صفحات بين طياتها رائحة (1)

الكاتب: موفق سناطي
 

 

صفحات بين طياتها رائحة (1)
موفق السناطي
كنت قد قررت عدم الكتابة والغور في اعماق الماضي واستحضاره لتذوق رحيقه او الالتساع بمراره الى حين. ولكن وصول العمر الى ارذله شدني بقوة لنفض غبار الماضي عن صفحات حياتي المحفوظة عبر السنين وفسح المجال لرائحتها لتموج مع الحياة. قد ينتشي منها البعض وقد تزكم انوف آخرين. فبين طياة الصفحات كم كبير من الاحداث. وبفردها ازيح عن كاهلي ثقل السنين كي اعيشها مسطرة اشارك فيها القارئ والتي ما هي الا مرآة تعكس ضجيج وعن*فوان الشباب بكل متناقضاته وتحدياته وتمرده سواء على المجتمع او على اعراف العائلة او على قوانين الدولة وسياساتها ثم أمر بمرحلة النضوج والرجولة. وسأسردها لا على التعين والتتابع الزمني فبعد المقدمة سنكون على موعد مع الخاتمة ثم احاول ان استل صفحة صفحة لأرويها كما حدثت وبكل امانة بتفاصيلها واسرارها وبخفاياها بحلوها ومرها. لا اعتقد ان هناك انسان آخر عايش وعارك هذا الكم من الاحداث على مدى نصف قرن من الزمان.
فلقد تواجهنا انا والموت مرات عدة وحاولت يد الاغتيال ان تنال مني احيانا وصارعت الطبيعة بكل قسوتها وتجرعت تعسف السجون فمن الاحداث ما فرضته الظروف والزمن قسرا ومنها ما حشرت نفسي فيها لاكتوي بنارها وبين هذا وذاك تراكمت الصفحات واخذ الزمن يطويها في مخزون الذكريات واحداثها ما بين السياسة وسطوة السلطة وبين افكار التحرر والبحث عن الذات وبين المواقف الانسانية والدفاع عن الحق وما بين نزوات ونزق الشباب وما بين الحب والرومانسية وحصة الاسد والكم الاكبر حب المغامرة والترحال حول العالم ومعايشة الثقافات من شرقه الى غربه.
ومن المؤكد في الكثير من الاحداث لن اذكر الاسماء الحقيقية فالكثير منهم لازالوا احياء يرزقون فلا اريد الانتقاص منهم فكلنا خطاة ولكن احتراما لمشاعرهم.
وان وقعت بين ايديهم فليس القصد تذكيرهم والعودة بهم الى الماضي لانه قضى فاستميحهم عذرا. والبعض الاخر سأرويه بالاسماء الحقيقية واتركه للتاريخ ليكون شاهدا على الحدث.
لقد نشأت في عائلة قروية بسيطة نزحت الى المدينة بحثا عن الرزق وكانت طفولتي مليئة بالبراءة والضجيج. وفي الدراسة الابتدائية كان تفوقي واضحا مما ترك العنان لمخيلتي ان تصبوا الى آفاق اكبر من سني وكان للظروف السياسية التي مر بها العراق الوافر الكثير في تكوين قناعاتي. لقد دخلت الافكار التقدمية الى بيتنا والتي كانت متنفسا للطبقات الفقيرة التي تبحث امنها وامانها وكان التحرك الفكري يعايش ثورة الرابع عشر من تموز وكانت مدينتي الموصل صاخبة بهذا الانفتاح الفكري والحضاري وفي عام 1959 كان لتمرد عبدالوهاب الشواف على الدولة نقطة تحول في حياة الكثير من البشر. ولا اريد ان ادخل في تفاصيل الحدث والذي عشته لحظة بلحظة في باب المقدمة.
فشل الانقلاب التمردي لتتحول المدينة الى مسلخ بشري فجثث الق*ت*لة معلقة على اعمدة الكهرباء او مربوطة في الساحات عارية والتمثيل بها يقزز الانفس وخفت الموجة لتهب رياح الاغتيالات والقنص وبدأت الضحايا تتساقط بالعشرات يوميا مما اجبر هذه الوضع لالاف من العوائل شد رحالهم الى اماكن اخرى وكانت عائلتي احداهم. انتقلنا الى العاصمة بغداد، لتسوقني اقداري وانا في ربيع العمر للحصول على فرصة عمل في مطبعة الثقافة، وكنت في بداية انفتاحي الفكري احاول البحث عن ذاتي وفي اي مجال من مجالات الحياة سأتجه كان هوسي في مجال الفن لا يفارق مخيلتي وقررت ان ادخل معتركه ولكن حظي العاثر اوقعني في شباكه ان مطبعة الثقافة هي لسان حال الحزب الشيوعي مما زاد الطين بلة اي الاتجاهين اختار الفن ام السياسة. كان عباس محمد خلف مدير المطبعة له اسلوبه الخاص للدخول الى قلب المستمع وتثبيت افكاره في عقول الاخرين فله نكهه نوبية وبساطة صعيدية فهو مزيج من ام عراقية واب مصري في اصولها.
تشرب مفاهيم الشيوعية ودفع ثمنا لها عجز في قدمه اليسرى نتيجة التعذيب. ابتسامته لا تفارقه وان كانت بعض الاحيان مليئة بالمرارة. كانت المطبعة ملتقى لاصحاب الافكار التقدمية. وكان احتكاكي بها يوميا وانا صبي المطبعة الصغير المستمع المتلقي لكل افكارهم كان كادر المطبعة مكون من عادل عقراوي، صبحي متي، رياض الربيعي، محمود الجبوري وكان العمل في المطبعة على قدم وساق الى عام 1963 حدث ما لم يكن في الحسبان لتختل الموازين السياسية حيث قاد حزب البعث انقلابه الدموي على سلطة عبد الكريم قاسم. لتبدأ التصفية الفكرية والجسدية لكل حملة الافكار التقدمية وتم الاستيلاء على المطبعة ليفرط عقد العاملين لأبدأ العيش في دوامة الصراع الداخلي لقد تشبعت افكاري من مفاهيم عباس وتعاليم الاخرين اللذين عايشتهم بين جدران المطبعة وبين تطلعاتي الى عالم الفن الذي اعشقه. ولكن الظروف هي التي ستتحكم في مسار حياتي.
لقد كانت المحطة الثانية هي مطبعة دار الساعة والتي كانت تدار من قبل هادي المهدي وكامل الياس ثم لحق بي صبحي لينظم الى القافلة وكان صبي صغير آخر يعمل معي ممتاز صليوا وكانت المطبعة ملك للحزب الشيوعي ايضا تدار في السر في عام 1964 تم اقتحام المطبعة من قبل ازلام السلطة وكنت الوحيد المتواجد بعد اختفاء صبحي وتوارى هادي المهدي وكامل الياس عن الانظار. وبدأ التحقيق معي داخل المطبعة لساعات ونالني ما نالني من الضرب والاهانات الكثير ولم يشفع لي الا عمري الذي لم يتجاوز في حينه الثالثة عشر ولازالت احداثها عالقة في ذهني الى الان. من هنا بدأ مشواري مع الحياة في صراع مستميت من اجل البقاء وايقنت ان البقاء للاقوى فعلي ان اقبل التحدي، هذا هو المدخل الى صفحاتي لقاءنا القادم سيكون مع الخاتمة ثم نبدأ بفرد الصفحات تباعا.

 
 ..