الحوار الهاديء

اللغات واللهجات وتأصير الاطفال عليها

بدا الانسان بالتمدن منذ آلاف السنين وكانت الكهوف أولى قصور اجدانا القدامى وغالبا ما كانت أهم تلك الكهوف هي التي بقربها ينابيع الماء او القريبة منها الى الأنهار والبحار لتؤمن اُسس استمرارية الحياة ، لذا نرى في شمالنا الحبيب انتشار مئات القرى والارياف الكلدانية والتي اندثر الكثير منها لأسباب طبيعية مثل نفاذ مصادر الماء او بسبب الحروب او المجاعات او الأوبئة وغيرها من الأسباب .

ولصعوبة التنقل ووسائل التواصل بين القرى حتى القريبة فيما بينها مسافةً لكنها (كل قرية) بقيت وكأنها تعيش منعزلة عن العالم واحتفظت بخصوصياتها من الأزياء والتقاليد الاجتماعية والثقافية وكانت اللغة (اللهجة) احد اهم ما يميز تلك القرية عن بعضها، فإلى زمن ليس بعيد كنا نتمكن من تنسيب الشخص الى قريته من عدة كلمات او جمل يلفظها اذا كنّا ملمَمين باللهجات المناطقية خاصة بعد هجرة سكان تلك القرى للعمل في المدن الكبرى مثل بغداد ونينوى والبصرة وغيرها. هذا التميز بدأ بالانكماش والاختلافات أظهرت ذوباناً تدريجياً (الى حدٍّ ما) بعد ان عاد أولائك النازحون الى قراهم او اجتمعوا في بلاد الغربة حاملين معهم اللهجات الهجينة التي اخذوها من خلال اختلاطهم في فترات نموهم مع أطفال يختلفون عنهم في الألفاظ والمفردات. اما نحن الذين تجاوزنا مراحل التأثر بالمفردات من المحيط الّا ما نختاره بقناعتنا فلنا لهجتنا الأساسية التي تربينا عليها قبل النهضة التكنولوجية وتأثيرات العولمة ونعتز بتخصصنا لا بل في كثير من الأحيان نكون نتعصب اِزاء تلك اللهجة.

نشوء اللغات هو عملية تطور طبيعية تحدث على مر الزمن نتيجة لتفاعلات بين مجتمعات البشر وتطورهم الثقافي والاجتماعي. يُعتقد بان في المرحلة الأولى، ظهرت لغات بسيطة للتواصل بين أفراد المجتمعات البدائية، كانت هذه اللغات تعتمد بشكل رئيسي على الإشارات والأصوات للتعبير عن الاحتياجات والمشاعر الأساسية، وبعدها تطورت الى ان وصلت الينا كما هي اليوم.

لهجة الأطفال ودورهم في استحداث مفردات والألقاب:

قبل عدة سنين كان ابن ابن اختي بعمر اربع او خمس سنوات وكنت امازحه خلال جلسة عائلية فقلت له : قل انا القوشي (بلغتنا الكلدانية : مور آنا القوشنايا – فكان يرد ويقول: آنا القوشيانا) حسب امكانياته اللغوية يتلفظ بطريقته (نايا ويلفظها : يانا) فكانت تظهر بشكل طريف ومضحك. فقلت في نفسي وقتها: لو كانت الواقعة حصلت قبل سنين امام احد أبناء عائلة كادو او اودو الالقوشيتين (المشهورتين في المزاح واطلاق الألقاب وترتيب المقالب) كان يمكن ان يستنبطوا منها كنية لعائلة الطفل او ربما استحدثوا كلمة جديدة .  والامثلة كثيرة في الفاظ الأطفال التي يغيرون الكلمة الاصلية لتكون سهلة اللفظ، وقد يكون أولياء أمور الأطفال مسؤولون عن تثبيت تلك الالفاظ الغريبة لتسهيل الكلمة للطفل فيحورون الكلمة او يكررونها على خطئها للطفل مثل: الخبز: تَتّا او مَمّا . للطفل الصغير : نونو . والأطفال مسؤولون من تسميات كثيرة محورة من الاسم الأصلي مثل: يوسف: سيپي، سيبا، سيپو، سپانا. او جرجيس: جَجّو، چيچو، گَگو، دَدّو. شمّي راما: سميراميس، شَمّي، سميرة، مَمّي ) وغيرها كثيرة نلاحظ كم هي الكلمات المحورة من قبل أطفالنا سهلة التلفظ فتضاف تلك الكلمات الى قاموسنا اللغوي. وهذه موجودة في كل البلدات والقرى الكلدانية وغيرها. وهنالك كلمات أخرى تتميز كل قرية بواحدة او اكثر منها مثل: البيت: بيثا، بيتا، بيسا، بيّا.

موقف آخر يميز قرية المتكلم من كلمة واحدة، حدث وان كنت في زيارة الى بيت احد المؤمنين في سان هوزيه كشماس بصحبة المطران المتقاعد (حاليا) مار سرهد جمو والأب الفاضل يوشيا صنا فسألَت ام البيت عن ما يريد كلٌّ منا ان يشرب فكان جواب المطران – خَصّا مّايا (مع تعميق الميم حسب لفض التلكيفيين)، اما الاب الفاضل فقال – خصّا مِيّا (حسب لفض اهل اراذن) اما انا فقلت – خا قِصّا مايي (حسب لفضنا في القوش) .

وهنا اريد التركيز على قوة الأطفال ودورهم في اضافة كلمات ومفردات جديدة في عالم اللغة (بل وحتى ظهور لهجات مختلفة وربما لغات على مر العصور)، حسب قدراتهم المحدودة ومعرفتهم بالمفردات والقواعد اللغوية وامكانية نطقها وموقف البالغين منها فيشكلون مفردة جديدة عندما يحاولون استخدام ميلهم الفطري في تجربة كل كلمة او اسم بإمكانياتهم الناشئة بعفوية ودون قيود فيعبّرون عن أفكارهم وعواطفهم بشكل أكثر دقة فتؤدي الى إنشاء كلمات جديدة ، وهذه الإضافات او التغييرات تتراكم عبر الأجيال رغم بساطتها في البداية فتنشئ كلمات التي ستتميز كلهجة خاصة في ذلك المحيط.  بهذا يقوم الطفل بإثراء اللغة و تعزيز الارتباط الأعمق بين اللغة و القروية او لهجة البلدة بصورة اوسع فيصطبغ بصبغها.

ونحن كآباء ومعلمين ورعاة من واجبنا ان نهتم بهذا المنتوج والابداع في التعامل معه أكثر من اعتباره هفوة عابرة ومضحكة في كثير من الاحيان علينا تشجيعه ودمجه في مفرداتنا في المحادثات اليومية باعتباره براعة فكرية مزدهرة ليؤكد جهودهم اللغوية من كونها أداة ديناميكية ومتطورة، خاصة في هذا العصر الذي تنوعت به إمكانيات تداخل اللغات وانتشارها عبر وسائل التواصل في نشر كل ما هو جديد.

وفي الختام (كمدرس اللغة لغير الناطقين بها) اريد ان اربط دور الطفل في تطور اللغة بشكل محدود جداً  قد يلعبه متعلمي اللغة كلغة ثانية او أكثر من البالغين حيث قد يمرون في نفس المراحل التي يمر بها الطفل من اللفظ والتصريف والقواعد والمرادفات وخصوصية كل كلمة، وقد تتسرب الى اللغة الاصلية وتلعب نفس الدور الذي لعبه الطفل في اضافة واثراء اللغة الاصلية، حيث يلاقي متعلم اللغة الغير لغة الام سيجد صعوبات في تلفظ الاحرف والحركات القواعدية ما يجعله يقرؤها بطريقة تختلف عن الاصلية.

ولو أبحرنا ابعد مما جاء أعلاه (باعتبار البشرية ابتدأت بعائلة ذات لغة واحدة – او ربما نشأت اللغة باستقلالية المجاميع عن بعضها البعض)  ، ومنها تشعبت اللغات ولهجات أخرى الى عدد لا يمكن حصره اليوم، يمكن ان ننسب الموضوع الى تلك التأثيرات التي اجتهدت بها كل مجموعة حسب بيئتها وطبيعتها الجغرافية واهتماماتها وعددها وطريقة تعاملها مع المتغيرات وتطور علاقتها مع المجاميع الأخرى ، فكما ذكرت في بداية المقال لعب صعوبة التنقل ووسائل الاتصال دورا كبيرا في التفرد والتخصص وابتعاد اللغات عن بعضها عبر الاف السنين.

الشماس الإنجيلي

قيس سيپي

كاليفورنيا

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!