصوت المنخفض إلى الحركة الهادئة ذات الصوت المرتفع.
في ذكرى تولي السلطان هيثم بن طارق السلطة: تغييرات كبيرة في عمان
لا تختلف سلطنة عُمان عن الكثير من دول الخليج العربي في الأخذ بأسباب المدنية ومقتضياتها الحديثة، ونجحت في قطع شوط مهم في مجالات مختلفة، وحاول عدد من الوزراء والمسؤولين الكبار توضيحه في مؤتمرات عدة عقدوها مع صحافيين من دول ووسائل إعلام مختلفة، كان التركيز فيها على البعد التنموي جليا في معظم اللقاءات، وكأن عنوان “عمان والعالم” الذي عقدت تحته غالبية الاجتماعات محصور في الشق الاقتصادي وروافده الاستثمارية الواعدة.
هذه أول زيارة أقوم بها إلى عُمان، بمناسبة الذكرى الخامسة لتولي السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم خلفا للسلطان قابوس بن سعيد (11 يناير)، وربما لن تكون الأخيرة، فهناك الكثير من القضايا الحيوية التي يمكن طرحها، فسلطنة عمان تشهد نهضة حضارية، ومفتوحة لأنواع عديدة من الاقتصادات الصاعدة، وتقدم تسهيلات كبيرة لكل من يرغبون في الاستثمار على أراضيها، فضلا عن اشتباكها مع عدد من القضايا الأمنية والسياسية في المنطقة، من منطلق البحث عن تسويات هادئة.
حددت السلطنة هدفها من الوهلة الأولى عندما اختارت “عُمان والعالم” لافتة عريضة لعدد من اللقاءات التي عقدت في مسقط وحضرتها جريدة “العرب”، حيث لا تريد حصر مكانتها في المنطقة القريبة منها، وتسعى لتكون لها بصمة أبعد، فالعالم رحب ولم يعد قرية قصيرة، كما نقول في مجال الإعلام، بل هو حجرة صغيرة في الإعلام والسياسة والاقتصاد والأمن أيضا، والتشابكات التي يمر بها العالم نزعت عن الكثير من الدول الصفتين المحلية والإقليمية، وأدخلتهما بسهولة مرحلة أوسع نطاقا، وهو الغرض من ربط السلطنة بالعالم وليس الإقليم فقط، وقد تجلّى هذا المعنى في حضور إعلاميين كثر من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب.
◙ لمن يريد معرفة أسباب الهدوء في السياسة والاقتصاد عليه التعرف على الشخصية العُمانية، فهي تشبه توجهات الدولة في ميلها نحو السلام والسكينة
وفقا لمصادر عُمانية تحدثت إليها “العرب”، هذه أول فعالية تشهدها السلطنة تضم إعلاميين من دول عدة، لأن الرسالة المطلوب توصيلها لا حدود لها، وتريد تجاوز النطاق التقليدي الضيّق الذي اعتادت عليه الدولة في السنوات الماضية، والذهاب إلى نطاق أرحب لتوصيل الصوت العُماني، والكشف عن مصادر قوة حضارية واقتصادية خافية على البعض، بما يشجع الكثير للمجيء إلى عُمان واكتشاف مقدراتها التي أرسى السلطان هيثم بن طارق جزءا معتبرا من قواعدها في السنوات الخمس الماضية.
يحدو العُمانيين أمل في نقلات أخرى تأخذ بلدهم من مربع الحركة الهادئة ذات الصوت المنخفض إلى الحركة الهادئة ذات الصوت المرتفع، كإشارة لعمق التحول في المنهج. لمن يريد معرفة أسباب الهدوء في السياسة والاقتصاد عليه التعرف على الشخصية العُمانية، فهي تشبه توجهات الدولة في ميلها نحو السلام والسكينة، وبالطبع عدم الصخب، وكل شيء يمكن إنجازه وفقا لهذا الثيمة، فلم يكن موظفو البروتوكول وحدهم هادئين ومنظمين وعلى درجة عالية من اللطف.
من السهولة أن يلاحظ الصحافي هذه المسألة، وهي طبيعة عامة في طقوس العُمانيين وتعاملاتهم اليومية، بالتالي لم يخترع السلطان قابوس ومن بعده السلطان هيثم شيئا من الفراغ، إذ تثبت عُمان أن السياسة الخارجية للدول انعكاس لطبيعة شعبها، وربما يحتاج ذلك إلى دراسة من قبل خبراء العلوم السياسية، فكما يقال إن الشعوب (العربية) على دين ملوكها، فإن سياستهم الخارجية يمكن أن تصبح على دين شعوبهم أيضا.
ولا أعلم هل الغرض من اللقاءات مع المسؤولين في مسقط التعرف عن قرب على معالم السلطنة الاقتصادية والفنية والتراثية هو هدف في حد ذاته أم هناك أهداف أخرى سياسية تقف في الخلفية، وهل تريد عُمان خلع عباءة عدم الاشتباك العلني مع بعض القضايا الخارجية تمهيدا للقيام بدور أكبر في بعضها؟
مهما كانت الإجابة، ثمة تطورات تجري في عمان، تختلف عن كل التطورات التي عرفناها سابقا، فالحشد الإعلامي هذه المرة بمناسبة ذكرى تولي السلطان هيثم بن طارق السلطة، كان كبيرا ونادرا وغير مألوف، ما يعني أن فكرة التعريف بالدولة وتوجهاتها بشكل واسع اختمرت لدى الديوان السلطاني، وقبل بها لأنها جزء من تأكيد رمزية الدولة السياسية، وتثبيت عافيتها الاقتصادية، وتعزيز أركانها الأمنية.
تنحصر الصورة الذهنية عن عُمان لدى البعض في شعبها الطيب والنأي عن الدخول في قضايا جدلية، وما رأيته في السلطنة على مدار الأيام الماضية يشير إلى وجود مشروع جديد يتجاوز حصر الصورة في المعاني الشكلية، وأن هناك مضمونا جديا يقدم في مجالات عديدة من الضروري أن يصل إلى العالم، فمع التركيز على البُعد الخليجي كأحد القواعد العُمانية الرئيسية، فإن الموقع الجغرافي المتميز يساعد على الذهاب بعيدا ومد البصر نحو العالم بأسره.
تحتاج التجربة التي رأيت قبسا منها في هذه الزيارة قدرا أكبر من الجرأة والتوسع، والتصدي لجملة من التحديات والمطبات والعراقيل، وعدم العودة للانكفاء عند أول أزمة يمكن أن تتعرض لها مسقط، فهناك من لا يروق له خروجها من عباءة الهدوء، ومن يريد حصر دورها في بعض القضايا القريبة منها، ومن يكره أن يصبح اقتصادها قويا، وهذه سمة الدول، لأن السلام التام لا يكفي لتجنب الأزمات.
◙ التجربة العمانية تحتاج قدرا أكبر من الجرأة والتوسع والتصدي لجملة من التحديات والمطبات والعراقيل وعدم العودة للانكفاء عند أول أزمة
إذا قبلت عُمان بهذه المعادلة وأبدت استعدادا طيبا لتقديم تضحيات كبيرة، كضريبة طبيعية لتحقيق طموحاتها الداخلية والخارجية، يمكنها أن تصبح رقما أكثر تأثيرا في هذه المنطقة، وفي بعض الأزمات الإقليمية التي لها امتدادات دولية مثل أزمة برنامج إيران النووي التي تجددت الآن، أما إذا أحجم الديوان السلطاني فلن يتجاوز تأثير الدولة حدودها الجغرافية، وتترسخ فكرة عُمان “الهادئة المسالمة المحايدة“.
هي صيغة لا تتناسب مع الدول التي تريد أن يكون لها مكان تحت شمس العالم اليوم، وليس بالضرورة أن تصبح مشاكسة أو مشاغبة أو تدخل في نزاعات مع دول مجاورة، فالتوجه الذي تتبناه مسقط نموذج يحتاجه العالم، لأن الانحيازات السافرة أسهمت في زيادة التدخلات وتصاعد حدة الاستقطابات، والسياسات الهادئة مطلوبة لإطفاء نيران ووقف نزاعات وفرملة صراعات لا تقتصر تداعياتها على أطرافها المباشرين.
من الخطأ الاعتقاد أن التركيز على الاقتصاد يمثل منطقة آمنة، وأن الاشتباك مع السياسة منطقة مزعجة، فهما مرتبطان معا، وما نعرفه عن التصورات العُمانية من اعتدال يخول للسلطنة زيادة وتيرة الانخراط في القضايا الإقليمية، لأن العالم لا يسمح بالعزلة، ولا يقبل بأدوار فاعلة للمنعزلين، وعُمان ليست منعزلة، وبصماتها السياسية ظهرت في أكثر من قضية أو محك إقليمي، وتحتاج فقط تسليط الضوء عليها.
يبدو أن تسليط الضوء يأتي من الإعلام، لكن الأخير لن يتمكن من اختراق جدران الصمت ما لم تكن مسقط على علم بأهمية الانفتاح عليه، وتملك أدوات وأذرعا موضوعية تقدم رؤيتها وتعترض على ما يكتنفها من زوايا تستحق الاعتراض، ويتوقف ذلك على مدى الإرادة السياسية، التي لا تزال تراوح مكانها بين زيادة جرعة الانفتاح وبين الانعزال باعتباره المنطقة الدافئة التي يُعول عليها في استمرار الهدوء.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.